كيف تؤثر الوسائل الإعلامية على خيارات الناخب الأميركي؟
التاريخ والوقت :
الجمعة, 28 أكتوبر 2016
منصور العتيبي
تزايد الاهتمام في الآونة الأخيرة بشكل كبير من قبل الباحثين والمتخصصين في مجال الاتصال حول العلاقة بين وسائل الإعلام الامريكية وتأثيراتها المحتملة على الناخب الأمريكي. لاشك بأن وسائل الاعلام تتيح القنوات التواصلية اللازمة بين المرشح والناخب بحيث يكتسب الناخب المعرفة السياسية اللازمة حول بعض المرشحين ومدى أهليتهم للمنصب الرئاسي. فالرسائل الاعلامية والمصممة بعناية كالقصص والتقارير الإخبارية السياسية وغيرها حول المرشحين تلعب دورا ( محتملا ) في إقناع الناخب خلال الحملات الانتخابية. ومع ذلك، فإن الأسئلة الهامة التي يتعين علينا معالجتها هنا هو كيف لوسائل الإعلام أن تؤثر في آراء الجماهير تجاه قراراتهم وخياراتهم في التصويت؟ وإلى أي مدى قد تمارس وسائل الإعلام مثل هذا التأثير؟ وللرد على هذه الأسئلة نحتاج للاطلاع على اراء الخبراء والمختصين في مجال الاعلام ودراسات الاتصال ومعرفة مدى الاتفاق والاختلاف بينهم حول شكل التأثير وعمقه. على مر السنين قامت وسائل الإعلام بمجموعة متنوعة من الوظائف في السباقات الرئاسية السابقة. وذلك من خلال نشر التعليقات الإخبارية حول المرشحين، و فرص فوزهم ، فضلا عن تحليل نتائج الانتخابات التمهيدية. مثل هذه الرسائل الاتصالية كما يرى بعض المختصين تعمل على التأثير في اهتمام الناخب وترتيب أولوياته في محاولة لبناء مصداقية وموثوقية للمرشح في ذهن الناخب من خلال توفير القصص الإيجابية عنه. أو العكس تماما فقد تعمد وسائل الاعلام على اظهار المرشح بمظهر الشخص الذي لا يمكن الوثوق به للمنصب الرئاسي. حيث تعتبر (الموثوقية ) هي حجر الزاوية والمحرك الرئيسي للناخب الأمريكي. ولهذا السبب يحرص المرشحون في حملاتهم الانتخابية على الظهور بالمظهر الواثق الإيجابي في مختلف وسائل الاعلام. ومن اجل ذلك تلجأ الحملات الانتخابية لاستخدام الإعلانات المدفوعة في وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية وفي الاعلام الجديد كجزء لا يتجزأ من تصميم حملاتهم الانتخابية. وفي نفس السياق تلعب أيضا بعض التغطيات الصحفية المتحيزة لمرشح معين دورا مشابها لدور الاعانات المدفوعة من ناحية التأثير ورسم صورة معينة عن المرشح . فهناك قنوات إعلامية وصحف لها تحيزات لحزب دون أخر ويتضح هذا التحيز في افتتاحيات تلك الصحف واستراتيجيتها الإخبارية في العناوين والصور. مثل هذه التغطيات الاعلامية من شأنها أن تهيئ للناخب الأمريكي المقدرة على تفسير وجهات النظر السياسية بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام تمارس تأثيرها المستمر على الآراء الا أنه قد لا يكون من السهل قياس وبشكل دقيق مدى تأثيرها المباشر على الانتخابات وقرارات التصويت. وقد أشارت الى ذلك دوريس جرابر أستاذة الاعلام في جامعة الينوي في كتابها ( الاعلام والسياسية الامريكية ) حينما ذكرت انه لا يمكن لنا أن نفهم بطريقة واحدة تأثيرات وسائل الإعلام على وجهات النظر المختلفة وبخاصة فيما يتعلق بالانتخابات. كما اشارت في كتابها الى التأثير الواضح لدور وسائل الاعلام فيما يعرف بنظرية ترتيب الأولويات ( Agenda Setting) . حيث تستند النظرية “ على فكرة وجود علاقة بين القضايا التي توليها وسائل الاعلام مزيدا من الاهتمام وبين تزايد اهتمام الجماهير بتلك القضايا “ . وبطبيعة الحال فهناك فرق كبير بين الاهتمام وبين التأثير. فنظرية ترتيب الأولويات تشير بوضوح الى أن التغطية الإعلامية البارزة لقضية ما ستجذب انتباه الكثير من الجماهير، لكنها في ذات الوقت لا تضمن أن تلك الجماهير ستتنازل عن آرائها السابقة والصورة الذهنية التي لديها حول قضية ما او مرشح معين. هناك أيضا أسئلة تحتاج الى مزيد البحث والتقصي حول الكيفية وطريقة معالجة الجماهير للرسائل التي اختارت أن تتلقاها من وسائل الإعلام. حيث تلعب المدركات الحسية والاستجابات العاطفية والايديولوجيا القائمة لدى الناخب دورا كبيرا في استقبال الرسالة واستيعابها وقبولها او رفضها. تشير نظرية (Selectivity theory ) لذلك عندما يختار الأفراد أن يتعرضوا للرسائل الإعلامية ويتلقوا معلومات جديدة فإنها محاولة منهم لتجميع المعلومات ومقارنتها مع المعتقدات والقيم والمعلومات القائمة لديهم. فعلى سبيل المثال، في امريكا الناخب الجمهوري يعتقد دائما أن المرشح الجمهوري للرئاسة سوف يتبع سياسات الحزب الجمهوري ويلبي قيمه وتوجهاته. فعندما يتلقى هذا الناخب رسائل إعلامية ومعلومات معينة من وسائل الاعلام حول مرشحه فأنها مباشرة ستخضع للفلترة من قبل مدركاته الحسية واستجاباته العاطفية والايديولوجيا القائمة لديه. ومن خلالها سيحدد موقفه من تلك القضية او ذلك الخبر عن مرشحه الرئاسي. وبطبيعة الحال الأمر ذاته ينطبق على الناخب من الحزب الديموقراطي.
النقطة التي أود التأكيد عليها هنا أن الغالبية العظمى من الناخبين قد تتلقى رسائل إعلامية مماثلة عن المرشحين للرئاسة ولكنها قد تؤثر عليهم بطرق مختلفة. لهذا لن يحدث تغييرا في استجابة الناخب نحو مرشحه الا اذا تغيرت مدركاته واستجاباته. هناك دراسة أمريكية اجريت للتحقق من التأثير المحتمل لأخبار التلفزيون على المعرفة السياسية وسلوك الناخبين من خلال دراسة البيانات في انتخابات مجلس الشيوخ الأمريكي. حيث أظهرت الدراسة أن استخدام التلفزيون للحصول على الأخبار والمعلومات حول المرشحين يرتبط بشكل كبير مع المعرفة حول المرشحين والمواقف السابقة تجاههم. اذن فالتعرض لرسائل إعلامية معينه وتفسيرها يختلف من شخص الى اخر، ويمكن أن تولد تأثيرات مختلفة اثناء الحملات الانتخابية. وعلى الرغم من عدم وجود دليل كاف على أن الصور التلفزيونية لها تأثير مباشر على ردود فعل الناخب في عملية التصويت. الا ان جيس دروك ذكر في كتابه ( قوة الصور التلفزيونية ) أن المناظرة التي اجريت في عام 1960م بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون قد تعطينا فكرة عن مدى تأثير الصور التلفزيونية المحتمل على سلوك الناخب. فقد كانت تلك أول مناظرات رئاسية متلفزة في التاريخ الأميركي وكانت تبث اذاعيا وتلفزيونيا في نفس الوقت . وقد أظهرت النتائج أن كثيرا من المشاهدين الذين تابعوا المناظرة عبر التلفزيون يعتقدون ان كينيدي قد انتصر في المناظرة. بينما المستمعين الذين لم يروا المرشحين فضلوا نيكسون. وهذا يعطينا دلاله واضحة أن التلفزيون قد مكن كينيدي بأن يخرج بصورة أفضل من نيكسون – بحسب اراء المشاهدين – وذلك بسبب عامل الصورة مما جعله متفوقا على الرغم من ان كينيدي لم يكن بالضرورة أفضل في بعض القضايا المطروحة في المناظرة. أما في الوقت الحالي وفي السباق الرئاسي بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب فقد أظهرت استطلاعات الرأي بعد المناظرة الثانية التي جرت في أكتوبر أن كلينتون أثبتت تفوقها . ويرجع بعض المتخصصين ذلك الى عامل الصورة وحركات الجسد التي صدرت من قبل المرشحين اثناء الناظرة. فقد ظهرت هيلاري بمظهر الواثق الهادي ونجحت في استفزاز ترامب إلى حد قيامه بانفعالات و تعبيرات جسدية لا تعكس الصورة الإيجابية لمرشح محتمل للمنصب الرئاسي. في هذا السياق، ومن زاوية أخرى لدور التلفزيون والبرامج الحوارية في تقديم المرشحين للجمهور على نطاق واسع ما حدث عام 1992م . عندما رشح الملياردير روس بيرو نفسه كمرشح مستقل للمنافسة في السباق الرئاسي. وعلى الرغم من شهرته كرجل اعمال الا ان الجماهير لم تعرفه على نطاق واسع الا بعد ظهوره في قناة سي إن إن في برنامج لاري كينغ لايف . في حين بيل كلينتون لم يكن معروف سوى على نطاق ولايته كحاكم لولاية اركنساس ولم تظهر فرصه بجدية في السباق الرئاسي الا بعد ظهوره الأول مع زوجته هيلاري في حلقة خاصة في برنامج ( 60 دقيقة ) على قناة سي بي اس.
ويرى بعض الخبراء أن تأثير وسائل الإعلام ظهر بشكل واضح خلال العقود الثلاثة الماضية في ابراز المرشحين المحتملين بالفور في الانتخابات الامريكية. فتاريخيا لم يأت أي مرشح مستقل خارج الحزبين المسيطرين الديموقراطي والجمهوري على مقربة من الفوز بالانتخابات. وهذا ما جعل روس بيرو المرشح المستقل يعلن انسحابه من السباق الرئاسي عام 1992 برغم تفوقه في استطلاعات الرأي الأولية. فاغلب وسائل الاعلام المؤثرة مسيطر عليها من قبل الحزبين الجمهوري و الديموقراطي حيث يحصلان على النصيب الأكبر في التغطيات الإخبارية. واحدة من أهم التأثيرات لوسائل الإعلام على الناخب لا تكمن في الاراء المتغيرة للناخبين فقط، بل في تشكيل وتعزيز الميول والتأثير على الاختيار المبدئي للمرشحين. وهذا بالضبط ما حصل عندما رسمت الصحافة من صورة جيمي كارتر باعتباره الفائز المحتمل خلال الانتخابات التمهيدية عام 1976م. وفي نفس الوقت تجاهلت الصحافة معظم خصومه في تغطياتها الإخبارية. وبحسب ما ذكرته دوريس جرابر في كتابها ( الاعلام والسياسية الامريكية ) أن ملايين الناخبين قد لا يرغبون بالإدلاء بأصواتهم لكارتر ولكنه كان مرشح وسائل الاعلام والتي روجت له من خلال الإقناع باعتباره الفائز المحتمل. وقد تلعب في الوقت الحالي استطلاعات الرأي هذا الدور في الانتخابات الجارية. حيث تعطي تلك الاستطلاعات تقدم لهيلاري في اغلب الولايات مما جعل دونالد ترامب يشكك في صحة تلك الاستطلاعات ويصفها بالمزيفة. اشار دياز انديانا في كتابه ( المنافسة السياسية عندما تخلق وسائل الاعلام صورة المرشحين) لمشكلة التحيز الإعلامي في التأثير على المصوتين. فعندما يعاني المصوتون من التحيز الواضح لوسائل الاعلام فإنهم يلجؤون الى مدركاتهم الحسية والأيديولوجيا القائمة لديهم في حكمهم على الرسالة الاعلامية. ومن ناحية أخرى، تم التأكيد في الكتاب على أن الاعتدال في الحكم على المرشحين من قبل الناخبين وإصدار أحكام أكثر توازنا يمكن أن يتحقق عندما يقرر الناخبون الحصول على المعلومات من مصادر مختلفة، وليس من مصدر واحد قد يكون متحيز.
في الحقيقة قد تذهب وسائل الاعلام أحيانا الى ابعد من مجرد التحيز الى ما يعرف بالتغطية السلبية كاستراتيجية تهدف لتشويه سمعة مرشح ما في محاولة منها للتأثير على رأي الناخب. فقد تلجأ وسيلة إعلامية معينة للكشف عن تفاصيل فضيحة سياسية تخص مرشح معين تماما كما حصل مع سيناتور ولاية كولورادو غاري هارت في السباق الرئاسي عام 1984م . و برغم من حظوظه القوية آنذاك للفوز بالانتخابات الا انه خرج من السباق الرئاسي بعد نشر وسائل الإعلام عن فضيحته الجنسية مع الممثلة وعارضة الأزياء، دونا رايس. مثل هذه التغطيات السلبية هي ما يخشاه المرشحون للرئاسة وهو ما دفع ترامب مؤخرا لان يصرح بذلك في خطابه في بلدة جيتيسبرج التاريخية في إطار حملته الانتخابية عندما قال : ” وسائل الاعلام تحاول قمعي وتغطياتها لحملتي الانتخابية تفتقر للعدالة ” . وبحسب مجلة موذر جونز الامريكية المتخصصة في التقارير السياسية تشير الاحصائيات أن ترامب يحظى بتغطية سلبية من قبل وسائل الاعلام أكثر من هيلاري. حيث أظهرت الاحصائيات أن ترامب يتعرض للتغطية السلبية في الاخبار بنسبة ( 75% ) بينما تتعرض هيلاري نسبة ( 56 % ) من التغطية السلبية. لا يزال الجدل قائما بين علماء الاتصال حول شكل التأثير الذي قد تحدثه وسائل الإعلام على قرارات المصوتين. حيث يرى بعضهم أن تعرض الناخب للرسالة الاعلامية ليست دليلا كافيا على ان تلك الرسالة قد أحدثت تأثير في قراره الانتخابي. بينما يرى اخرون ان التعرض للرسالة يحدث تغييرا في المدخلات مما يحدث تغييرا في المخرجات وفي قرارات تصويتهم. بينما يرى اخرون أن الناخب يفرز الرسائل بناء على مدركاته الحسية واستجاباته العاطفية والايديولوجيا القائمة لديه. والتي من خلالها يتم تحديد مجموعة فرعية من المعلومات تكون مسئولة عن عمق المعالجة التكاملية للرسائل الإعلامية التي يتلقاها. حيث تحدث في هذه المرحلة اتصالات عقلية بين المعلومات الجديدة التي تم تلقيها من وسائل الإعلام وبين التي تم تخزينها مسبقا في الذاكرة. وعلى الرغم من مساهمة تلك التفسيرات في محاولة فمهنا لمدى تأثير الرسائل على العملية الانتخابية وقرارات التصويت. الا أن السياسين يعتقدون اعتقادا راسخا في تأثير ما يقوله الاعلام عنهم، بل أنه سيكون لها تأثيرا كبيرا على قدرتهم على حشد الدعم السياسي لهم. في واقع الأمر ففي موضوع الانتخابات وقرارات التصويت فإن الناخبين قد لا يعتقدون بالضرورة في حتمية الرسالة الإعلامية وتأثيرها عليهم او ما يعرف في نظريات الاتصال بنظرية الطلقة السحرية (Magic Bullet Theory ( . لذا قد يميل سلوك الناخبين بشكل ما الى التعرض الانتقائي والذي تشير له نظرية الانتقائية (Selectivity theory ) فاستخدام وسائل الإعلام يخضع للاعتبارات الفردية والسمات الشخصية وللظروف الذاتية. بحيث يمكن للناخبين الاستماع إلى ما يريدون الاستماع اليه أو تصديق ما يريدون تصديقه.
موضوع وسائل الاعلام وتأثيرها في الانتخابات وقرارات التصويت كما رأينا هي مسألة معقدة للغاية. ومحاولات إقناع الناخبين عن طريق وسائل الإعلام يمكن أن تكون فعالة في بعض الحالات، ولكن ليس في كل الحالات . حيث لم تثبت معظم الدراسات المتعلقة بالآثار المحتملة لوسائل الإعلام عن أدلة قطعية محددة بشأن العلاقة بين المتغيرين التعرض للوسيلة الإعلامية والتأثر في عملية التصويت. ومما زاد الأمر تعقيدا أكثر هو دخول وسائل الاعلام الاجتماعية كأدوات مهمة في السباق الرئاسي في السنوات الأخيرة. وقد أشار الى ذلك بوضوح جيم ماسينا مدير حملة أوباما الانتخابية لعام 2012م عندما قال : ” كان لأدوات الاعلام الجديدة دورا بارزا في صياغة توجهات الجمهور بشكل اسرع مما كانت عليه في انتخابات 2008 م ” . في النهاية فإن وسائل الاعلام وتأثيراتها على الناخب الأمريكي تحتاج للكثير من البحث والتقصي . لانها عملية خاضعة لعوامل كثيرة ومتغيرة. خصوصا وان المواطن الأمريكي بحسب الاحصائيات يقضي معدل 20 دقيقة أسبوعيا في متابعة الاخبار السياسية. بالإضافة الى ان عدد المسجلين للتصويت لا يمثل نسبة كبيرة من عدد السكان. واذا ما علمنا كذلك أن استطلاعات الرأي الأخيرة تشير الى تفوق هيلاري بفارق بسيط عن ترامب. إضافة الى المؤثرات السلوكية في التوجه السياسي لدى الشعب الأمريكي كالقيم الأيديولوجية والأسرة وتأثير الأصدقاء. كل هذه العوامل تجعلنا فعلا امام احتمالات مفتوحة للانتخابات الامريكية الجارية و ما علينا سوى الانتظار لمعرفة من سينتصر في نوفمبر.
باحث ومدرب في الاتصال والإعلام*
@MansourAotaibi