ChatGPT وعالمٌ يقفِزُ نحوَ المَجهول! | مركز سمت للدراسات

ChatGPT وعالمٌ يقفِزُ نحوَ المَجهول!

التاريخ والوقت : الجمعة, 16 ديسمبر 2022

د. وليد الروضان الشعلان 

التقدم المتسارع والقفزات الهائلة في مجال الذكاء الاصطناعي أضحت تفاجئ حتى المختصين في علوم الحاسب، وأنا أحدهم. فالمستوى الذي وصلنا إليه اليوم من حلول وتقنيات ذكية متاحة للعامة – إما ناضجة أو في طور التطوير – فاق تقديرات كل الخبراء. شرائح ذكية تتيح التحكم بالدماغ البشري، وتقنيات تخاطب واعٍ بين الأجهزة في العالم أو ما يعرف بإنترنت الأشياء، وطرائق تحليل البيانات الضخمة، وعالمًا افتراضيًا مذهلاً في الميتافيرس، وتقنيات التزييف العميق، وأخيرًا ما نحن بصدده في هذا المقال: تطبيقات المحادثة الذكية الآلية.

 في العام 2015م، قام “إليون ماسك” وآخرون بتأسيس شركة OpenAI المختصة في مجال الذكاء الاصطناعي برأس مال يناهز المليار دولار. وفي العام 2018م، استقال “إليون ماسك” من مجلس إدارة الشركة (إلا أنه لا يزال أحد ملاكها)، لتقوم شركة مايكروسوفت في العام التالي 2019م بضخ مليار دولار أخرى في الشركة. وعلى الرغم من أن OpenAI هي مؤسسة غير ربحية، فإنها تمتلك شركة ربحية باسم OpenAI LP، وقد قامت هذه الشركة الأخيرة في شهر نوفمبر الماضي بالكشف عن آخر منتجاتها الذكية: ChatGPT.

منتج ChatGPT هو تطبيق ذكي للمحادثة الآلية، وهو قادر على توليد منتجات نصية وفنية وعلمية وتقارير وغيرها، ولذا سمي بهذا الاسم: محول توليدي مسبق – التمرين، أو Generative Pre-trained Transformer. إذ يقوم المستخدم بالدردشة مع chatbot متطور قادر على الإجابة عن أصعب الأسئلة وتوليد تقارير ومنتجات رقمية معقدة. طريقة عمل ChatGPT موضحة في موقع الخدمة، وهي باختصار تعتمد على نظريات علمية في مجال الذكاء الاصطناعي كنظريات تعلم الآلة ونماذج الثواب والعقاب الذكي reward and punishment. يتم تعليم هذا المنتج الذكي بطريقتين: الأولى تعتمد على التدخل البشري المباشر، والثانية تتم بشكل آلي حيث يتعلم المنتج بنفسه وتتراكم خبراته ومعارفه بمرور الزمن والاستخدام.  يعمل المنتج على حواسب عملاقة وبنية تحتية من أنظمة Azure من مايكروسوفت. وعلى الرغم من توفر فرصة تجربة هذا المنتج في أغلب دول العالم، فإنها ما زالت غير متاحة في المملكة العربية السعودية حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

لأقرب لك إمكانات ChatGPT المذهلة، سأضرب بعض الأمثلة لما يستطيع هذا المنتج عمله. فبالإضافة إلى قدرته على إجابة أكثر الأسئلة تعقيدًا، وتجاوز عديد اختبارات الأسئلة المخادعة التي عادة ما تعجز المنتجات المشابهة عن تجاوزها، فهو أيضًا يملك ذاكرة حاضرة، حيث يقوم بتذكر كل تفاصيل تفاعلك السابق معه مما يجعله قادر على الإجابة عن أسئلتك بشكل أدق. يستطيع ChatGPT أن يولد أكوادًا برمجية مفصلة لأي تطبيق، كل ما عليك فعله هو كتابة متطلباتك وبأي لغة. كما يستطيع حل المعادلات الرياضية المعقدة وبسرعة. بالإضافة إلى ذلك، فهو قادر على تصميم طرق ومبانٍ وديكورات بجودة باهرة. أيضًا، باستطاعته توليد قصائد شعرية مرهفة ورسومات أصيلة بارعة ومقطوعات موسيقية خلابة، بل إنه يستطيع أن يكتب نصوصًا لأفلام ومسرحيات، أو ربما إن أردت أن يكتب لك حلقات جديدة من مسلسلك المفضل! بل لعل من الأمثلة التي أدهشتني كثيرًا هي قدرة ChatGPT على توليد خطبة لصلاة الجمعة باللغة الإنجليزية (أو أي لغة أخرى) تشتمل على أدلة شرعية ومراجع علمية، كل ما عليك فعله هو تحديد موضوع الخطبة! والأمثلة في هذا الصدد لا حصر لها، لكن هذا القدر من الأمثلة كافٍ لتوضيع الإمكانات الهائلة لـChatGPT.

لا أبالغ مطلقًا حين أقول إن العالم بعد ChatGPT لن يكون كالعالم قبله. فالإبداع الفني الإنساني أصبح مهددًا وبشكل حقيقي من قبل الآلة لأول مرة في التاريخ. وهذا يفتح الباب لأسئلة فلسفية عديدة حول ماهية الإبداع الفني الإنساني، وفيما إن كانت القصائد الشعرية التي يكتبها ChatGPT تعتبر ضمن هذا الإبداع الإنساني أم لا. إذا ما تخيلنا القدرة الكبيرة لهذا المنتج الذكي على التعلم، فهذا يعني أن إبداعه الفني في المستقبل قد يصل إلى مرحلة يصعب على الإنسان مهما بلغت موهبته من مجاراتها، مما سيقتل عديد المواهب. ومن أوجه التغير في العالم – التي بدأت بالفعل – هي طريقة تقييم الطلاب في الجامعات والمدارس، فالواجبات المنزلية باتت بلا معنى في ظل وجود مثل هذه التطبيقات الذكية. تتجه المؤسسات التعليمية في العالم الآن إلى إلغاء مفهوم الواجبات المنزلية تمامًا، وتعويضه بالاختبارات القصيرة والتقييم الحضوري المستمر. من أوجه التغيير أيضًا، أن البحث في الشبكة العنكبوتية سيعتمد بشكل رئيس على تطبيقات المحادثة الذكية بدلاً من محركات البحث، فلهذه التطبيقات القدرة على استيعاب دوافع البحث وتوفير نتائج أكثر دقة وبسرعة أكبر. أخيرًا، ستتأثر مصداقية كل ما تراه في عالم الإنترنت بعد اليوم سواءً كان خبرًا أو صورةً أو مقطع فيديو أو تقريرًا ماليًا… إلخ. كل شيء قد يبدو حقيقيًا وإن كان في غاية الزيف.

ومن أهم المجالات التي ستتأثر بهذه التقنية، مجال الأمن السيبراني. فـChatGPT قادر على توليد برمجيات خبيثة من فيروسات أو برامج طلب الفدية وغيرها، لأي مستخدم حسب الطلب، حتى وإن كان هذا المستخدم لا يملك أي خبرات تقنية. كما أنه يستطيع توليد رسائل اصطياد وتحايل موجهة وذكية لدرجة يسهل معها الإيقاع بأغلب المستهدفين. ففي تجربة مثيرة قام الباحث د. سليمان أوز أرسلان، مؤخرًا، باستخدام ChatGPT لتنفيذ حملات ناجحة من التصيد الرقمي وكتابة أكواد لبرمجيات خبيثة ذات فاعلية كبيرة. توجد تجارب عديدة مشابهة قام بها باحثون كثر في العالم، والنتائج صادمة ومخيفة. كما يؤكد الباحث الشهير في أمن المعلومات السيد “بروس شناير”، في تدوينة حديثة له، أن من المخاوف التي يجب الحذر منها في ظل وجود تطبيقات ذكية مثل ChatGPT هي إطلاق حملات إخبارية مزيفة وعلى نطاق واسع وبشكل سريع، مما قد يسبب تشتيتًا واضطرابات اجتماعية ومخاطر أمنية!

ختامًا، فإن ChatGPT ما زال يعاني من بعض المشكلات في خوارزمياته المنطقية وبعض المعضلات التقنية، ونقاط ضعف أخرى. لكن، أعتقد أننا شهدنا ما يكفي لأن نتوقع تجاوز كل هذه المشكلات والمعضلات في المستقبل المنظور. لذا، علينا الاستعداد للعالم ما بعد ChatGPT. يجب أن ندرك أن الإمكانات الرقمية للأفراد في هذا العالم تتضخم بشكل متسارع، وأن هذا – وإن كان مفيدًا في مجالات كثيرة – فهو ينطوي على مخاطر جديدة تتطلب حلولاً مواكبة. العالم اليوم يقفز إلى المجهول، على الأقل مجهول بالنسبة لي، إذ بات توقع شكل المستقبل القريب – ناهيك عن البعيد – ضربًا من ضروب المُحال. 

أستاذ الأمن السيبراني المشارك*

@warodhan

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر