سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تصاعد الاهتمام بتحسين وترسيخ واقع التسامح، بغض النظر عن الدين والجنس والتراث والثقافة، في الدول العربية، خلال الآونة الأخيرة، من جانب وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية والهيئات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الحوار، فضلاً عن منظمات إقليمية ومؤسسات دولية، في صورة برامج ومبادرات ومؤتمرات وملتقيات ومجالس، على نحو يقود في نهاية المطاف إلى بناء وتأهيل قيادات وكوادر عربية شابة تؤمن بقيم التسامح والانفتاح والحوار بين الأديان والثقافات ونبذ الكراهية، وتعمل على إيجاد حلول مستدامة للسلام والتعايش السلمي، لا سيما في ظل دواعٍ ملحة تتعامل مع اتساع رقعة الصراعات المسلحة، وتزايد الاحتقانات الداخلية، وتعزيز قدرة التصدي لنزعات التطرف العاكسة لموجة الحقد والكراهية التي تسود المنطقة، وتأسيس جسور بين الجنسيات المقيمة على أراضي الدولة، وتكوين قنوات مؤسسية للتواصل مع العالم الخارجي.
النموذج الإماراتي:
تزايد توجه دول عربية بعينها نحو تعزيز فكر وقيم وممارسات ومؤسسات التسامح، وخاصة دولة الإمارات، على نحو ما عكسه احتضان مجلس حكماء المسلمين، ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وإطلاق يوم وطني للتسامح، وتخصيص جوائز عالمية للسلام والتسامح، وإقرار قوانين لمكافحة التمييز والكراهية، واستحداث وزارة للتسامح، واستضافة مركز هداية لمكافحة التطرف العنيف، ومركز صواب، وإطلاق المعهد الدولي للتسامح الذي يعد الأول من نوعه في المنطقة العربية.
وكذلك ظهر اهتمام دول عربية أخرى مثل السعودية، وهو ما انعكس فيما يقوم به مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من تنظيم مؤتمرات خاصة بحوار الثقافات. وهناك أيضًا أدوار لمؤسسات اقتصادية داعمة للتسامح مثل الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية وجمعية الهلال الأحمر الكويتية، وموسم أصيلة الثقافي في المملكة المغربية.
لذا، قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبى في تدوينة نشرها على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، في 15 نوفمبر 2018: “إن أهم ما تحتاجه المنطقة العربية هو تسامح شعوبها وأطيافها الدينية والثقافية مع نفسها”.
مؤشرات عاكسة:
ثمة مجموعة من المؤشرات الدالة على تصاعد الطلب على دعوات التسامح في المنطقة العربية، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- إعلان سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، اختيار 2019 عامًا للتسامح، كونه يحمل أسمى القيم التي عمل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على ترسيخها لدى أبناء الإمارات، وقال وفقًا لما نقلته وكالة الأنباء الإماراتية في 15 ديسمبر 2018: “إن ترسيخ التسامح هو امتداد لنهج زايد، وهو قيمة أساسية في بناء المجتمعات واستقرار الدول وسعادة الشعوب”، مضيفًا: “إن أهم ما يمكن أن نغرسه في شعبنا هو قيم وإرث زايد الإنساني.. وتعميق مبدأ التسامح لدى أبنائنا”.
ويكمن سبب اختيار الإمارات لتسمية العام المقبل بذلك في ترسيخ الإمارات كعاصمة عالمية للتسامح، وتأكيد قيمة التسامح باعتبارها عملاً مؤسسيًا مستدامًا من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات الهادفة إلى الحوار وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصًا لدى الأجيال المختلفة، بما تنعكس آثاره الإيجابية على المجتمع.
وسيشهد عام التسامح التركيز على خمسة محاور: أولها، تعميق قيم التسامح والانفتاح على الثقافات والشعوب لدى الأجيال الجديدة. وثانيها، ترسيخ مكانة الإمارات عاصمة عالمية للتسامح من خلال مجموعة من المبادرات والمشاريع الكبرى في هذا الإطار منها المساهمات البحثية والدراسات الاجتماعية والثقافية المتخصصة في مجال التسامح وحوار الثقافات. وثالثها، التسامح الثقافي عبر المبادرات المجتمعية. ورابعها، طرح تشريعات وسياسات تهدف إلى مأسسة قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي. وخامسها، إطلاق مبادرات إعلامية هادفة لتعزيز التسامح.
2- تأكيد ملك الأردن عبدالله بن الحسين خلال لقاءه مع الرئيس البلغاري رومن راديف، بعمان في 16 ديسمبر 2018، على ضرورة مواجهة التحديات المشتركة قائلاً: “إن التحدي الذي نواجهه ويواجهه المجتمع الدولي هو الإرهاب العالمي، والأردن وبلغاريا يتميزان بالاعتدال والتسامح، ويحق لهما الفخر بذلك”. واللافت للنظر أن بلغاريا تهتم فعليًا بالدول الداعمة للتسامح، وهو ما برز في استقبال سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولى عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس وزراء بلغاريا بويكو بوريسوف في 21 أكتوبر الماضي وتأكيده أن الإمارات تمكنت من أن تبني جسور التواصل مع مختلف الدول الصديقة، وفق مبادئ التسامح والتعاون والانفتاح.
3- تنظيم السفارة البولندية بالجزائر، في 16 ديسمبر 2018، حفلاً في كاتدرائية السيدة الإفريقية، التي تعد من أهم المعالم الدينية والتاريخية في العاصمة الجزائرية، ومن أبرز الأمثلة على التعايش الطائفي والعقائدي. ووفقًا لما ذكرته وسائل إعلامية، فإن هذا الحفل يعد استكمالاً للحفل الذي أقيم في وهران يوم 8 ديسمبر 2018 بشأن “تطويب 19 مسيحيًا، قتلوا خلال ما يعرف بالعشرية السوداء، التي عاشتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي، بينهم 7 رهبان”.
4- تأكيد البيان الختامي لـ”مؤتمر الوحدة الإسلامية”، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بعنوان “مخاطر التصنيف والإقصاء”، خلال الفترة من 12 إلى 13 ديسمبر 2018، على أن الوحدة الإسلامية تعني الوفاق والتآلف وتوحيد الجهود في مواجهة موجات الشر، في طليعتها أفكار التشدد والتطرف والإرهاب، وضرورة تعزيز التفاهم بين الطوائف والفئات المسلمة وبناء جسور الثقة والتفاهم على المشتركات الجامعة، وعدم الاستسلام للإرث المصطبغ بروح سلبية أفرزتها صراعات تاريخية.
وطالب المؤتمر الدول والمنظمات الدولية بتحمل مسئولياتها في التصدي لممارسات التطرف والإرهاب والسعى لإيقاف الحروب والنزاعات ووضع حد للأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها ضحايا هذه الحروب، التي أنتجت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، وقادت العالم إلى مزيد من الكراهية والعداوة، وفي طليعتها ممارسات التطهير العرقي ومحاولات طمس الهوية الدينية، والتي تتعرض لها بعض الأقليات بأساليب إرهابية لا تقل بشاعة وهمجية عن إرهاب داعش والقاعدة.
فضلاً عن ذلك، دعت المناقشات في هذا المؤتمر إلى ضرورة إيقاف شذوذ فتاوي التكفير، وإحالة المسائل الخلافية إلى الحوار الذي يضطلع به العلماء والمجاميع العلمية دون غيرهم، وكذلك الاندماج الوطني الإيجابي للأقليات في الدول غير الإسلامية، وأن تكون مطالبتهم بخصوصيتهم الدينية وفق أنظمة الدولة الوطنية دون ممارسة أساليب العنف أو الاستعداء، وإنشاء لجنة جامعة تمثل المكونات الإسلامية المختلفة لصياغة ميثاق إسلامي شامل يتضمن قواعد الخلاف.
5- إشارة وزير الدولة المغربي المكلف بحقوق الإنسان، المصطفى الرميد، خلال لقاءه تينداني أشيومي، المقررة الخاصة المعنية بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب، في 13 ديسمبر 2018، إلى احتضان المملكة للقاءات ومنتديات دولية انبثقت عنها إعلانات مرجعية هامة كخطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية والعنصرية والدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف، المعتمدة عام 2012، وإعلان فاس عام 2015 الذي زكى مضامين خطة عمل الرباط في الشق المتعلق بدور مختلف الفاعلين وبالأخص الزعماء والقادة الدينيين، وكذلك إعلان مراكش عام 2016 الذي اعتبر رسالة سلام حقيقية وتقاسم القيم المشتركة للمسلمين حول العالم لحماية الأقليات الدينية.
6- بحث بدر الدين علالي، الأمين العام المساعد رئيس قطاع الإعلام والاتصال بالجامعة العربية، خلال لقاءه أحمد الجروان، رئيس المجلس العالمي للتسامح والسلام، في 23 سبتمبر 2018، إمكانية دعم الجامعة العربية لنشاطه، من خلال انضمامه بصفة مراقب، لأحد مجالسها الوزارية، لا سيما أن هذا المجلس يعتبر منذ انطلاقه في مالطة في نوفمبر 2017، وما لديه من أجهزة مثل البرلمان الدولي للتسامح والسلام، منفذًَا دوليًا للتعبير عن أسمى القيم الإنسانية ودعم مساعي التسامح والسلام حول العالم.
اعتبارات ملحة:
إن هناك دوافع عديدة لتزايد الاهتمام بدعوات التسامح في المنطقة العربية، وهو ما توضحه النقاط التالية:
1- اتساع رقعة الصراعات المسلحة: والتي برزت جليًا في المنطقة العربية بعد التحولات الثورية في عام 2011، ومع اشتعال النزاعات حدث تجاهل للحياة البشرية، الأمر الذي تطلب جهودًا لتعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب. إذ أطلقت الأمم المتحدة حملة “معًا لتعزيز التسامح”، وهى حملة عالمية تهدف إلى الحد من المواقف السلبية تجاه اللاجئين والمهاجرين وتعزيز التكافل الاجتماعي بين الدول والمجتمعات المضيفة واللاجئين والمهاجرين على حد سواء.
2- تجاوز الاحتقانات الداخلية: تتزايد هذه الاحتقانات نتيجة تعثر إدارة التعددية المذهبية والدينية في الدول العربية ذات الانقسامات المجتمعية. فما تمر به المنطقة من أزمات، تستدعي إبراز أهمية السلام ضد الحرب، والتسامح في مواجهة التطرف، والتفاهم في مواجهة التنازع. ولعل موجة الصراعات الراهنة تعبر عن حاجز الكراهية بين فئات وطوائف مختلفة داخل الدولة العربية الواحدة.
وفي هذا السياق، تعهد الرئيس العراقي برهم صالح، في 29 نوفمبر 2018، بحماية التنوع وإشاعة روح التسامح في البلاد. كما قال رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية، فايز السراج، في 4 يونيو 2016، أنه “لا مخرج للبلاد من الأزمة الراهنة إلا بمصالحة وطنية عمادها التسامح وتضميد الجراح وجبر الضرر، وتغليب مصلحة الوطن العليا”.
3- تعزيز قدرة التصدي على نزعات التطرف: التي تنميها تنظيمات إرهابية وجماعات مسلحة تستخدم عباءة الدين لترويج أفكارها المدمرة. ولعل ذلك يفسر التصريحات الصادرة عن وزراء خارجية وإعلام دول المقاطعة العربية لقطر، في توقيتات مختلفة، بعدم التسامح مع الدور التخريبي لقطر، بعد تدخلها في الشئون الداخلية للدول العربية، والتهديدات المترتبة على السياسات القطرية للأمن القومي العربي.
وفي هذا السياق، يأتي تدشين منصة مركز الملك حمد العالمي للتعايش، في 28 إبريل 2018، لأنه يرسخ معرفة الناس بأهمية التعايش السلمي وقيم التسامح وقبول الآخر ونبذ التطرف، وهى مؤسسة لا تستهدف البحرين فحسب بل ستكون هناك فعاليات تتجاوز المملكة إلى آفاق أرحب.
4- تأسيس جسور بين الجنسيات المقيمة على أراضي الدولة: وهو ما ينطبق جليًا على دولة الإمارات التي تحتضن ما يقرب من 200 جنسية، إذ تشير القيادات بالدولة إلى عدم السماح بالكراهية فيها، وعدم القبول بأى شكل من أشكال التمييز بين الأشخاص المقيمين عليها. فثقافة التسامح ليست وليدة اليوم في مجتمع الإمارات، بل هى ثقافة سائدة تعكس ترسيخ قيم التعددية، والقبول بالآخر، فكريًا وثقافيًا وطائفيًا ودينيًا.
5- تكوين قنوات مؤسسية للتواصل مع العالم الخارجي: تنطلق جائزة محمد بن راشد للسلام العالمية من التعاليم الإسلامية السمحة، وتتجلى فيها معاني التسامح والاعتدال، فضلاً عن دورها في تأسيس قنوات للتواصل مع الشعوب كافة والدخول في شراكات مع المؤسسات الثقافية المعنية في العالم لنشر مبادئ الوئام وقيم التسامح بين الأجيال، وعقد المؤتمرات الدولية، تحقيقًا للسلام العالمي.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر