للصين أكثر من وجه في معجزاتها الداخلية والخارجية. مسيرة الألف ميل تتكرر في السياسة والاقتصاد والسلاح والعلم وتنظيم النسل. أعادت إنتاج نفسها في صمت آسيوي من نوع خاص. ماوتسي تونغ، ملأ الدنيا سنوات وشغل الناس بقفزاته التي غيرت إيقاع سير الخُطا مرات ومرات، اختلفت المسيرات وطوبوغرافيا الطرق، لكن الحركة لم تتوقف. من حملات التطهير داخل الحزب الشيوعي وخارجه، إلى الثورة الثقافية، العلاقة مع التوأم الشيوعي الاتحاد السوفياتي اقترابا وابتعادا، وجسر العلاقة مع الخصم الرأسمالي القديم الولايات المتحدة الأميركية. الشيوعية الصينية كان لها كتابها الأحمر، وقوتها الطبقية المزارعون ومجالها الحيوي السياسي والعسكري والآيديولوجي. رحل ماو تسي تونغ ووضع إنجيله الأحمر في متحف الصين العامر بكل ما هو قديم. بعد ماو ولدت مسيرة جديدة بقادة جدد وعقل آخر، دنغ هسياو بنغ.
أفريقيا من الأراضي التي تحركت إليها الصين مبكرا منذ القرن الخامس عشر. الأباطرة (المنغ) أرسلوا بعثات كثيرة إلى الساحل الشرقي الأفريقي، وحملوا كثيرا من المنتجات والحيوانات الأفريقية إلى الصين. قبل بداية موجات الاستعمار الغربي في القارة، كانت أفريقيا جنوب الصحراء تتمتع بمنظومات اجتماعية وسياسية تقوم على ممالك محلية وبعضها له امتدادات تسيطر فيها القبائل الكبيرة على مساحات واسعة، وتتواصل مع الخارج عبر تجارة القوافل مع شمال أفريقيا ومع قارة آسيا وخاصة الصين والهند بواسطة وسائل النقل البحري. بعد الهيمنة البريطانية والفرنسية والبرتغالية على أجزاء واسعة من القارة وخضوع الصين للهيمنة البريطانية، أصبح التواصل والتعامل بين الصين وأفريقيا وخاصة الساحل الشرقي من القارة تحت سيطرة البريطانيين.
في النصف الثاني من القرن الماضي انطلقت حركات التحرير من الاستعمار في أغلب بلدان القارة الأفريقية، كان النظام الشيوعي في الصين داعما قويا لتلك الحركات. فتحت الأبواب لعدد كبير من الطلاب الأفارقة للتعليم في الجامعات الصينية، واستضافت بعض قادة حركات التحرير، وقدمت الدعم السياسي والعسكري والمادي لتلك الحركات.
لم يغب الاستقطاب الآيديولوجي لقطاع واسع من الشباب الأفريقي المقاوم من أجل الحرية، وقد تبنت بعض تلك الحركات الفكر الشيوعي.
التنافس بين الاتحاد السوفياتي والصين لم يغب سياسيا وآيديولوجيا عن القارة، لكن موسكو بحكم ثقلها العسكري والسياسي الدولي كان لها التأثير الأوسع والأهم في القارة. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع سطوة الايديولوجيا الشيوعية في الصين وغياب موازين الحرب الباردة، صارت قضية التنمية الاقتصادية هي المحرك الذي يضبط إيقاع حركة القادة السياسيين في أفريقيا جنوب الصحراء، وتراجعت هزَّات الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية. أعادت الصين بالكامل ترتيب وجودها في القارة، اندفعت بقوة في كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء ببرنامج اقتصادي واسع. لم تتدخل في المسارات السياسية الداخلية في الدول التي دفعت إليها بآلاف الشركات للعمل في مختلف المجالات الاقتصادية. تنقل إلى البلدان الأفريقية المنتجات الصينية وتستورد المواد الخام التي تمتلئ بها أفريقيا. لم تثر قضايا حساسة مثل حقوق الإنسان والحوكمة وغيرها، وقد رأى السياسيون الأفارقة في ذلك سلوكا مغايرا تماما لتوجهات الدول الغربية، ولم تقم الصين ببناء قواعد عسكرية وتكتفي بتقديم الأسلحة في صورة مساعدات وتفتح أبوابها لتدريب أفواج كبيرة من الكوادر العسكرية الأفريقية.
لقد نجحت الصين في أن تصنع عولمتها الخاصة بأن تؤسس لها رحابا حيوية بحضور ناعم في ربوع القارة الأفريقية اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وعلميا. في تحرك شامل صامت تغلغلت في مفاصل الحياة. لا تكتفي الصين بالوجود المادي بل تجذب أفريقيا إليها من خلال اللقاءات الدورية السنوية التي تعقد في بكين على أعلى مستوى بين القيادة الصينية والقيادات الأفريقية. نجحت الإدارة الصينية أن تحافظ على مسافات محسوبة بين كل الدول الأفريقية بل بين كل الأطراف المتنازعة في القارة، فقد خبرت العقليات الأفريقية بل حتى النفسيات. آلاف الشباب الصينيين يتقنون اللغات الأفريقية، ودارسون للتاريخ والأنثروبولوجيا الأفريقية.
العلاقة الصينية الأفريقية مسار جديد وخاص جدا في سياسات الدول التي تمتلك إمكانات هائلة ولديها القدرات البشرية والعلمية والمادية. نجحت الصين في تفادي خلق الإحساس بالهيمنة أو الاستغلال لدى السياسيين الأفارقة بل عند عامة الشعوب الأفريقية. ثقل التاريخ لا يفارق عقول وقلوب الأفارقة. عانوا من الاستعمار قرونا الذي سامهم مرارات العبودية، حملوا عبر البحار كأشياء، وفرضت عليهم ديانات وثقافات المحتل وتم الاستيلاء على ثرواتهم.
الصين نجحت بامتياز في إبداع صيغة جديدة للتعاون بين الدول بل مع قارة بكاملها تقريبا متجاوزة الحساسية الموروثة لدى معظم الأفارقة من الدول الكبيرة. ليس لها ماض استعماري في القارة وقد حددت بمنهج مدروس أبواب الدخول إلى القارة. الباب الأول القديم هو دعم حركات التحرير ضد الاستعمار العنصري، وبعد ما نالت كل البلدان الأفريقية الحرية يممت نحو الباب الاقتصادي، تجاوبت الحاجات الأفريقية والصينية. الصين تريد المواد الخام، وسوقا واسعة لمنتجاتها، وفرص عمل موصوفة لشبابها. باب آخر عرفت الصين مصراعيه وهو المساعدات الرسمية الخاصة. بناء قصور فخمة للبرلمانات والمؤتمرات والمدارس والعيادات والجامعات كهبة من الشعب الصيني كما يطلقون عليها. لم تثر قضايا حساسة، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من الأمور التي لا تتوقف الحكومات الغربية عن إثارتها.
تبادل المصالح والمنافع، هو شعار الوجود الصيني في القارة الأفريقية. كل طرف لديه ما يقدمه للآخر وما يطلبه من الطرف الآخر. هكذا ازدهر التبادل بين الصين وصديقتها القارة الغنية حتى بلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين 177 مليار دولار وتجاوزت الاستثمارات الصينية في القارة أكثر من ثلاثمائة مليار دولار. وتقدم قروضا ميسرة لمشروعات البنية التحتية في كثير من الدول. الصين تجد كل ما تحتاج إليه من المواد الخام في ربوع القارة من النفط والغاز والحديد والمنجنيز والنحاس والكوبالت والفوسفات واليورانيوم والألماس والذهب. الأنهار والأمطار ووجود أراض صالحة للزراعة تصل نسبتها إلى 35 في المائة من مساحة أفريقيا تفتح للصين آفاقا جاذبة لإنتاج المواد الغذائية، بالإضافة إلى الثروة السمكية الهائلة وكذلك الأخشاب التي تحتاج إليها الصناعات الصينية.
غدت أفريقيا المجال الحيوي الاقتصادي للصين وبعد عقدين من الزمان ستكون القارة سلة غذاء الصين وجبال المواد الخام. لم تهتم الصين الشعبية في السابق بوضع أقدام عسكرية لها في أراضي القارة، لكن حجم الاستثمارات الضخمة دفعها إلى الدخول في حسابات ضمانات لتلك الأموال الهائلة التي زرعتها في بلدان القارة، فأقامت مؤخرا قاعدة عسكرية في جيبوتي.
في عالم تتعالى فيه أصوات الصراع، وتتسع مساحات الصدام، استطاعت الصين أن تمد وجودها في فضاء جوفه غني وسطحه فقير، تبني فيه معالم حياة جديدة وسط قارة تتشابك فيها الغابات وتشتعل فيها الحروب الأهلية ويرتع الجوع في فجاجها الواسعة.