سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يبدو من الوهلة الأولى أن ما يجري – حاليًا – على صعيد العلاقات البريطانية الروسية، على خلفية تسميم العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال، في جنوب شرق بريطانيا باستخدام غاز أعصاب، 4 مارس/ آذار الجاري، بداية حرب باردة جديدة بين الطرفين، فشهدت الساعات الأخيرة، توترًا غير مسبوق، وصل ذروته بعد قرار رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، الأربعاء، بطرد 23 دبلوماسيًا روسيًا اتهمتهم بأنهم متورطون في قضية مقتل العميل الروسي، بعد إمهال الدبلوماسيين الروس أسبوعًا لمغادرة بريطانيا، وتعد هذه أكبر عملية طرد لدبلوماسيين منذ 30 عامًا[1]، وفي المقابل قررت موسكو طرد دبلوماسيين بريطانيين، ردًا على إجراءات لندن ضد روسيا، التي تراها لا تستند إلى أدلة، وخرجت في ممارساتها عن المألوف[2].
تعرض العميل البريطاني السابق سكريبال (66 عامًا) وابنته يوليا (30 عامًا)، في الأول من مارس، لغاز أعصاب لا تمتلكه سوى الحكومات، بالقرب من مركز تجاري في سالزبوري جنوب بريطانيا، حيث يعيش الجاسوس السابق بعيدًا عن الأضواء، بعد خروجه من السجن في روسيا. نقل سكريبال وابنته للمستشفى، وأصيب الشرطي الذي حاول إسعافهما هو الآخر، الأمر الذي كشف عن عملية تسمم متعمدة، يحتمل أن تكون بغاز الأعصاب، واتهمت بريطانيا الاستخبارات الروسية بتسميم العميل السابق.
وقبل الخوض في أبعاد الأزمة وما ستؤول إليه، أعاد حادث تسميم سكريبال إلى الأذهان، ملف حرب الجواسيس وعملاء أجهزة المخابرات، ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي، فإن حرب الجواسيس لا تزال قائمة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا من جهة أخرى. وبالعودة إلى التاسع من يوليو/ تموز 2010، استقبلت العاصمة النمساوية فيينا، عشرة جواسيس أدينوا في الولايات المتحدة بتكوين شبكة تجسس لصالح روسيا تمهيدًا لنقلهم إلى موسكو، ضمن صفقة لتبادل الجواسيس مقابل أربعة جواسيس روس أدينوا بالتجسس لصالح الغرب، وحكم عليهم بالسجن، وأصدر الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف عفوًا عن الأربعة ضمن صفقة التسليم، بعد أن أدانتهم المحكمة الروسية وقضى كلٌّ منهم فترة في السجن.
ضمت القائمة – وقتها – عميل الاستخبارات الخارجية الروسية ألكسندر زابوروزيسكي، والمحامي الكسندر سيباتشيف، والخبير في المجال النووي إيجور سوتياجين، ومنهم عقيد الاستخبارات العسكرية الروسية السابق سيرجي سكريبال، الذي تعرض لمحاولة تسميم، وتتهم بريطانيا الاستخبارات الروسية بتسميمه.
سيرجي سكريبال، عقيد سابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، جندته المخابرات البريطانية “إم آي 6” عام 1990، وانكشف أمره وقبض عليه عام 2006، وقال جهاز المخابرات الروسية “إف إس بي”، إن سكريبال سلّم المخابرات البريطانية أسرارًا ومعلومات مقابل مال، وتمت محاكمته عسكريًا وأدين بالخيانة العظمى، وتمَّ تجريده من الأوسمة والألقاب التي منحت له خلال خدمته في المخابرات العسكرية الروسية، وحكم عليه بالسجن 13 سنة، حتى أطلق سراحه ضمن صفقة تبادل جواسيس بين الغرب وروسيا عام 2010؛ حيث أطلقت المحكمة الأميركية سراح المتهمين العشرة في شبكة التجسس، وتمَّ تبادلهم مع الأربعة ومنهم سكريبال.
من بين الجواسيس العشرة المضبوطين في أميركا الذين تمت مبادلتهم مع سكريبال، كانت آنا تشابمان الجاسوسة الروسية، التي تحمل الجنسيتين البريطانية والروسية، ولكن الحكومة البريطانية جردتها من جنسيتها البريطانية بعد إدانتها في شبكة التجسس الروسية بالولايات المتحدة. وتصف وسائل الإعلام “تشابمان” بأنها “الجاسوسة الأكثر سحرًا”، حيث عملت عارضة أزياء وقدمت برنامجًا على شاشة التليفزيون الروسي، وتولت رئاسة مجلس الشباب، وتردد اسمها بعد عملية سكريبال، لكنها – حسب تقارير مختلفة – لم تكن بالقرب من الحادث، فضلاً عن أنها جردت من جنسيتها البريطانية.
كما ذكرنا سلفًا، أن تسميم سكريبال أشعل فتيل الأزمة من جديد، ما يعني أن العلاقات في السنوات السابقة شهدت العديد من الخلافات والأزمات، منها تزايد عمليات اقتراب الطائرات والسفن الروسية من المياه الإقليمية البريطانية، ما دفع بلندن إلى تصعيد اللهجة حيال الكرملين، مؤكدة أن البحرية الملكية متيقظة ومستعدة لضمان أمن بريطانيا. وبادرت بريطانيا عام 2017، إلى تعزيز قواتها الجوية المنتشرة في قاعدة لحلف الأطلسي في أستونيا في إحدى أكبر عمليات الانتشار للقوات البريطانية في أوروبا الشرقية.
وأيضًا عام 2016، شهد توترًا كبيرًا في العلاقات على خلفية ما اعتبره نواب بريطانيون تدخلاً روسيًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في حملة الاستفتاء حول البريكست. كما سبق واتهمت رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، روسيا بإطلاق حملات “للتجسس المعلوماتي”، والتأثير على الانتخابات من خلال نشر معلومات خاطئة على الإنترنت.
وقطعًا، يعد الملف الأوكراني من نقاط الخلاف الكبرى بين لندن وموسكو، فمنذ بدء المواجهات في أوكرانيا أواخر 2013، نددت بريطانيا بشدة بالسياسة التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لدرجة أنها أصبحت من الأصوات الأكثر انتقادًا لضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
ويضاف أيضًا إلى ما سبق، معارضة لندن للتدخل الروسي في سوريا. ففي مطلع مارس الجاري اتهم البريطانيون، مجددًا، الجيش الروسي بالمشاركة في عمليات القصف إلى جانب الجيش السوري، رغم التصويت على وقف لإطلاق النار في الأمم المتحدة. وحمل وزير الخارجية البريطاني روسيا، مسؤولية وقف إطلاق النار، طالبًا منها “وقف أعمالها العدائية فورًا”، في حين أجهضت موسكو، باستعمال حق الفيتو، مشروعي قرار من بريطانيا بشأن سوريا، الأمر الذي ولّد غضبًا في بريطانيا وانتقادات حادة للروس.
لذا، يمكن القول إن قضية “سكريبال”، دفعت العلاقات بين لندن وموسكو إلى حافة الهاوية، لكنها لن تنزلق إلى مواجهة عسكرية بين البلدين، وربَّما تمهد لحرب باردة بين موسكو ولندن، خاصة أنها تُعيد إلى الأذهان قضية شبيهة تعود لسنة 2006 عندما مات العميل السابق في أجهزة الاستخبارات الروسية الكسندر ليتفينينكو متسممًا بمادة البولونيوم 210، ووقتها – أيضًا – وجهت لندن اتهامات شديدة اللهجة لموسكو.
ويتمحور مشهد العلاقات المتأزمة بين لندن وموسكو، في تهديدات بريطانية شديدة يواجهها غضب روسي وإنكار لتورطها في القضية، ووسط هذه الحرب الكلامية المستعرة بين البريطانيين والروس، أعلنت كلٌّ من الولايات المتحدة ودول من الاتحاد الأوروبي، دعمها للموقف البريطاني وهاجمت روسيا، وأسفر هذا التصعيد البريطاني تجاه روسيا، عن عقد مجلس الأمن الدولي، اجتماعًا طارئًا، مساء الأربعاء، حول هذه القضية، حسبما أعلنت الرئاسة الهولندية الحالية للمجلس.
على الفور، رفعت لندن الأمر إلى مجلس الأمن وحلف الناتو، عقب انقضاء مهلة حددتها لندن لكي توضح موسكو كيفية استخدام غاز أعصاب “روسي الصنع” في تسميم سيرجي سكريبال وابنته يوليا، وبهذا الصدد ورد في بيان للناتو أن “الحلفاء أعربوا عن التضامن مع المملكة المتحدة، وعرضوا مساعدتهم في إجراء التحقيق، ودعوا روسيا إلى الإجابة عن استفسارات المملكة المتحدة، بما في ذلك الكشف بشكل كامل عن برنامج “نوفيتشوك” أمام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية”. وأُشير في البيان إلى أن “الحلفاء أعربوا عن قلق عميق إزاء أول هجمة باستخدام غاز أعصاب على أراضي الحلف منذ تأسيسه”[4].
وفي هذه الأثناء، أعلنت فرنسا[5] اتفاقها مع تقدير بريطانيا المتعلق بوقوف روسيا وراء هجوم على جاسوس سابق في بريطانيا، وأكدت تضامنها مع حليفتها، وهو الموقف الذي جاء بعد حذر وتردد فرنسي في البداية، بشأن توجيه اتهام مباشر لروسيا، خلافًا لموقفي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الأميركي دونالد ترمب، حيث أكدا، من اللحظة الأولى، لـ”ماي” أنهما يأخذان وجهات نظر حكومتها على محمل الجد.
مما يشير بشكل ما إلى بدء اشتعال الحرب الباردة بين الطرفين، ما بدا من خطوات تصعيدية وصلت إلى حد تخفيض حجم التبادل الدبلوماسي والحظر الإعلامي، فربَّما تلغي الهيئة المنظمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة البريطانية، الترخيص الممنوح لشبكة “روسيا اليوم”، على اعتبار أنها أداة دعاية موالية للكرملين، فيما حذرت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، من أنه لن يسمح لأي وسيلة إعلام بريطانية بالعمل في روسيا في حال إغلاق محطة “روسيا اليوم” في بريطانيا.
وتتعدد الطرق والإجراءات التي يمكن للحكومة البريطانية أن تتخذها كرد مباشر على روسيا، لكن أقواها تأثيرًا سيكون خرق البند الخامس من قوانين الناتو، الذي ينص على أن الاعتداء على أحد أعضاء الحلف هو اعتداء على الحلف نفسه، و”البند الخامس هو ما يمنع اندلاع الحرب بين روسيا والناتو” بحسب ما جاء على لسان مارك غاليوتي الباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ.
ومن الناحية الاقتصادية[6] والقانونية، يمكن للحكومة البريطانية أن تقوم بتطبيق قانون “مصادر الثروة غير المبررة” على مجموعة من رجال الأعمال الروس الذين يعملون على أراضيها، والقانون هو مجموعة إجراءات محاسبة تمَّ وضعها في كانون الثاني/ يناير الماضي، وتتيح للسلطات مصادرة ثروات وأموال المشتبه تورطهم بأعمال إجرامية. ومن الأوراق التي يمكن لبريطانيا استخدامها – أيضًا – ورقة كأس العالم لكرة القدم، وذلك عن طريق مقاطعتها لكأس العالم الذي سيقام هذا العام في روسيا، وهو – وإن كان مجرد إجراء شكلي – سيقوم حتمًا بإرباك وإحراج حكومة بوتين.
وأخيرًا، يقول المشهد الحالي، إن حادث تسميم الجاسوس الروسي، ليس سوى فتيل جدد إشعال أزمات وخلافات أخرى بين البلدين؛ إذ كشفت اللهجة الحادة المتبادلة بين لندن وموسكو[7]، العلاقات المتأزمة بين الجانبين منذ فترة، باستثناء محاولة باهتة لتجاوزها في نهاية عام 2016، عبر اتصال هاتفي بين بوتين وماي لإزالة التوترات، ولكنها – بالتأكيد – باءت بالفشل مع حادث ينذر بقوة بحرب باردة لا علم بنهايتها[8].
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع
[1] اغتيال الجاسوس “سكريبال”.. نذير حرب باردة بين روسيا وبريطانيا، وكالة أنباء الشرق الأوسط.
[2] لافروف: قررنا طرد دبلوماسيين بريطانيين ردًا على إجراءات لندن، روسيا اليوم.
[3] العلاقات البريطانية – الروسية إلى أين؟، يورو نيوز.
[4]الناتو يدعو روسيا للإجابة عن استفسارات بريطانيا حول قضية سكريبال، روسيا اليوم.
[5]بعد تردد.. فرنسا تدعم بريطانيا بشأن دور روسيا في استهداف جاسوس سابق، وكالة رويترز.
[6] جونسون: بريطانيا قد تستهدف حلفاء بوتين الفاسدين.
[7] روسيا: سنبلغ بريطانيا أولاً بردنا ثم نعلنها على الملأ، وكالة رويترز.
[8] جونسون: بريطانيا قد تستهدف حلفاء بوتين الفاسدين.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر