سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
إبراهيم الروساء
بحلول الجيل السادس للاتصالات قد يبدو من الممكن أن تذوب الأشكال المعتادة من صناعة الصحافة وسط الذكاءات الصناعية والأدوات والخوارزميات المتجددة والمتطورة، وقد يحدث العكس بأن تستخدم الصحافة ذكاءها المعتاد في التماهي مع التحولات الجديدة، وتفرض نفسها وتتعامل وجوديًا معها كأي تخصص آخر يطور أدواته باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
إذًا لا يوجد ألغاز في العنوان، وآمل ألا يوحي بأن الصحافة كانت يومًا من الأيام غبية، ثم استذكت فجأة، أو أن قطع اللدائن ستلغي شيئًا اسمه صحافة أو تحذفه من التخصصات الاتصالية؛ فهذا غير واقعي في الوقت الراهن. واستطاعت الصناعة تجاوز اختبار الإعلام الإلكتروني مع اعترافنا بوجود تأثيرات، لكنها استطاعت النجاح بفضل القدرة الفائقة والمرونة الكافية التي تملكها الصناعة للتعامل مع المستجدات، والتماهي مع المتغيرات النوعية لكيفية صناعة المحتوى الإعلامي.
لا أدري لماذا تخيف التطورات التكنولوجية صناعة الصحافة وكأنها هشة إلى درجة تأثرها بأي نقلة نوعية. ولا أدري أيضًا لماذا لا يكف المشتغلون بهذه المهنة عن الحديث عن هذا الموضوع والمضي قُدمًا في استثمار أي تطور تقني وتكنولوجي بمعزل عن هذا التحوط القلق والمستمر. المتخصصون في سائر العلوم الرياضية والفيزيائية والجيولوجية والعلمية وغيرها من التخصصات الأخرى، تغمرهم فرحة عارمة بأي تطورات تقنية تحدث تأثيرًا في التخصص، إلا عالم الصحافة الذي يرتاب من كل صغيرة وكبيرة، وتضج المجالس والمنتديات والمساحات بهذه الأحاديث المرتابة والمتشككة في مؤامرة القضاء على المهنة، ولا يكاد نقاش يمر إلا وتظهر سلبية من أن تحل الآلة محل البشر وتفنى هذه الصناعة وجوديًا من البشر. وهذه المقالة هي لمعالجة هذا الخلل من فهم العلاقة بين الأداة والمهنة، وكيف يمكن أن تكون هذه التطورات أحد أسباب بزوغ نجم المؤسسات الصحافية التي أفلت بفعل شركات التقنية التي زاحمت شركات الإعلام ردحًا من الزمن وشاركتها، بل أكلت جزءًا كبيرًا من حصص الدعاية التي تعدُّ من أهم الموارد المالية للمؤسسات الإعلامية.
سأحاول خلال هذه المقالة تقريب وجهات النظر حول أثر أدوات الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وكيف يمكن استثمارها وتهيئة المؤسسات الإعلامية إداريًا ومهنيًا واستثماريًا لمرحلة التحول الجديد، وهل يمكن أن تكون مرحلة التحول الإلكتروني السابقة تجربة يمكن قياسها ثم عكسها على الغول الجديد الذي بدأ ينشر لغته الجديدة على عصر الاتصال. وسأتناول كيف تطور المؤسسات الإعلامية نفسها لمواجهة التحديثات المستمرة لأدوات الذكاء الاصطناعي ومدى ملاءمة الأوضاع الراهنة للتحول، وهل لدينا موارد بشرية قادرة على التوافق مع هذا التحول الجديد.. أسئلة كثيرة حاولت وضع إطلالات عاجلة، وإلا فإن الموضوع يحتاج إلى الكثير من البسط والبحث، وإجراء دراسات مطولة وجادة وعميقة من الجهات المختصة، والجامعات، وأصحاب الخبرة والرأي. ولعل هذه المقالة تدفع إلى إيجاد المزيد من البحوث والدراسات.
من الزحف السلحفائي إلى النقلة الضوئية.. نقلة صادمة
من أهم الأسباب التي تدعو المشتغلين بعالم الصحافة نحو القلق من المجهول هو اعتياد الصحافة على تغييرات بطيئة جدًا، ومنذ القرن الـ15 حتى القرن الماضي لم يطرأ تغيير جذري بالمعنى الحقيقي، وإنَّما تغيرات طفيفة طالت الورق والطباعة والنشر والتوزيع، في حين سجل القرن الحالي تغييرات هائلة وضوئية جاءت بعد الإنترنت والتحول الرقمي؛ وهذا يعني أن ما حدث في 20 عامًا يوازي ستة قرون مضت من عمر الصحافة بمفهومها الحديث. وبحسب الدكتور محمد القعاري، أستاذ الصحافة والاتصال الجماهيري المشارك، فإن رحلة الاتصال الإنساني مرت بستة عصور: الأول عصر الإشارات والعلامات، والمقصود هو التواصل البدائي بالإشارات والكتابة على الصخور والعظام والرسوم الأولية للغة؛ ثم العصر الثاني، وهو عصر التخاطب وتكوين اللغة؛ ثم عصر التدوين والكتابة؛ ثم عصر الطباعة؛ ثم عصر الاتصال الجماهيري؛ ثم العصر الأخير، وهو عصر الاتصال التفاعلي.
ومنذ بدأ الاتصال التقليدي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حتى حقبة ما قبل اختراع آلة الطباعة، لم تتطور الصحافة إلا بطريقة بطيئة وبطيئة جدًا. لكن مع مرحلة الاتصال الجماهيري، ثم الاتصال التفاعلي، أصبحت التطورات سريعة ونوعية أذهلت المشتغلين والعاملين والمتخصصين والمستثمرين بشكل صادم أدى إلى ردة فعل مستنكرة للتغيير. وقد رأينا ظواهر هذه النتيجة بشكل واضح من خلال تصريحات العديد من المستثمرين ورؤساء التحرير بعدم تقبلهم للتغير، وتكذيب المرحلة التفاعلية وتجاهلهم؛ حتى وقع السيف فوق الرقاب، واضطروا بعد ذلك للاستجابة المجبرة، ولكن بعد فوات الأوان.
إذًا، منذ الأزل والصناعة في تغير، وإن كان تغيرًا غير متساوي السرعة، لكنه تغير نوعي، وليس وجودي، وهذا مصدر التخوف. وبعض الآراء تذهب إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي موجودة ومطبقة منذ سنوات ولم تؤثر في الصناعة، بل أثرت فيها بصورة إيجابية ونضجت معها شكل الصور الإخراجية باعتبار أن آلات الطباعة، القديمة منها والحديثة، تعتبر أحد أشكال أدوات الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن شبكات الأخبار الداخلية برامج “محررات الأخبار”، وبرامج “الربط مع المصادر”، علاوة على تقنيات النشر والتوزيع الإلكترونية، وصولاً إلى طريقة النشر والتوزيع الرقمية.
هل سيظل باب نجار الصحافة مخلوعًا؟
لم تكد تنجو المؤسسات الصحفية والإعلامية من منافسة شركات التقنية وتتنفس الصعداء بعد تأثيرات الثورة الرقمية لأجيال الإنترنت الأولى وصولاً للخامسة، حتى حلت عليها طامة 6G وتحدياتها المقبلة. هذه النقلة الثورية – إن جاز التعبير – كانت صادمة للمهنة ذاتها، فضلاً عن المشتغلين بها الذين ظلوا غير مصدقين أنها ستفنى كيفًا وليس نوعًا. وحتى هذه اللحظة هناك مؤسسات صحافية تغلق أبوابها تباعًا مشدوهة من الموقف السريع الذي كان يمكن معالجته في المراحل الأولى، وطفقت بعض المؤسسات تستخدم مرهما لإخماد حرائق ضخمة، وحاولت جاهدة إيجاد حلول مساعدة للمضي بالمهنة إلى ضفة الأمان، لكن أتت “كورونا” على البقية الباقية من الحلم القديم ونسفت كل شيء، وتضاعف الضرر وطارت بعض الآمال المعلقة.
من ينظر عبر شرفة الإنترنت في بدايات القرن الـ20 يدرك حجم التحدي، وكان أول ما يجب على المؤسسات الإعلامية هو فعل ذلك وإدراك الخطر المحدق، لكن باب النجار مخلوع، ويُضرب لمن يقوم بإصلاح أبواب الآخرين ويهمل بابه. وهذه هي بعض المؤسسات الصحفية التي كانت أول من أنبأ عن خطر الرقمنة على حياة المؤسسة المهنية والإدارية والمالية، ولكنها طبقت نظرية الشخص الثالث، وكأن الأمر لا يعنيها البتَّة.
لقد كانت الصحافة وقادتها والمستثمرون فيها أول من يركب النذير، فقد كانت البشير عبر صفحاتها آناء الليل وأطراف النهار، وهي ليست مشكلة عربية، بل عالمية بدرجات متفاوتة، ومعظم الجهود جاءت متأخرة أو غير كافية، لكنها تبقى محاولات لإنعاش مريض القلب، وروشتة لإبقاء المريض على قيد الحياة فترة أطول لا أكثر.
قد يرتعش قلم الصحافي حينما يكتب نعيًا لصحيفته التي سال لها حبره، ونثر فيها إبداعه، وتشاطر مع الناس قضاياهم وحوادثهم، لكن “لا بدَّ من صنعا وإن طال السفر”. فرغم محاولات التحوط من إغلاق الصحف، وتوفير حلول إنعاشية، وتكرار الدعوات من كثير من زملاء المهنة للوقوف إلى جانب مؤسساتهم الإعلامية، لكنها محاولات لم تأتِ بنتائج قطعية، وقد سبقهم إلى ذلك وزير الثقافة البريطاني الذي ظهر مطالبًا الناس بشراء الصحف، ودعم صحافتهم المحلية، بعد أن توقفت نحو 50 صحيفة بريطانية عن الطبع.
إن رحيل المؤسسات الصحافية وغيابها عن المشهد ليس محليًا فحسب، إذ شهدت الساحة العربية مغادرة عديد من المؤسسات العريقة، إذ لم يكن وقوع خبر إقفال صحيفة “الحياة” سهلاً على مجتمع الصحافة؛ لأن 70 عامًا كانت كفيلة برسوخها في الذاكرة العربية كنافذة خبرية وسياسية لها جمهورها ومريدوها. ولم ينصت أحد لتنبؤات المآل الوشيك الذي طال مثيلاتها، مثل مجموعة الملياردير “روبرت مردوخ”، التي أقفلت أكثر من 100 صحيفة محلية وإقليمية لتكتمل سلسلة الإغلاقات ووقف الطبع لعشرات الصحف اليومية والأسبوعية في دول عدة، مثل: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا، والأخيرة خفضت حجم نشاطها الإعلامي وتحولت للنشر الرقمي مثل “شبكة 10” في سيدني التي أغلقت موقعها الإخباري، ومجموعة الإعلام المجتمعي الأسترالية ACM التي تنشر 170 مطبوعة في أنحاء البلاد أوقفت طبع أغلب الصحف غير اليومية والمجلات. لكن من كان يتوهم أن الأمر انتهى عند هذا الحد، فهو مخطئ؛ لأن الغول ما زال يتمدد على المؤسسات والجهات الإعلامية. وإن كان المال السبب فيما سبق، فإن الذكاء الاصطناعي سيكون المسمار الأخير، الذي يدق في نعش البقية الباقية من الصحافة التي ما زالت متماسكة أمام حرب الإعلانات وحيتان شركات التقنية.
هل تصمد المؤسسات الصحفية مجددًا؟
إن تحول المنصات التقنية إلى شركات تقدم خدمات إعلامية وصناعة محتوى باستخدام الذكاء الاصطناعي، أمر في غاية الصعوبة على صناعة الإعلام، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقامت شركات الإعلام والدعاية بسجن نفسها في تلك الشركات وعلقت مستقبلها على مشجب منصة مملوكة لشركة تقنية وليست لشركة إعلامية. وهنا التحدي الكبير الذي واجهته المؤسسات الصحفية باستخدام المحتوى الذي هو الرهان القاهر والمملوك بيد سلطة الإعلام الذي من المفترض أن تحافظ عليه وتتمسك به. لقد شاهدنا من يتساءل عن مستقبل الصحافة، وقرأنا من نبه بزوالها، ومن بشر ببقائها، وجرت حرب كلامية في كثير من المنصات، وألفت العديد من الكتب، وفي النهاية انتصر المنطق والمعقول؛ وهو أن التغيير سنة كونية لا يمكن التقليل منها أو إلغاؤها. لكن اليوم لا يوجد حديث على هذا المستوى، بل على مستويات الوجودية. وإن كانت واجهت الصناعة تحدي التقنية بهذه الصعوبة، فمن غير المنطقي أن تواجه الذكاء الاصطناعي بنفس الفكرة، بل حتمية التغيير ستكون بوتيرة أشد ضراوة.
إن فكرة أثر التطورات التقنية في صناعة الإعلام وانعكاسه على المؤسسات الإعلامية أخذت تظهر على ثلاثة أشكال: الأول استسلم وأصبح من التاريخ، ولا حديث لنا معه اليوم إلا ما يتاح من ذكريات وقصص الكفاح؛ وعكسه الثاني الذي تنبأ مبكرًا وتعامل بثقة وواصل العمل وتماهى مع المتغيرات لكنه موضوع الجزء المقبل. أمَّا الشكل الثالث، فهو المؤسسة الإعلامية التي ما زالت تصارع فكرة التغيير، وإنه لمن المقلق الحديث عن تجديد العقل الصحافي أو محاولات الإقناع بضرورة التحول ونحن على بعد خطوات من “6G” حيث عالم لا متناهٍ من المعلومات والبيانات ما يجعل هاتفًا واحدًا قادرًا على ابتلاع معلومات صحيفة يمتد عمرها إلى 100 عام، وفي الجوار نجد الروبوتات بدأت في التعلم الذاتي، بل أصبحت تلعب الشطرنج فيما تشهد منصة “فيسبوك” حاليًا 30 مليار عملية تقنية باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي بحسب البروفيسور “يورجن شميدهوبر، رئيس مبادرة الذكاء الاصطناعي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية.
المسكنات التي تمارسها المؤسسات الإعلامية حاليًا تطيل عمر المريض، لكنه لن يغادر فراش الموت. ومهما قاومت ذلكـ سواء من خلال تأجير الأصول، أو بيعها، أو تقليص عدد الموظفين، فهي علاجات مؤقتة وليست جذرية، والمطلوب هو التعامل مع الواقع وسرعة التعلم من دروس الماضي والتفكير في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوطين خوارزمياتها. وقد بدأ بالفعل عديد من الشركات والمؤسسات الصحافية، خصوصًا في أميركا والصين، بتطبيق أدوات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، أبرزها: وكالات أسوشيتد بريس، وشينخوا، ورويترز، والأخيرة لديها القدرة على صناعة وإنتاج الخوارزميات ذاتيًا.
نحتاج الآن إلى أكثر من مجرد وعي.. نحتاج إلى يقين
كنا نقول سابقًا إن المتغيرات سريعة ومتلاحقة، وهي درجة لا بأس بها من المعرفة والإدراك، ولكن ما نحن بصدده اليوم يحتاج إلى ما هو أعمق من ذلك؛ إلى اليقين واليقين المطلق بأهمية المتغيرات القادمة التي ستؤثر – بلا شك – في شكل الصحافة. وقد سلطنا الضوء في النقاط السابقة على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعة الإعلامية، ودلالات الوضع الراهن للصحافة. وحتى تتحول الأماني إلى خطوات تنفيذية، من المهم البدء بوعي الواقع لمعرفة الصعوبات والتحديات من أجل بذل الاستعداد الجيد والتخطيط المناسب؛ أول خطوات ذلك التأكد من أن طريق تحول الصناعة ليس مفروشًا بالورود، وسيكون صعبًا ويحتاج إلى الكثير والكثير من التخطيط والاستعداد في ضوء جملة من التحديات والصعوبات التي يحدث بعضها الآن، والبعض الآخر سوف يحدث في القريب العاجل. وحتى تكون الصورة واضحة سوف أضع أهم وأبرز تلك الصعوبات والتحديات في التالي وستكون مرتبة بحسب الأهمية.
أولاً: الموارد البشرية: وهي القوة الحقيقية ومن يقودون الدفة، لكنهم سيواجهون عقبة التدريب والتغيير، ومواجهة التحول السريع. وفي الواقع أن الجامعات لا تقدم مثل هذه الخبرات، ولم ينضج السوق بما فيه الكفاية لتوليد الكفاءات، وعلى المؤسسات الإعلامية التفكير بجدية في وضع رؤية واضحة لما ستؤول إليه الأمور بعد عشرة أعوام من الآن وهو موضوع العنصر القادم.
ثانيًا: الرؤية الاستراتيجية: لقد وضعت الموارد البشرية أولاً لأنه لا يمكن قيام رؤية استراتيجية دون العامل البشري القادر على التنفيذ بإحكام، فإن أي عمل ناجح يجب أن يستند إلى استراتيجية وأهداف واضحة وممكنات قادرة على تحقيق المستهدفات، وإلا يمكن كتابة خطة استراتيجية وتعلق على المكاتب؛ وبالتالي من المتعين أن تبدأ المؤسسات بالامتلاك التدريجي لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتوسيع الشراكات، محليًا ودوليًا، من أجل الحصول على التحديثات المتلاحقة واستطلاع براءات الاختراع، ودعم المواهب القادرة على إحداث نقلة نوعية من خلال دعم الابتكار، وحتى يتحقق ذلك لا بدَّ من تنويع مصادر الدخل لإيجاد حلول تمويلية عبر مراكز الابتكار بعيدًا عن عوامل الاستقرار السياسية؛ أي أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ستكون مرهونة بالأوضاع السياسية في غالب الأوقات مثلها مثل صناعة السلاح التي لا يمكن أن تمتلكها كل الدول بطبيعة الحال. والحل هو وجود استراتيجية واضحة؛ يعني الحصول على فوائد حتمية باعتبار أن للذكاء الاصطناعي القدرة على التنافس في مجال المحتوى الدعائي والتسويقي والبراعة في جذب الشرائح المستهدفة بدقة.
ثالثًا: وعي القائد أو القيادة أو مجلس الإدارة أو المستثمر: بغض النظر عن شكل القائد وبصرف النظر عن الجدل الحاصل الآن، فإنه من البديهي التفكير في تحويل الصعوبات إلى فرص. والواقع يعكس كيف استطاعت وسائل إعلام في عديد من الدول، التعامل مع التطورات النوعية في ميدان الصحافة، والأخذ بزمام التفقه في التقنية، وتوظيف الكوادر المؤهلة والأدوات المناسبة؛ لذا من المهم التحرك فورًا.
رابعًا: الآلة تبقى آلة: فلا يمكن تعويض العقل البشري مهما تطورت الآلة، لأنه مناط التفكير والإبداع، ولا يستطيع الروبوت حاليًا الوعي بالتطورات والمثيرات والقدرة على الاستقراء. ومن الجدل الدائر حول هذا التحدي إمكانية الاستغناء لاحقًا عن بعض الوظائف الإعلامية والوظائف الفنية. ومع اعترافنا بوجود حالات تم الاستغناء عن تخصصات، لكن هذا لا يعني الإلغاء. يمكن التقليص بسبب ضعف المهارات المتوفرة، أو قلة التدريب، أو عدم التخصص؛ وهذه ليست مسؤولية وسائل الإعلام وحدها، بل على المناهج والجامعات والمعاهد إعادة النظر في المخرجات المناسبة لسوق العمل الإعلامي. وافتراض أن الآلة ستكون بديلاً للبشر، هو افتراض مستمد من أن غرف الأخبار الحالية غير قادرة على التعامل مع الذكاء الاصطناعي، ويسوق المدافعون عن هذا الرأي عديدًا من الحجج. ومن ظريف القول مقال كتبه بالكامل آلة صناعية ونشرته جريدة “ذا جارديان” في سبتمبر من 2020 وكان عنوانه “هل أنت خائف بعدُ، يا بشري”؟.
“فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا”
هذا شطر من بيت الشعر الشهير للشاعر المصري أحمد شوقي، الذي قال:
“وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا”
وهذا البيت كافٍ لأن يترجم خطورة المتغيرات على المعايير المهنية والأخلاقية لمهنة الصحافة، فالتغير لا يطال المادة والشكل والصورة فحسب، بل أيضًا ما هو بالغ الرقة، وهي الرقابة الأخلاقية على التوجه والمحتوى والتحديات والمتغيرات المقبلة على صحافة الذكاء الاصطناعي، التي يمكن التعامل معها بطريقة فنية. لكن ثمة عوامل من الصعب التعامل معها، وهو من أصعب العوامل التي تقف أمام الصناعة، خاصة أنه بدأ يستشري بين ثنايا الصناعة، ويطوف بين التحايل والخداع والتضليل، وأنه مرتبط بأي تطور ينشأ عن خوارزميات الذكاء الاصطناعي وفق دراسات من جهات معتمدة؛ وأقصد أخلاقيات ومعايير الصدق والتحيز في بيانات الذكاء الاصطناعي. وقد نبهت عديد من الدراسات إلى خطورة المعايير الأخلاقية في محتوى الأخبار، وأنها تخضع للتحيز أو الميل الأيديولوجي، وآخر تلك الدراسات العلمية التقرير الصادر عن مؤشر الذكاء الاصطناعي المنشور عن معهد “ستانفورد” للذكاء الاصطناعي، وأكدت أن النتائج اللغوية للذكاء الاصطناعي متحيزة بدرجة موازية لقدرتها الفائقة على التوليد والتحليل والجمع. وصرح التقرير أن النماذج الأكبر حجمًا، هي أيضًا أكثر تحيزًا، وتتضح فيها أخلاقيات العمل أكثر من غيرها. وكشف مؤشر “ستانفورد” عن ظهور 280 مليار متغير تم تطويره في 2021 بزيادة 29 في المئة عن العام الذي قبله، وتعدُّ هذه النتيجة أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، وهي نتيجة صادمة بشكل كبير.
إن الموضوعية الإعلامية أمر دعائي لا وجود له على الواقع، لأن كل المؤسسات والوسائل الإعلامية لديها أجندة تريد تحقيقها من خلال توجيه المحتوى. وهذا أمر معروف في الصناعة، لكن في مجالنا اليوم سيكون هذا الخطر أكثر صعوبة، فالموضوعية ستكون متحيزة لجانب واحد أو قوة واحدة، وهي القوة التي تمتلك المعرفة.
وكشف التقرير عن تزايد الأبحاث المتصلة بالإنصاف والشفافية في الذكاء الاصطناعي، وكيف تحولت قضايا الإنصاف والتحيز والتجرد والموضوعية في الخوارزميات من كونها مسعى أكاديميًا في المقام الأول إلى أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من موضوع البحث السائد مع تداعيات واسعة النطاق وهواجس صحافية مستمرة.
وتعدُّ الأخلاق من أبسط حقوق المهنة، وأيُّ صناعة تفتقد الأخلاق فهي صناعة غير صالحة للاستخدام الإنساني، فكيف إذا كان الموضوع يتعلق بالبيانات التي من المرجح أن يتم التعامل معها من خلال مرجعيات ومؤثرات محددة في عمليات التركيب والإدخال والمعالجة، وهذه الشكوك تقود إلى مؤشرات سلبية في صناعة المحتوى، وتؤدي إلى نتائج وخيمة أيضًا. وبحسب ما توصل إليه مؤشر الذكاء الاصطناعي الصادر عن معهد “ستانفورد” للذكاء الاصطناعي والنتائج الأكثر تعقيدًا في هذا الموضوع، وعلى الرغم من المشكلات التي تعتري البيانات، فإن نتائج الاستثمار سجلت تزايدًا مذهلاً، وصل إلى 93.5 مليار دولار بنهاية 2021، أي إلى ضعف إجمالي الاستثمار الخاص في 2020. وكشفت في هذا الصدد عن سيطرة الولايات المتحدة والصين على محتوى المنشورات، وهذا أدى إلى تضاعف التعاون بين تلكما الدولتين في هذا المجال بنحو خمس مرات منذ 2010.
هل غرفة تحرير الأخبار في خطر؟
الجواب المباشر هو لا ، بل ستتطور أكثر وستكون نموذجية وعلى مستوى عالٍ من الذكاء للتعامل مع البيانات والتحليلات والمحتوى العميق والمتخصص والمطول. ولك أن ترى كيف كانت الصفحة الورقية التي حملت يومًا ما المانشيت الصحافي لعقود، هي نفسها شاشة الماكنتوش، والآيباد، والهاتف الذكي، والروبوت، ولا يمكن تحجيم الصحافة في الأدوات والوسائط، وستبقى المهنة مهنة ما بقيت البشرية. وأحب أن أبعث برسالة طمأنينة لزملاء المهنة والدارسين والمتخصصين والباحثين وكل من يعمل في القطاع، بأن الوظائف الإعلامية باقية، بل والحاجة للمهنيين يتزايد مع الوقت، وكل ما هنالك أنه على الصحفي أن يطور من مهاراته وأدواته الفنية واللغوية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستغني الحكومات أو القطاع الخاص أو أيًّا كان عن مهنة الإعلام والصحافة، ومن يقول بغير ذلك فهو يهرف بما لا يعرف. وحتى يدرك القارئ الكريم ذلك نعود قليلاً للوراء ونرى أن المجتمعات عندما اجتاحتها “كورونا” لم تكن مستعدة بما يكفي لأن تعتمد على المشاهير الذي يستخدمون منصات شركات التقنية، أو على مصادر أخرى، أو أدوات أخرى، غير المصادر والأدوات الإعلامية
التقليدية، وشاهدنا كيف واجهت الحكومات والمنظمات خطر العبث بمصادر الأخبار أو المعلومات المزيفة. ونستطيع ضرب قائمة لا تنتهي من الأمثلة، وآخرها عودة الجماهير إلى الصحف ووسائل الإعلام عند جائحة كورونا، بل صدور قرارات رسمية بعدم الأخذ بأي معلومة صادرة عن غير وسائل الإعلام الرسمية؛ لأنه في حال غياب تلك الوسائل المهنية تجد الجهات المختصة صعوبات في نقل المعلومات للناس؛ ما يزيد خطر انتشار المعلومات المغلوطة والضارة عبر مواقع التواصل.
ما الخلاصة؟ وما الذي نريد قوله باختصار؟
إن محاولة تشخيص الوضع الراهن وتقدير الموقف المستقبلي والآثار المتوقعة لتطورات المرحلة المقبلة على الصناعة، ستبقى محاولات لتسليط الضوء على مستقبل الإعلام، وشحذ الهمم نحو إدراك ما هو أعمق من التشخيص وأكثر من المعالجات السطحية المؤقتة؛ فهناك من يرمي التهم بضعف الإعلام العربي أمام الإعلام الأجنبي، فكيف سيكون وضعه بعد مواجهة تحدي سباق التسلح الإعلامي وامتلاك الخوارزميات اللازمة لتخصيب المحتوى وقيادته على المستويين الإقليمي والدولي. غير أن هناك أمورًا يتعين مراعاتها حتى تكون الصناعة قادرة على لعب دورها والمنافسة عبر تخطيط قادر على إحداث تغيير، واتخاذ تدابير تهدف إلى تحقيق مستهدفات من أبرزها:
أولاً: التخطيط لتنويع مصادر الدخل، وما يتعلق بأعمال التطوير والتأهيل والتدريب، تشمل النواحي الفنية والبشرية.
ثانيًا: التوسع في بناء وجذب جماهير جديدة من مختلف الأعمار والتخصصات، واستثمار التقنيات التي تستخدمها منصات الجذب الاجتماعي.
ثالثًا: التركيز على المحتوى من خلال تلوينه والمرونة في تبني المنهجيات والأطر الجديدة، والاتجاه نحو عنصرين أثبتا قدرتهما على إحداث التأثير، العنصر الأول: المحتوى المتخصص الجاد والعميق عبر المقالات التحليلية والوثائقيات المرئية والبودكاست المسموع، والعنصر الآخر: المحتوى الخفيف الترفيهي القصير، وتلوين الأخبار الجافة بالأصباغ الإعلانية، أي الإعلانات الإخبارية.
إن تشخيص المشكلة جزء من الحل، لذا بدأت المؤسسات الإعلامية الانتقال من مرحلة الصحافة الرقمية إلى الذكاء الاصطناعي، والأولى جزء صغير من الأخيرة، ولا أتفق مع تسميتها بصحافة الموبايل أو صحافة الهواتف الذكية باعتبار أنها صناعة تعتمد على معطيات مختلفة، مثل استخدام الأقمار الاصطناعية للاتصال والآلات للنقل الحي المباشر في مناطق يصعب على الإنسان الوصول إليها، فضلاً عن المخاوف من أن تتحول الدول الأقل استخدامًا لأدوات الذكاء الاصطناعي في الإعلام إلى سوق مخترقة من تلك القنوات والتقنيات الحديثة كافة، وصولاً لمعلومات سيادية من قبل وسائل الإعلام وصحافة الذكاء الاصطناعي.
ستتطور تجربة الواقع، وأجهزة تحديد المواقع، وأجهزة الرادار، والسونار، والطائرات دون طيار؛ لدعم البيانات المرئية وتحسين نقلها بسلاسة بلا حدود جغرافية، ولا قانونية، ولا قيود على حرية نقل الخبر، أو الوصول إلى المعلومات واشتداد المنافسة؛ والرابح في السباق من يقتنص تلك الفرص، ويستحوذ على أحدث التقنيات الحديثة، ويقوم بدمجها في صناعة الإعلام.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر