سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يعتبر اسم “فتح الله كولن” من أكثر الأسماء المثيرة للجدل في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، نظرًا لما يرتبط به من وقائع وأحداث، وما يُتهم به من قضايا وبلاغات تصل إلى حدِّ التورط في انقلابات، بالإضافة إلى ملايين من المؤيدين والمريدين، في مقابل جهاز إعلامي لدولة بأسرها تصرُّ على شيطنته ولا تتوانى عن الإساءة إليه، وعلى رأس هذا الجهاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل شخصي.
حالة العداء بين الرجلين – كولن وأردوغان – يمكن أن نصفها بأنها واحدة من المظاهر الفارقة والمعبرة عن تقلبات السياسة في التاريخ الحديث، فكلا الرجلين كانت بينهما تفاهمات ومواءمات ترقى إلى درجة التحالف، وإن كان “كولن” يصرُّ على عدم وصف ما كان بين حركة “الخدمة” وجماعة أردوغان بـ”التحالف”. وما إن قضى أردوغان من “كولن” وأنصاره وطرًا، حتى انقلب عليهم ونصبهم عدوًا لدودًاله، وهو ما سبق أن صرَّح به أردوغان لأحد مرافقيه بعد أول لقاء جمعه مع “كولن” قبل أكثر من عقدين.
حالة الجدل الكبيرة التي تحيط باسم فتح الله كولن، تستدعي أن نحاول الغوص في أعماق الرجل، واستقراء أفكاره وتصوراته وآرائه في كل القضايا التي تؤثر في المنطقة، لا في بلده تركيا فحسب؛ ولذلك، كانت لنا هذه الوقفة وذلك الإصدار. إنها محاولة للوقوف على ما يمكن أن نصفه بـ”رؤية كولن” الخاصة بأحداث حاسمة، ومقترحاته لمشكلات تعانيها بلده والمنطقة بأسرها، كما نحاول أن نكتشف سرَّ التحول الكبير في العلاقة بينه وبين الرئيس التركي، معتمدين في ذلك على مجموعة من الحوارات التي أجريت معه، وكذلك على البيانات التي يصدرها من حين لآخر تعبيرًا عن موقفه من حدثٍ ما، بالإضافة إلى مقالاته التي يكتبها ويشرح فيها تصوراته.
سعينا في هذه المحاولة ألا نغفل قضية من القضايا التي أُقحم فيها اسم “كولن”، وألا ننسى الاهتمام بكل تصوراته وآرائه ومقترحاته لأحداث أثرت وتؤثر في تركيا وفي المنطقة. حاولنا أن نكشف للقراء كل ما قد يجهلونه عن الرجل، وحرصنا على إزالة اللبس والغموض الذي قد يكتنف بعض جوانب شخصيته؛ نتيجة لحملات ممنهجة من قبل النظام التركي عبر أذرعه الإعلامية وخلاياه في الإعلام العربي، لا تهدف إلا إلى تشويه وشيطنة “كولن”. إنها محاولة لقراءة دماغ الرجل واستعراض كل ما يجول فيها، فنرجو أن نكون قد وفقنا فيها.
كولن وأردوغان.. من التفاهم للعداء
كان لحركة “الخدمة” أو”جماعة كولن” كما يطلق عليها البعض، دور كبير ومؤثر في وصول أردوغان إلى المناصب والمكاسب التي حققها، ومنذ بزوغ نجم أردوغان، حرص على مدِّ جسور التواصل مع الحركة بشكل بات يصنفه بعض المحللين بأنه تحالف غير معلن بين جماعة كولن وأردوغان، تحالف كان يبدو للوهلة الأولى أنه أقوى من أن تؤثر فيها تقلبات السياسة، لا سيَّما في ظل التقارب الأيديولوجي بين الطرفين، كون كليهما ذوي ميول إسلامية.
لكن التحالف بين جماعة كولن وأردوغان، لم يستطع الصمود أمام طموحات الأخير ورغبته الجارفة في أن يكون رجل تركيا الأول والأوحد، وسرعان ما استغل أردوغان واقعة الانقلاب الفاشل التي جرت في 2016 ذريعة لتصفية الحركة والقضاء عليها.
وعلى الرغم من توصيف المحللين للعلاقة بين أردوغان وجماعة “كولن” بمسمى “تحالف”، فإن فتح الله كولن نفسه يرفض المسمى، ويؤكد أنه لم يكن هناك أية تحالف بين جماعته وبين أردوغان. في كل الحوارات التي عقدت مع “كولن”، طُرح عليه ذات السؤال: كيف انقلب التحالف إلى عداء؟ والبعض يضيف إلى سؤاله جملة “تلميذك أردوغان”. وفي كل مرة، كان “كولن” يصرُّ على أنه لم يكن هناك تحالف من الأساس مع أردوغان، ويؤكد أن الذين يعرفونه ويعرفون حركة “الخدمة” عن قرب يعلمون جيدًا أن أردوغان لم يكن تلميذًا له قطُّ. بل يشدد “كولن” على أنه كانت بينه وبين أردوغان خلافات جذرية بدءًا من استغلال الدين من أجل مصالح سياسية إلى قضايا أخرى عديدة.
“لم يكن قريبًا مني ولم أكن قريبًا منه قطُّ، ناهيك عن أن يتتلمذ على يدي. لم نلتقِ وجهًا لوجه سوى مرتين أو ثلاث مرات”.. تقريبًا هذه الجملة يكررها “كولن” في كل مرة يُطرح عليه السؤال. أمَّا دعم أنصار “كولن” ومحبيه لحزبه، لدرجة أنهم كانوا الرقم الصعب في تحقيقه نتائج مبهرة في الانتخابات، فيرى “كولن” أن محبيه مثل أي مواطن عادي، لهم الحق في اختيار من يريدون، منوهًا بأن اختيارهم لأردوغان كان بناء على وعود قطعها الأخير على نفسه للشعب في تطوير الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتوسيع نطاق الحريات الأساسية. ويستشهد “كولن” بأن أفراد حركة “الخدمة” قد دعموا في فترات سابقة أحزابًا أخرى تدافع عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتؤكد على الحقوق والحريات الأساسية. ولكن عندما انقلب أردوغان وحزبه على هذه القيم بنسبة 180 درجة، لم يكن بإمكانهم دعمه، وهذا ما حصل فعلاً، بحسب “كولن”.
هناك نقطة خلاف مهمة أخرى يشدد عليها “كولن”، وهي أن حركة “الخدمة” التي تقوم بأعمال ناجحة في مجال التربية والتعليم على نطاق العالم، لم تتبنَّ ما ادّعاه أردوغان من أنه “زعيم المسلمين في العالم” ولم تدعمه في ادعائه هذا؛ وهو ما أثار حقده، وجعله يحشد – حتى اليوم – كل إمكانات الدولة التركية، ويستنفر جميع الدبلوماسيين وأجهزة المخابرات من أجل الضغط على إغلاق مدارس “الخدمة” وجامعاتها في العالم أو تسليمها إلى جمعية “معاريف”، ويبذل كل ما في وسعه لإعادة أبناء “الخدمة” وترحيلهم إلى تركيا والزج بهم في السجون.
يقول “كولن” إنه وجماعته وأنصاره ومحبيه، باختصار يدفعون ثمن الاستقلال والحرية. وهو ثمن باهظ في الحقيقة، لكنه مصرٌّ على كونه غير نادم مطلقًا، ولا يعتقد أن يكون أحد من أصدقائه وإخوانه نادمين كذلك. وأن ما يحزن “كولن” هو شيء وحيد، وهو أن وطنه صار مسرحًا للمآسي والآلام بسبب غياب رجال حقيقيين يكبحون جماح طموحات المستبدين.
ومن ضمن الأمور التي يرجح “كولن” أنها كانت سببًا في عداء أردوغان له ولحركة “الخدمة”، هي أن أردوغان وأنصاره لم يتقبَّلوا أو يستسيغوا أن ينجز أبناء “الخدمة” ما لم يستطيعوا هم إنجازه؛ لقد أنشؤوا بضعة مراكز في بعض الدول تحت اسم “مراكز يونس أمره”، لكنهم لم يفلحوا في إدارتها. أمَّا المحبون والمتعاطفون مع “الخدمة” فقد أنشؤوا مدارس فيما يزيد على مئة وسبعين دولة على مستوى العالم؛ في آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، ونظموا العديد من المهرجانات الثقافية في العديد من دول العالم، وكانت تركيا بالطبع في المقدمة. فلمَّا منعوا إقامة مثل هذه الاحتفاليات في تركيا منذ سنتين، نُظِّمت فيما يزيد على عشرين دولة مختلفة من دول العالم. ثم اتسعت دائرة هذه المهرجانات لتشمل ثلاثين دولة. لقد أقبلت الشعوب على هذه المهرجانات التي ذاع صيتُها بينهم، وتعاطفوا معها. أمَّا المسؤولون في الحكومة التركية، فقد أحاطت بهم المشاكل من كل جهة حتى ضيقت عليهم عالمهم.
لدى “كولن” يقين تام بأن نية القضاء على “الخدمة” تمتد إلى ما قبل فضائح الفساد بنحو 18 عامًا. وقد عبَّر عن هذا في مناسبات متعددة. عندما اعتزم أردوغان تأسيس حزب جديد ذهب إلى “كولن” والتقاه، فعبَّر “كولن” له عن أفكاره فتحدث معه أردوغان بإيجابية. “لقد كنت حَسَنَ الظن به، لكني صرت ضحية حسن الظن هذا” جملة يكررها كولن بمرارة. بعد أن استمع إلى أفكاره وغادر، قال أردوغان لمرافقه الذي كان معه في المصعد: “إن أول ما سأقوم به بعد التمكن من السلطة هو تصفية هؤلاء والقضاء عليهم”. وهذا يدل على ما ينطوي عليه من حسد وحقد، ثم تطورت هذه المشاعر أكثر لاحقًا.
رأي “كولن” في شخصية أردوغان وحكمه
يرى فتح الله كولن في أردوغان إنسانًا له أطماع خفية، يريد أن يقيم عالَمًا خاصًّا به، يقوم بأعمال وتصرفات من شأنها أن تدعِّم بقاءه في رئاسة الجمهورية إلى الأبد. لقد استغل أردوغان فضائح الفساد والرشاوى وسيناريو الانقلاب المزيَّف للتضييق على رجال “الخدمة” والمحبين لها والمتعاطفين معها، وهذه أمور لا تتفق أبدًا مع مقام الرئاسة، هذه الممارسات تؤكد أنه لا يليق مطلقًا برئاسة أمة كانت عنصرًا من عناصر التوازن الدولي وقتًا طويلًا.
بات من البديهيات التي لا تقبل الشك أن أردوغان يرى نفسه زعيم المسلمين. وحَسبُكم أن تنظروا إلى تصريحاته وتصرفاته وإنفاقه أموالاً طائلة من ثروات الدولة التركية بغرض حشد مناصرين له في العالم، بل نظرة واحدة إلى بطانته وأنصاره تكفي، فهم ينادونه بـ”زعيم العالم” بحسب “كولن”.
وفي هذا الصدد، يذكر “كولن” أن مدارس “الخدمة” ومراكزها الثقافية انتشرت في العالم، وبدأت تؤدي دورًا فاعلاً في نشر القيم الإنسانية السامية والحوار والتعايش. أردوغان كان يريد توظيف هذه المؤسسات للدعاية الشخصية لنفسه، وللترويج لزعامته للمسلمين وإمارة المؤمنين. كان ينتظر من أبناء “الخدمة” المنتشرين من خلال المدارس والمراكز الثقافية في ١٧٠ بلدًا أن يروِّجوا لهذه الزعامة. كان يريدهم أن يعدوه كأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ويحترموه على هذا الأساس. وعندما لم تتحقق رغبته تلك، ووجد أن الأمور تسير في حركة “الخدمة” بشكل مختلف، ووجد أيضًا أنه لا يمكنه الاستفادة الشخصية من مواردها، أو من الترويج للصورة التي يرجوها لم يستسغها وحنق عليها.
وعلى ذكر الزعامة التي يعشقها أردوغان، يبرز تساؤل مهم: هل يعترف “كولن” بأردوغان رئيسًا شرعيًا؟ الحقيقة أن إجابة “كولن” عن هذا السؤال كشفت أننا أمام رجل منصف في معركة غير شريفة، فعلى الرغم من الانتهاكات التي يتعرض لها “كولن” وأنصاره على يد أردوغان، فإن رجل الدين يرى أن الإعجاب بالشخصية شيء، والقبول بها كرئيس منتخب من قبل الشعب شيء آخر. يرى “كولن” أنه يجب القبول بأردوغان كرئيس للجمهورية احترامًا لإرادة الشعب الذي انتخبه، لكن هل هذا الشخص مناسب للمنصب الذي يشغله أو لائق به؟ لا يمكن أن يغيب عن تصور “كولن” بعض الأمور التي تجعله فاقدًا أهليَّتَه لهذا المنصب، بدءًا من الشبهات حول مؤهِّله الجامعي وانتهاء بخطاب الكراهية والاستقطاب الذي ينتهجه. لذا، فلياقته للمنصب أو عدمها شيء، واحترام إرادة الشعب شيء آخر. لهذا يقول “كولن” إنه رئيس للجمهورية التركية بموجب احترامه للإرادة الشعبية، بغض النظر عن أهليته لهذا الموقع.
إنصاف “كولن” لم يمنعه من إعلان تأييده للنظام الرئاسي، رغم محاولات أردوغان استخدام هذا النظام مطية لتكريس دولة الفرد الواحد. إن النظام الرئاسي الذي كان “كولن” يدعمه مغاير تمامًا للذي تبناه أردوغان. يؤيد “كولن” نظامًا رئاسيًا على غرار النموذج الذي تطبقه أميركا وفرنسا وبلدان أخرى حيث يمكن مراقبة الرئيس ومحاسبته. لكن النظام الرئاسي الذي يريده أردوغان أقرب ما يكون إلى نظام الرجل الواحد الذي يمتلك جميع الصلاحيات من دون أي مراقبة أو محاسبة. بطبيعة الحال لا يمكنني أن أدعم نظامًا فاشيًا كهذا بقلب بارد.
“أردوغان مارس عليَّ شخصيًا وعلى محبي (الخدمة) ضغوطًا شديدة لكي يساندوا مقترحه الرئاسي بصورة جماعية ودون أي اعتراض أو نقد”، هكذا أعلن “كولن” في أحد حواراته. وعندما لم يتم له ما أراد، رفع من حجم الضغوطات فأطلق مؤسسات بديلة لمؤسسات “الخدمة” مدعومة بأموال حكومية، وعندما لم يحقق ذلك أهدافه، أخذ يهدد مؤسسات “الخدمة” بالعمل على إغلاقها. “لو أننا رضخنا لضغوطاته وقدَّمنا له بيعتنا، لكنا من أكبر المستفيدين من أعطيات وهبات الحكومة التركية اليوم. لكننا رفضنا كل ذلك، فأخذ يصب علينا جام غضبه منذ سنوات”، يضيف كولن.
“كولن” ومحاولة الانقلاب الفاشل
عاصر فتح الله كولن كل الانقلابات العسكرية التي وقعت في تركيا منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك. عندما وقع انقلاب مايو 1960م، كان في العشرين عامًا من عمره، وعانى حينها في مدينة “أَدِرْنَه” أصنافًا من الضغوط والتضييق. منذ ذلك الوقت بدأ يتعوَّد شيئًا فشيئًا مثل هذا التضييق والضغوط. وفي انقلاب مارس 1971م، زجّوا به في السجن، فلبث في غياهب السجون العسكرية مدة راوحت بين ستة وسبعة أشهر، فشدَّ هذا من عزيمته، وعوَّده على ما هو أشدّ. ولمَّا حدث انقلاب سبتمبر 1980م، ظلَّ مدة ست سنوات يتنقل من مكان إلى آخر داخل تركيا ولم يستقر به مقام، حتى جاء عهد “تُورْغُوتْ أُوزَالْ” ورئاستِه للوزراء، فقبضوا عليه، إلا أن “تورغوت أوزال” تدخَّل في الأمر بكل قوته، وجمع مجلس الوزراء، ثم تبيَّن أن الملف فارغ من أي مضمون ومن أي أدلة ملموسة فأغلقت القضية، وتم إطلاق سراحه.
يؤكد “كولن” أن المعاناة في كل تلك الانقلابات رفعت من درجة مقاومته، إلا أن الانقلاب الفاشل في يوليو 2016م كان أشدَّها، وأكثرها تجاوزًا ووقاحة؛ فلم يشهد عُشْرَ هذه الإساءة والوقاحة وقلة الحياء حتى عندما قبض عليه العسكر قديمًا. لم يتعرض هو وأصدقاؤه من قبلُ لمثل هذه الصفاقة وقلة الحياء، إنما كانوا يُعاملونهم معاملة إنسانية. لقد كرر “كولن” مرارًا ومنذ فترة طويلة أن الديمقراطية باتت مطلبًا ملحًا من قبل الجميع، ومن ثَمَّ يجب ألا يتم تداول السلطة إلا عبر الانتخابات. فمعاناته الطويلة من الانقلابات جعلته يقف ضدها دائمًا. ولهذا، كانت ردة فعله الأولى عندما سمع بمحاولة الانقلاب الفاشل أن سارع إلى استنكاره وإدانته بأشد العبارات قبل أن يُعلَن عن فشله وأعرب عن رفضه له كليًّا.
وعلى الرغم من الموقف الداعم للديموقراطية والرافض للانقلاب، فإن “كولن” يعتقد أن محاولة الانقلاب الأخير لم تكن تشبه أي واحد من الانقلابات التي وقعت بالفعل، أو المحاولات التي تمَّ الترتيب لها من قبل. لقد كانت مسرحية أعدت لأغراض سوداء ونوايا خائنة يمكن أن يفهمها حتى الأطفال. لقد قيل الشيء الكثير عن تلك المسرحية وكُتب عنها الشيء الكثير. والحقيقة أنها تستحق أن يُعدَّ حولها دراسات وبحوث معمقة. إذا أردنا أن نتحدث عن التفاصيل، فلعل ذلك يستغرق منا وقتًا طويلاً؛ لأن الحدث كله مشوب بأمور غريبة شتى؛ على سبيل المثال: الساعة التي انطلق فيها الانقلاب، أي أن يخرج عدد محدود من الجنود ويستولوا على طرف من الجسر المعلق في إسطنبول مساء في ساعة الذروة حيث جميع الناس في الخارج، إلى أشياء أخرى غريبة يمكن أن نذكرها. ذَكَر بعض الجنرالات فيما بعد أن ما تمَّ هو انقلاب تمَّ التخطيط له ليكون فاشلاً.
رؤية “كولن” للانقلاب الفاشل لم تغفل أن تحترم ضحاياه، فعندما وصف ما وقع بالمسرحية أو السيناريو، لم يكن غرضه أن يقلل من شأن ما حدث. لا شك أن آثار هذه الكارثة كانت أشد ضررًا وفداحة من جميع الانقلابات التي وقعت في تركيا من قبل. لقد قتل ٢٤٩ مواطنًا من أبناء تركيا في هذا الحدث المشؤوم. وأُودع حوالي ٥٠ ألف مواطن بريء في السجون. ولا يمرُّ يوم دون أن نسمع عن أبرياء جدد يتعرضون لمظالم جديدة وتجاوزات مؤلمة.
لقد أُغلقت مئات المدارس وعشرات الجامعات، وصودرت آلاف من الشركات الخاصة، وانحرفت تركيا عن المسار الديمقراطي كليًّا، رغم أنها كانت تتقدم في ذلك المسار نحو الأفضل ولو ببطء. حصلت شروخ بين شرائح المجتمع، ونُثرت بذور للعداوة والنزاع بين الناس يصعب تلافيها. “لقد اتضحت نيتهم، وهي تأسيس نظام ديكتاتوري فاشي تحت غطاء نظام رئاسي جديد”، يستطرد “كولن” في وصف الانقلاب الفاشل وأسبابه.
يغلب “كولن” العقل والمنطق وإقامة الحجة حتى مع ألد خصومه، ومن هنا، ردَّ على اتهام أردوغان ونظامه له بالتورط في محاولة الانقلاب الفاشل، بالدعوة إلى تشكيل لجنة دولية تحقق في الموضوع، وأعلنت أنه سيرضى بأي حكم يصدرونه في حقه ووعدهم بأن يشتري تذكرته بنفسه ليعود إلى تركيا إن ثبتت اتهاماتهم وتبين أنه مجرم، لكنهم لم يهتموا حتى بالرد على اقتراحه. واستدل “كولن” من هذا التجاهل أن لديهم أمورًا كثيرة يخفونها، لذلك لم يستطيعوا أن يقنعوا العالم بافتراءاتهم. ويعتقد أن أحداث 15 يوليو سيناريو وأردوغان ذاته واحدٌ ممن شاركوا في كتابته، وستنجلي الحقائق مع الوقت.
كما يستشهد “كولن” بحملة الإقالات والاعتقالات التي تمت عقب محاولة الانقلاب مباشرة، والتي تدل على أن تلك الحملة مخطط لها سابقًا، ولا علاقة لها بالانقلاب. وأبرز مثال على ذلك هو فصل 2700 موظف على الفور في الدوائر العدلية في 16 يوليو. ويفهم من ذلك أن السلطة السياسية بدلًا من تعيين الكفاءات بالوظائف الحكومية، تهدف إلى توطين الموالين لها، سواء من الحزب الحاكم أو الأحزاب الموالية الأخرى.
والحق أن الكثيرين قد علَّقوا على محاولة الانقلاب هذه قائلين: لقد قام أردوغان وأتباعه بهذه التمثيلية الانقلابية بهدف إحكام قبضتهم على المؤسسة العسكرية ووضعها تحت وصايتهم، وحتى يتسنَّى لهم إقصاء المعارضين لهم في داخل السلك العسكري.. ربَّما أثار بعض القوميين المتطرفين العسكر للقيام بهذه المحاولة وتورَّط معهم بعض السذَّج. ويؤكد هذا الكلامَ قولُ رئيس الجمهورية التركية (أردوغان): “إن هذه المحاولة قد عزَّزت من سلطتنا، لدرجة أننا أصبحنا نستطيع القيام ببعض التغييرات والتعديلات داخل المؤسسة العسكرية، وأن نهيمن عليها”، إضافة إلى قوله: “أنا القائد العام الآن”؛ بمعنى أن المؤسسة العسكرية وغيرها قد صارت تحت وصايته المحضة.
مستقبل غامض يثير القلق
يخشى الداعية فتح الله كولن كثيرًا على المستقبل الذي ينتظر تركيا، بعد ما شهدته من أحداث خلال العامين الأخيرين، فهناك انجراف مطرد نحو سلطة الحاكم الفرد، وأصيبت جراءها جميع مؤسسات الدولة بالشلل، وغاب تمامًا مبدأ فصل السلطات بعضها عن بعض وصارت في قبضة فرد واحد فقط. صارت قضايا مثل حقوق الإنسان والحريات الأساسية أمورًا لا قيمة لها في تركيا. أمَّا سيادة القانون واستقلال القضاء فقد باتت من الأحلام، وتركيا الآن في ظل هذا النظام أصبحت بعيدة تمامًا عن تركيا التي كانت تفاوض على عضوية الاتحاد الأوروبي في عام 2004.
يشدد “كولن” على أن قيادات السلطة الحالية قد وسَّعوا من نطاق “مطاردة الساحرات” التي بدؤوها في تركيا وصاروا يمارسونها على مستوى العالم. الهمُّ الأوحد الذي يشغل بال الدبلوماسيين الأتراك في الخارج هو العمل على إغلاق مدارس ومؤسسات “الخدمة” أو تسليمها إلى جمعية “معاريف”. الهمُّ الذي يشغلهم، ليلَ نهارَ، كيف يخطفون المعلمين والمسؤولين في “الخدمة” ممن يعملون في تلك البلاد في طائرة ويرحِّلونهم إلى تركيا وإن كان ذلك مناقضًا لجميع القوانين الدولية. فرضوا وصاية كاملة على وسائل الإعلام وأقنعوا الشعب التركي برواية لم يؤمن بصحتها أحد في العالم. ارتكبوا مظالم قلَّ في التاريخ نظيرها متذرعين بتلك الافتراءات. اعتقلوا عشرات الآلاف من الأبرياء بينهم ربات بيوت وشيوخ وأطباء ومدرسون وطلبة وأناس آخرون دون أن يقدموا أدنى دليل قضائي أو وثيقة ملموسة، ملؤوا السجون بهم وتفننوا في اضطهادهم وتعذيبهم. أكرهوهم على التوقيع على بعض الوثائق تحت التعذيب، بل لم يتورعوا من اعتقال النساء الحوامل والأمهات على أسِرَّة الولادة وزجُّوا بهن في السجون مع أطفالهن الرضع. اعتقلوا بعض الناس وهم مرضى، وحرموهم من أدويتهم، فكانوا سببًا في وفاتهم. لقد تمَّ حرمان أكثر من مليون فرد من المظلومين والمتضررين في تركيا من ممارسة حياتهم العادية، وحُكِم عليهم بالنبذ والتهميش والقطيعة.
ويرى “كولن” أن أردوغان يحمِّله فاتورة أي حادثة سلبية تقع في البلد، ويستغل ذلك من أجل مكاسب وأهداف سياسية. على سبيل المثال: استغل تحقيقات الفساد الكبرى التي حدثت في ديسمبر 2013 وتورط فيها بعض وزرائه لتسييس منظومة القضاء حتى باتت شبه منعدمة. وشرَّد جهاز الأمن وضباطه الخبراء الذين سهر الوطنُ على تربيتهم وتكوينهم سنين وسنين حتى بات جهاز الأمن عاطلاً. كما أحكم قبضته على مجموعات الإعلام الكبرى ومكَّن أنصاره من امتلاكها. أمَّا وسائل الإعلام الصغرى، فقد كمَّم أفواهها من خلال منحها حصصًا مغرية من كعكعة الإعلانات الحكومية حينًا، أو إعطاءها مناقصات رابحة حينًا آخر، أو تهديدها وإرهابها بوسائل شتى إن لم تُجدِ العروض المغرية، وبذلك أسكت جميع الوسائل التي يمكن أن تعبِّر عن الحقائق. كما تذرع بمسرحية 15 يوليو وعرَّض القوات المسلحة لأكبر ضرر يمكن أن تتعرض له في تاريخ تركيا الحديث، وفرض وصايته عليها.
باختصار، حوَّل أردوغان مؤسسات الدولة التركية إلى مجرد أدوات تخدم مصالحه وطموحاته السياسية. ولم يكتفِ بهذا، بل مزَّق الشعب إلى معسكرات وطوائف متنازعة، فحصلت انشقاقات لم نرَ لها مثيلاً في التاريخ القريب، هكذا يؤكد “كولن”.
إن المستقبل هو نتاج الحاضر، وإذا كان ما سبق هو جزء من حاضر تركيا، فإن المستقبل سيكون أشد كارثية. ومن هنا، نجد هجوم “كولن” على أردوغان منطقيًا، حين يقول إنه لم يكن للأخير أي أثر إيجابي في فترة حكمه الأخيرة. ورغم ذلك، لا يزال يصرُّ على السير في هذا النهج السلبي الخاطئ، ويظن أنه بهذا يمكنه تحقيق نتائج مُرضِية. ليس بإمكانه أن يغير الرأي العام العالمي بهذه الأفعال. فقد ولَّدت هذه السلبيات والأخطاء المتوالية دوائر مفرغة يستحيل أن تتمخض عن نتائج إيجابية.
السلام الاجتماعي.. متى يعود لتركيا؟
إذا كان القلق على مستقبل تركيا يسيطر بشكل كبير على تفكير فتح الله كولن، فإن أخطر ما يشغل باله في هذا السياق، هو كيفية استعادة السلام الاجتماعي من جديد إلى تركيا. يرى “كولن” أن المدة التي يحتاجها الشعب التركي ونظامه السياسي من أجل أن يستعيد السلام الاجتماعي، من الممكن أن تستغرق جيلاً برمَّته أي نحو 25 عامًا ليعود الوئام والسلام المجتمعي إلى سابق عهده.
ويرجع “كولن” طول المدة إلى أن السلطة الحالية تستغل حالة الطوارئ لتصفية حساباتها. إنهم يعتقلون من يشاؤون، ويمارسون في حقهم كافة الانتهاكات، ويمنعونهم من مقابلة ذويهم ويكدِّسونهم في زنازين ضيقة كالأسماك. فباسم حالة الطوارئ تنتهك السلطة التركية كافة الحقوق الإنسانية. كما أن السلطة الحاكمة في تركيا فصَّلت جهاز القضاء على مقاسها، فشرَّدت كثيرًا من القضاة وعزلت البعض الآخر، بل إنهم أسسوا أخيرًا محاكم خاصة مثل محاكم الاستقلال التي أُسست خلال تأسيس الجمهورية التركية. فالذين يمسكون بزمام الأمور اليوم يُملُون على القضاة الذين عيَّنوهم الأحكام التي سيصدرونها، فيشيرون عليهم باعتقال هذا أو مصادرة ممتلكات ذاك أو إغلاق شركات مملوكة لأصحابها. وكل هذا يتم بالترغيب تارة، وبممارسة الضغوطات تارة أخرى. في جو كهذا لا يمكن الحديث عن الحقوق والعدالة. فكل هذه القيم يدوسون عليها بأقدامهم الآن.
أزمة الأكراد.. الحل بسيط
لا نبالغ إذا قلنا إن الأكراد من أكثر الفئات التي تعاني في ظل حكم الرئيس التركي، فهم مضطهدون ويعاملون كمواطنين درجة ثالثة، فلا يسمح لهم بالتعلم بلغاتهم مثلاً، وتعاديهم الدولة وتصفهم بالإرهابيين، وتزج بالآلاف منهم في السجون، فقط بسبب هويتهم الكردية.. ورغم تفاقم الأزمة وتصاعدها بمرور الوقت، فإن الداعية فتح الله كولن لديه ما يمكن وصفه بأنه حل جذري للأزمة.
يشير “كولن” دائمًا إلى أن كاتب النشيد الوطني التركي حين كتب النشيد قد ذكر اسم صلاح الدين الأيوبي الكردي مع السلطان محمد الفاتح التركي. وإن للأتراك مع الكرد مواقف مشتركة، فقد حاربوا في جبهات القتال ضد قوى التحالف في معركة “الدردنيل”، كما شاركوا في الحملات ضد الصليبيين وكانوا معًا في خندق واحد، كما أن اسم “نور الدين زنكي” واسم “شيريكوه” قد ورد ذكرهما معًا في قصيدة واحدة.
قبل عشرة أعوام، أرسل “كولن” خطابًا إلى أردوغان، رئيس الوزراء التركي وقتها، وكان عبارةً عن مشروع يتضمن عشرة مقترحات لتحسين ظروف الكرد في مناطق شرقي وجنوبي شرقي تركيا، فتحدث عن مجموعة من الأفكار لتحسين ظروف الكرد الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق، وعن كيفية تحسين الظروف المعيشية للكرد في تركيا.
اقترح “كولن” أن تتحسَّن ظروفُهم المادية وترتقي إلى مستوى ظروف حياة الكرد في شمالي العراق، وأن تقوم الحكومة بتوفير احتياجاتهم الضرورية كي يطمئنوا إليها ويثقوا بها، وطلب من الحكومة أن تتيح الفرصة لمن لديه مشاريع جديدة، وتحدث عن ضرورة توفير فرص تربوية لتلك المناطق مع التأكيد على السماح باستعمال اللغة الكردية. كان المرحوم سعيد النورسي يتحدث عن إنشاء جامعة في المناطق الكردية بحيث تكون الدراسة والتحدث فيها باللغات العربية والتركية والكردية. وتحدث عن ضرورة إنشاء مراكز صحية هناك، وأن يكون لكل عائلة طبيبٌ خاصٌّ بها، وعن لزوم إنشاء وحدات صحية في المدارس الابتدائية ليلقي المتخصصون محاضراتهم فيها.
أيضًا، طالب “كولن” بأن يكون انتخاب الحكام والقضاة والمسؤولين من قبل الناس ومن خلال فلسفة التعددية والعدالة، وليس عن طريق تعيينهم دون اللجوء إلى انتخابات، وأن تتكفل الدولة بتقديم الحماية والأمان والعون للمجتمع كله؛ إلا أن هذه المقترحات تمَّ رفضها بذريعة أن الحكومة عينت مسؤولاً عن تلك المناطق، لكنه مع الأسف فشل في خدمة المواطنين هناك، وطلب إعفاءه من الوظيفة فورًا. وتذرعوا بأنهم لا يجدون مسؤولاً يتطوع للذهاب إلى هناك، في حين أن أعدادًا كبيرة من الولاة والمحافظين والإداريين كانوا جاهزين ليخدموا هناك بكل رغبة.
أردوغان والإرهاب.. تحالف خفي
يحلُّ الإرهاب على رأس قائمة أكثر المخاطر التي تؤرق العالم بأسره في السنوات الماضية، وسط اتهامات لدول بعينها بدعم هذا الإرهاب والتعامل مع تنظيمات متطرفة وتمويلها وتسهيل مهامها، ولعل قطر وحليفتها تركيا على رأس الدول التي كانت موضع شبهات كثيرة خلال السنوات الماضية، فيما يتعلق بدعم الإرهاب.
يتفق “كولن” مع ما ذكره كثير من الصحفيين والمراقبين الدوليين، أنه قد تمَّ في الفترة الأخيرة طرد العديد من ضباط الأمن المخضرمين ومن له خبرة واسعة في قضايا الإرهاب بدوافع سياسية محضة، وتمَّ زج بعضهم في السجون. كما سجلت وسائل إعلام عالمية أن أردوغان يدعم بعض المنظمات الإرهابية المسلحة المنتشرة في المنطقة بطرق ووسائل شتى، وأنه يريد أن يبسط نفوذه كقوة إقليمية عبر هذه المنظمات. ومن ثَمَّ يمكننا أن نقول إن المنظمات الإرهابية من أمثال “داعش” والعناصر المتعاطفة معها قد وجدت في تركيا مناخًا مناسبًا ومريحًا جدًا في هذه الفترة بالتحديد.
ويعتقد “كولن” أن هذا الأمر بات معلومًا وواضحًا لدى الرأي العام العالمي. فلقد انطلقت حكومة أردوغان تدعم “داعش” الإرهابية بشكل سريٍّ منذ قيامها وبدايات تشكُّلِها، إلى جانب دعمِها لمنظمة “تحشية” التي تُعدُّ امتدادًا لمنظمة القاعدة في تركيا. وكثيرًا ما دعمَت هذه الحكومة جبهةَ النصرة ومنظمة “داعش” الإرهابية، ولا داعي للتكهُّن بدافعهم إلى القيام بهذا الدعم، وهو ما يرجعه “كولن” إلى أن أردوغان كان يعقد آمالاً عريضة ليكون زعيم العالم الإسلامي، وحاول تحقيق هذه الآمال عن طريق “داعش”. ولقد أكدت المعلومات الصادرة عن بعض المؤسسات الإعلامية وأجهزة المخابرات، أنه ما زال يدعم هذه المنظمة الإرهابية؛ يمدهم بالأموال، وإن افتضح الأمر يحاول التستُّر على الجريمة ولفتَ الأنظار إلى جهة أخرى.
وبحسب “كولن”، فإن ثمة أمرًا آخر يعرفه الجميع وهو: أن أنصار “داعش” ما زالوا يُعالَجون في مستشفيات تركيا، ثم يُرسل بهم إلى أماكن مختلفة من العالم؛ إلى فرنسا وأمريكا وإنجلترا، وليست أجهزة المخابرات فقط هي من لديها علم بهذه الأمور، بل هي معلومات متداولة بين الأطباء والممرضين الذين يعملون في هذه المستشفيات التي تقوم على علاج هؤلاء الإرهابيين. إن أنصار “داعش” ما زالوا حتى الآن يتجولون في شوارع تركيا، تستخدمهم الحكومة للإغارة على بيوت معارضيها من المتدينين، وتعذيبهم وقتلهم. إن “داعش” الآن هي أكثر المنظمات التي تستغلها الحكومة التركية وتعتمد عليها.
ويشدد “كولن” على أن قيادة أردوغان تتظاهر أمام الرأي العام العالمي بأنها تحارب هذه المنظمة، والواقع أنها لم تحاربها قطُّ، قد تكون للمؤسسة العسكرية جهود خالصة في هذا الشأن، غير أن الحكومة التركية كانت تتظاهر بحربها ضد “داعش” حتى لا تقف في موقف المعارض للرأي العام العالمي، ولكنها لم تتخلَّ في أيِّ وقت عن دعمها لهذه المنظمة.
كيف نواجه الإرهاب؟
يضع “كولن” بعض المقترحات التي قد تفيد في التصدي للتنظيمات الإرهابية التي لم تسلم دولة من شرها. فهو يرى أن الحل في هذا الموضوع يقتضي من المسلمين ومن الدول الكبرى، وكذلك من المنظمات الدولية، أن تتحمل مسؤوليتها. على المسلمين قبل كل شيء أن يتخلوا عن تحميل الفاتورة في موضوع الإرهاب على السياسات الخارجية للدول الغربية، ويعودوا إلى أنفسهم يحاسبونها ويراجعونها. علينا أن نحاسب أنفسنا، لماذا هذه الأعداد الهائلة من الشباب الذين يقعون في شباك الإرهابيين يخرجون من بيننا؟ علينا كمسلمين أن نقدم لشبابنا تربية راقية وتعليمًا جيدًا يوائم بين القيم الدينية السلوكية والعلوم الحديثة والإنسانية، وأن نطعِّم المناهج الدراسية بالقيم الإنسانية العالمية، وأن نوفر في مجتمعاتنا مناخًا مناسبًا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية حتى تُمارَس في أفضل صورة. هذه هي المسؤوليات التي تقع على عاتق المسلمين.
أمَّا بالنسبة للدول الكبرى، فيطالبهم “كولن” بألا ينظروا إلى الإرهاب على أنه مشكلة أمنية يمكن حلها بتدابير عسكرية واستخباراتية فقط، بل ينبغي أن يدرسوا الإشكال في أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويبادروا إلى علاجها بخطوات عملية. كما ينبغي أن يخطوا خطوات فاعلة تمكِّن المسلمين الذين يعيشون في بلدان الغرب من الاندماج بسرعة أكبر. وأخيرًا، ينبغي أن يُولوا أهمية وقيمة لحياة شعوب البلدان الأخرى بقدر ما يولون ذلك لحياة مواطنيهم، وأن يرسموا سياساتهم الخارجية بناء على هذا الأساس. أمَّا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأمثالها من المنظمات الدولية، فعليها أن تتخذ التدابير والإجراءات اللازمة التي تكفل حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في كل أنحاء العالم، وأن تفرض عقوبات فعالة على قيادات الدول التي تمارس مظالم شتى في حق شعوبها من أجل إيقاف تلك الانتهاكات الحقوقية المروعة.
يؤكد “كولن” في كتبه وحواراته أن المؤمن الحق لا يرهب الناس متعمدًا. فمن المستحيل أن يكون المسلم الحق إرهابيًّا، فـ”لا يمكن لمسلم حقيقي أن يكون إرهابيًا، ولا يمكن لإرهابي أن يكون مسلمًا حقيقيًا”. والإرهاب الذي يُعزى إلى المسلمين حتى اليوم نُفِّذ أحيانًا بتزعم بعض الأنفس الغرة -وعددهم قليل جدًّا – التي لم تهضم الإسلام هضمًا جيدًا بكل دقائقه، وأحيانًا بواسطة إثارة مشاعر الشباب إثارة مفرطة، وأحيانًا بواسطة عناصر ورجال القوى العظمى الذين يَظهرون بمظهر المسلمين، وأحيانًا أخرى بواسطة الجموع الدموية التي تعرضت مشاعرها الإنسانية ومشاعر الخوف لديها للكبت والضغط باستخدام أنواع مختلفة من الأدوية والمخدرات.
السياسة الخارجية.. تركيا معزولة
يحمِّل “كولن” الرئيس التركي المسؤولية عن حالة العزلة التي تعيشها بلاده حاليًا، ويرى أن أردوغان هوى بتركيا من موقع صفر أعداء إلى صفر أصدقاء، لأنه تدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وأراد أن يعيد هيكلة هذه الدول من خلال جماعات العنف المسلحة التي ساندها بطرق شتى. لقد رأى أنه من حقه أن يفعل ذلك، لأنه وضع نفسه في موضع زعيم الشرق الأوسط وخليفة العالم الإسلامي.
ويرى “كولن” أن هذا التصور المسيطر على عقل أردوغان، الذي كان يأمل في إعلان نفسه أميرًا للمؤمنين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بعد إسقاط النظام في سوريا، والكلمات التي تفلَّتت من لسانه، تعبِّر عن أشياء ذات مغزى من هذا القبيل، مثل قوله: “سأقرأ الفاتحة عند ضريح صلاح الدين الأيوبي، وأصلي في الجامع الأموي”؛ أي أنني سأجعل كل الشعب يقف ورائي، ولا جرَمَ أن سوريا ستتبعها الأردن، ثم دول المغرب العربي، ثم مصر، إلا أن الوضع لمَّا تغير في مصر وسارت السفينة ضد ما يشتهي، وصفَ “السيسي” بـ”فرعون”، وقال: “لكل فرعون موسى”، معتبرًا نفسه موسى، والسيسي هو الفرعون.
وعلى ذكر الأزمة السورية، فإن “كولن” يرى أن أفضل حل لسوريا هو تأسيس إدارة تتيح لجميع المكونات السورية أن يكون لها حضور وتمثيل فاعل فيها بدءًا من العرب السنة إلى الطائفة النصيرية إلى الأكراد إلى السكان غير المسلمين إلى المكونات الأخرى. وللوصول إلى هذا الهدف ينبغي التفكير – إذا اقتضى الأمر – بمنح البلاد فرصة للانتقال الديمقراطي بصورة متدرجة.
كذلك يؤمن “كولن” بأن لمصر مكانة خاصة في عالم المسلمين، مصر مهد لحضارات عريقة. وفي العهد الإسلامي منحت مصرُ الإنسانيةَ علماءَ يُشار إليهم بالبنان، وأسست مجمعات ومراكز علمية على مستوى العالم. أمَّا ما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط، فإن لمصر موقعها الخاص ومكانتها المعروفة. إن السلام الداخلي لمصر واستقرارها الأمني والاقتصادي، بالغ الأهمية لأمن واستقرار هذه المنطقة. كما أن مصر موقفها واضح في النضال ضد الإرهاب والعنف والتطرف.
وحول وجود “الإخوان” في تركيا كأفراد ومؤسسات إعلامية، ودعم حكومة أردوغان بتنظيم محظور في بلده، وما الذي يجمعهما، وكيف ستكون علاقتهما في المستقبل، يجيب “كولن” عن هذه الأسئلة بتساؤل آخر: هل تحتضن الحكومة التركية الإخوان المسلمين وتقترب منهم لأنها تتشارك معهم في نفس القيم والمعتقدات، أم أنها تريد أن تستخدمهم لتحقيق غرض ما؟ هذا أمر قابل للنقاش. إنه يعتقد أن النظام التركي الحالي يستخدم “الإخوان” أداة لبسط نفوذه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، عبر استغلال المشاعر الدينية، وقضايا الأمة المركزية، فقد سمعنا تصريحات نارية وخطبًا عنترية في الأعوام السابقة حول فلسطين وبالأخص غزة، ثم ماذا حدث على أرض الواقع؟ وإلى أين صارت عاقبة هذه التصريحات؟
وفي ذات السياق، يقول “كولن” إن الأساس الذي يقوم عليه التحالف بين قطر وتركيا، هو المصالح السياسية للقادة، أكثر من المنافع المتبادلة التي تعود على الشعوب. ويؤكد أنه حتى الآن لم يصدر من تركيا تحت وصاية أردوغان أي مساهمة تعود بالنفع على المنطقة والمسلمين، ولو استمر النظام على هذا النحو فلن يكون في المستقبل أيضًا. إن النظام التركي الحالي بقيادة أردوغان يسعى وراء مصلحة أفراده الشخصية والسياسية من خلال كل خطوة يخطوها بادعاء مصلحة المسلمين.
رؤية “كولن” لسياسة أردوغان الخارجية تستنتج أنه من الصعب الحديث في الفترة الأخيرة عن استقرار في العلاقات الدولية لتركيا. فهي سرعان ما تبدل مواقفها مع الدول التي تبدو صديقة لها، والعكس صحيح. وتتحدث بعض مراكز التفكير في الولايات المتحدة عن فكرة إزالة تركيا من حلف الناتو. وقد نقلت ألمانيا في وقت قريب قواتها العسكرية من تركيا إلى الأردن، والمواقف الأخيرة تشير إلى أنهم منزعجون من التحركات غير المتسقة لإدارة أردوغان.
ويستدل “كولن” من هذه التحركات، بأن أردوغان وحزبه غارقون في دوامة من المشاكل دون أن يجدوا لها حلولاً. فإعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وخطاباتُ الود الموجَّهة لها تسير في هذا السياق. ومن قبلُ كانوا يطلقون ألسنتهم ضد روسيا، لكن عندما غرقوا في المشاكل صاروا يريدون سحب روسيا إلى جانبهم. بالإضافة إلى وجود مصالح مشتركة بين الطرفين تتعلق بالغاز والبترول ورغبة تركيا في تأمين علاقاتها مع دول وسط آسيا. وفي رأيه، أن لجوءهم إلى روسيا نابع من تورطهم في مأزق لا خلاص منه. أعتقد شخصيًا أن الرئيس “بوتين” شخص ذكي. قد تحبونه أو تكرهونه، لكن “كولن” يظن أنه سيأخذ من السلطة في تركيا ما يحتاجه ثم يستغني عنها، وستواجه تركيا مستقبلاً مشاكل وعقبات في إقامة علاقات جدية مع روسيا. وهكذا الوضع مع إسرائيل. لأنه من غير المنطقي الثقةُ بشخصٍ وصف إسرائيل بالأمس بأنها لا تعرف شيئًا سوى القتل، واليوم يصفها بأنها أقرب دولة صديقة. مستحيل أن ينجح شخص بنى حياتَه على التناقضات والتقلبات المستمرة. الروس يعرفون نقاط ضعفه جيدًا. “بوتين” ليس شخصًا يسهل خداعه والتلاعب به. ما يحدث مجرد سعي بائس من شخص فاشل للتخلص من المشاكل التي غرق فيها.
ويجزم “كولن” بأن المشاكل الراهنة ستؤدي إلى تفاقم عزلة تركيا عن محيطها، وقد تُفرَض عليها عقوبات بموجب عضويتها في بعض المنظمات الدولية كالاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي وحلف الناتو. ومن الممكن أن تحدث انشقاقات داخل الحزب الحاكم.
خاتمة
إن محاولة الإلمام بكل ما يدور في عقل فتح الله كولن، أمر ليس بالهين، فنحن نتحدث عن رجل أثر في المجتمع التركي، وفي أكثر من 100 دولة، من خلال حركة “الخدمة” ومدارسها ومؤسساتها، نتحدث عن داعية يرهق ويرعب طاغية، رجل مفكر له رؤية خاصة في كل قضية على حدة، يتمتع بذهن صاف وتفكير سليم وعقل محب للتسلسل المنطقي في الحكم على الأمور، ومحاولة قراءة فكر رجل بهذه الصفات، تبدو أمرًا عسيرًا جدًا، لكن سلاسة عرضه لأفكاره ورؤيته، جعلت من الصعب سهلاً.
إن إصدارات وإسهامات “كولن” غزيرة جدًا، تفوق 70 كتابًا، بالإضافة إلى عشرات المقالات والحوارات والبيانات التي شرح فيها العديد من المشكلات وتناول خلالها الكثير من الأحداث. لذلك، اخترنا هنا غيضًا من فيض عطاء “كولن” الفكري، وركزنا على القضايا التي باتت محط اهتمام الرأي العام العربي، خاصة أن أغلب هذه القضايا التي تعرضنا لها، تعاني من تضليل لا يوصف من قبل دعاية أردوغان وماكينته الإعلامية، فكان لزامًا علينا أن نزيل اللبس ونكشف الزيف ونوضح الغموض، معتمدين في ذلك على “كولن” نفسه، الرجل الذي تنهشه ماكينة أردوغان الإعلامية، آملين أن نكون قد وُفِّقنا في هذه المهمة.
وحدة الدراسات التركية
المراجع
– فتح الله كولن في أخطر حوار مع “الأهرام العربي”: أردوغان مزق الشعب التركي إلى طوائف – الأهرام العربي.
– فتح الله غولن للعربية: أردوغان أضر بالديمقراطية والنظام الجمهوري – قناة العربية.
– حوار مجلة بوليتيكو الأميركية مع الأستاذ فتح الله كولن
– Fethullah Gülen: ‘I don’t have any regrets’ – politico- https://politi.co/2FqsVuh
– A new report in Sweden reveals Erdoğan orchestrated July 15 coup in Turkey – stockholmcf – .
– حوار مركز ستوكهولم للحرية مع الأستاذ فتح الله كولن
– كتاب “السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤.
– فتح الله جولن المعارض التركي ومؤسس حركة “الخدمة” لـ “الأهرام”: أردوغان يستخدم الإخوان لبسط نفوذه.. وتحالفه مع قطر ضد مصلحة الشعوب – الأهرام اليومي
– حوار قناةNRTالكردية مع الأستاذ فتح الله كولن
– حوار قناةCNNمع الأستاذ فتح الله كولن.
– CNN – Fareed Zakaria Fethullah Gulen Interview on ‘GPS’ – https://youtu.be/5lHKHvfBEUI.
– Fethullah Gulen on ‘GPS’: Failed Turkey coup looked ‘like a Hollywood movie’ – CNN – https://cnn.it/2QMAUDg
– لقاء فتح الله كولن مع مجموعة من وسائل الإعلام العالمية. https://bit.ly/2TN2e6f
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر