سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أعدَّ السير “هارولد نيكولسون”، الدبلوماسي البريطاني الشهير في أوائل القرن العشرين، قائمة تضم ست عشرة من الصفات التي تُعرف باسم (اختبار نيكولسون)، والتي ينبغي لأي دبلوماسي غربي مثالي أن يتحلى بها وهي: الصدق، والدقة، والهدوء، والصبر، والمزاج الجيد، والتواضع، والولاء، والذكاء، والمعرفة، والفطنة، والحكمة، وكرم الضيافة، والجاذبية، والمثابرة، والشجاعة، واللباقة.
ورغم كون هذه القائمة مفيدة جدًا، فإنه من الصعب العثور على كل هذه الصفات الرائعة في شخص واحد. لذا، نجد أن “شيفشانكار مينون”، وزير الخارجية الهندي السابق ومستشار الأمن القومي، عند إلقاء المحاضرات على الدبلوماسيين في ضوء هذا الاختبار، قد استفاد من الصفات السبع الأولى، وهي: (الصدق، والدقة، والهدوء، والصبر، والمزاج الجيد، والتواضع، والولاء) وذلك بجانب صفات أخرى، مثل: المصداقية، والتعاطف، والسمعة الشخصية العالية، ومعرفة الجميع. ويذهب واحد من أحدث الكتب التي تناولت جذور السياسة الخارجية للهند، والتي ركزت على طبيعة عملية صناعتها والتحولات التي طرأت عليها؛ وهو كتاب (صناعة الدبلوماسية الهندية: نقد للمركزية الأوروبية)، لـ”ديب كاي داتا راي”، إلى تتبع الجذور غير الغربية لسياسة خارجية هندية مستقلة سعى إليها مؤلفه منذ عام 1947.
حصل “داتا راي” على دراسته الأكاديمية بمدرسة “جيندال”، وتخصص في مجال الشؤون الدولية، وعمل في وزارة الشؤون الخارجية الهندية (MEA). ودرس – أيضًا – في كالكوتا، وهونولولو بسنغافورة، والتحق بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS)، وكذلك كلية “كينجز” في لندن، وفي المملكة المتحدة حصل “داتا راي” على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ساسكس.
وانطلاقًا من مقابلاته مع عدد من المسؤولين الهنود مثل رئيس الوزراء، وعدد من الوزراء، ووزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، وما يقرب من 70 موظفًا مدنيًا، معظمهم من الدبلوماسيين على كافة المستويات، خلال 13 شهرًا قضاها في شركة طيران الشرق الأوسط، قام “داتا راي” بدراسة وتتبع أداء وزارة الخارجية الهندية التي أرجعها في ضوء دراسته إلى البريطانيين، الذين أنشؤوها عام 1783 لمواصلة العمل مع القوى الأوروبية الأجنبية. لكن في الوقت الحالي، فإن عدد الدبلوماسيين في الشرق الأوسط وإفريقيا يقل عن 800 موظف.
بعد الاستقلال، تحول رئيس الوزراء الهندي “جواهر لال نهرو” في البداية إلى الاعتماد على طبقة الأمراء والحكام وأبناء الأسرة الملكية الذين تمَّ تجنيدهم في السلك الدبلوماسي من أجل “إعادة التأهيل النفسي والسياسي للحكام السابقين”. لكن بحلول عام 1955، أُصِيبَ “نهرو” بخيبة أمل من أداء أفراد العائلة المالكة، فأمر بإرسالهم إلى عواصم غير مهمة. وقد اعتمد “نهرو” – أيضًا – على أفراد عائلته، مثل شقيقته “فيجايا لاكشمي بانديت” وأبناء أخيه “ر. نهرو” و”ب. نهرو” اللذَين كانا يعملان ضابطين في المخابرات الهندية، وتم تعيينهما في مناصب دبلوماسية هامة.
ولم يكن “نهرو”، وفقًا لـ”داتا راي”، منبهرًا كثيراً بالموظفين الذين استخدمهم في مجال تصميم السياسة الخارجية، فكان هو نفسه مهندس السياسة الخارجية الهندية بعد الاستقلال. ففي العقود الأولى، كان الخدمة في الشؤون الخارجية للهند هي التفضيل الأول للمرشحين الذين حصلوا على أعلى المناصب في الامتحانات التنافسية المركزية بالهند. لكن بعد عام 1976، توقف أولئك الذين تفوقوا في الامتحانات وتصدروا فيها عن اختيار الخدمة في السلك الدبلوماسي، وآثروا الانضمام إلى الخدمة في السلك الإداري، أو دائرة الشرطة الهندية، أو دائرة الإيرادات الهندية (المالية).
ويلاحظ المؤلف أن درجة الإقبال على الخدمة في سلك الدبلوماسية الهندية قد تراجعت كثيرًا خلال العقود القليلة الماضية. وبدأت عملية التراجع تلك في عام 1979 عندما سُمِح للمرشحين باجتياز الاختبارات التنافسية من خلال اللغات المحلية والإقليمية بدلاً من اللغة الإنجليزية. وبعد عام 1992، زاد عدد المرشحين الذين ينتمون إلى فئة “المقاعد المحجوزة”؛ وهو ما جعل الخدمة الدبلوماسية أكثر تمثيلاً، لكن في الوقت نفسه لوحظ تراجع في كفاءة العاملين. ولعقود من الزمان، انضم المرشحون إليها لتحقيق المكانة المتميزة.
ومع أن بعض هذه التوجهات تظهر بوضوح في السلك الدبلوماسي الباكستاني خلال العقود الأربعة الأخيرة، تبقى هناك حقيقة مثيرة للاهتمام وهي أن الهند شهدت وصول ثلاث نساء لمنصب وزير خارجية خلال العقدين الأخيرين، وهن: “شوكيلا إيير” (2001-2002)، و”نيروباما راو” (2009-2011)، وسوجاثا سينغ (2013-2015). وبالمقارنة، فإن وزيرة خارجية باكستان الحالية هي أول امرأة تشغل هذا المنصب.
وينظر “داتا راي” إلى الدكتور “مانموهان سينغ”، وهو اقتصادي بارز ترشح من قبل حزب المؤتمر عام 2004، باعتباره نموذجًا لتوجيه السياسة الخارجية الهندية نحو الدبلوماسية الاقتصادية. رغم أن “سينغ” نفسه يشير إلى “نهرو” باعتباره مرجعية له في هذه الخطوة المهمة، ويقول “سينغ” إن “السياسات الخارجية ليست مجرد صراعات فارغة على رقعة الشطرنج؛ ففي نهاية المطاف، تعتبر السياسة الخارجية نتيجة للسياسة الاقتصادية”.
ويتناول الكتاب في أهم أجزائه ما يصفه بـ”لحظة حاسمة في الدبلوماسية الهندية الحديثة”، ويقصد بها تصويت الهند ضد إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2005، وتوقيع الهند على اتفاقية نووية مدنية مع الولايات المتحدة في عام 2007. إذ صوتت الهند ضد إيران لتعلن لواشنطن أنها على استعداد للتقدم. لكنها تواصل الحفاظ على علاقات جيدة مع إيران من خلال التفاوض على حلول بديلة للالتفاف على العقوبات الأميركية. وأهم من ذلك، أن “نيو دلهي” سعت إلى توقيع اتفاقية رائدة مع واشنطن وأصبحت جزءًا من سلسلة القيمة العالمية لاقتصاد المعرفة.
ومثلما أصبحت الصين مصنعًا لتصنيع العالم، حاولت الهند تكرار هذا النموذج عن طريق اختيار التكنولوجيا بدلاً من التصنيع؛ ففي حساباتها الاستراتيجية، كان هدف الهند أن تصبح مركزًا للبحث والتطوير (R & D)، فقد أتاح الاتفاق النووي الوصول إلى التقنيات التي تمَّ رفضها في السابق والتي دعمت اقتصاد المعرفة الناشئ في الهند.
وكان رئيس الوزراء قد ارتكز في رؤيته على انخفاض تكاليف العمالة في التكنولوجيا، إذ أصبحت الهند قادرة على تقويض الغرب، والأهم أن التكنولوجيا، مقارنة بالسلع المصنعة، ستكون أكثر قدرة على مقاومة تقلبات السوق، وهو ما يمكن “نيودلهي” من انتشال الملايين من الفقر.
تكمن الفرضية الرئيسة للكتاب في أن جوهر الممارسة الدبلوماسية الهندية موجود في الملحمة الوطنية، “ماهابهاراتا”، التي تعود إلى ما قبل المغول وحتى الوقت الراهن. فقد ألهمت هذه الملحمة مفهوم “غاندي” حول “ساتياغراها”، أو إنهاء العنف بالكفاح السلمي. ويعتبر المؤلف أن تأثير “غاندي” على “نهرو” كان كفيلاً بأن تقوم “ساتياغراها” بتشكيل دبلوماسية أمة ما بعد الاستعمار الجديدة.
لكن كتاب “داتا راي” ذات الطابع الأكاديمي، غير مقنع عندما يتعلق الأمر بمنطلقه الرئيسي حول “ساتياغراها” كونها العامل الرئيس للدبلوماسية الهندية. فمفهوم “غاندي” كونه “رسول اللاعنف”، يعتبر هو الآخر مشكلة، لأنه تخلى عن وصف “اللاعنف” خلال “حرب كشمير” عام 1947 أي قبل بضعة أشهر من وفاته. والمثير هنا – أيضًا – أن “غاندي” الذي كان فخورًا بنصيحته للبريطانيين والفرنسيين والتشيكيين والبولنديين واليهود بإلقاء أسلحتهم والاستسلام لهتلر خلال الحرب العالمية الثانية، تجاهل هو نفسه، نصيحة “اللاعنف” خلال حرب كشمير في 1947.
وفي مقال حول “غاندي” بعنوان (مهاتما غاندي .. يوغي وكوميسار)، نُشِر في صحيفة “صنداي تايمز” في عام 1969 بمناسبة عيد الذكرى المئوية لميلاده، كتب “آرثر كويستلر”، وهو مؤلف ومفكر بريطاني من أصل مجري، بصراحة عن هذا الجانب المتناقض بشكل خاص خلال حرب كشمير، وعبر عن قلقه قائلاً “كما حدث في مناسبات حرجة بوقت سابق، أي عندما اصطدم المثل الأعلى بالواقع الصعب، فقد حلت الواقعية اليوم واستسلم يوغي للأمر الواقع”. وكتب “كويستلر” – كذلك – أن الصراعات المسلحة مع باكستان والصين أنتجت فاشيات من الشوفينية والهستيريا الجماعية التي أشارت إلى أن الرسالة السلمية لـ”مهاتما” لم تترك أي آثار ملموسة. وعلاوة على ذلك، فإن القمع الوحشي للكشميريين، والعنف في أقاليم البنجاب، وآسام، ونغالاند، فضلاً عن التدخل العسكري في شرق باكستان عام 1971 وسريلانكا في 1987، وضم إقليم سيكيم عام 1975، يظهر بوضوح أن اللاعنف أو “ساتياغراها” لا يُعدُّ حجر الأساس للهنود المحليين أو حتى لسياستهم الخارجية.
أخيرًا، تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يوثق لتاريخ التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية الهندية، فضلاً عن كونه يوفر منظورًا أشمل لفهم السياق الإقليمي والعالمي لحركة السياسة الخارجية الهندية التي انتقلت من الرؤية التقليدية المستمدة من منطق “اللاعنف” لدى “نهرو”، إلى منطق الأمر الواقع الذي فرضته مقتضيات السياسة الدولية في الوقت الراهن.
معلومات الكتاب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر