سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
بدأت الصين، منذ بضع سنوات، تأخذ طريقها جديًا نحو تبوُّء مكانة متفردة دوليًا، وتوسيع دوائر نفوذها على المستويين الإقليمي والعالمي، فقد أحدثت طفرة هائلة في التنمية، كما احتلت المستوى الثاني على مستوى العالم اقتصاديًا؛ مما تسبب في إعادة إحياء مقترح تشكيل تجمع آسيوي يضم اليابان والهند وأستراليا وأميركا، للحد من النفوذ الصيني الآخذ في التوسع والتمدد بشراهة، وهذا له دوافعه وتداعياته. إعادة إحياء فكرة تشكيل تكتل آسيوي يضم الرباعي سالف الذكر، بعد توقف دام عقدًا من الزمن، تحيلنا مباشرة إلى طبيعة العلاقات بين الصين وكلٍّ من اليابان والهند وأستراليا، ولا سيَّما أميركا، كلٌّ على حدة، ومن ثَمَّ مآلات استمرار الأوضاع الراهنة، أو أحداث تحولات في المشهد الجيوسياسي في قارة آسيا بالنسبة إلى الإشكاليات والنزاعات المتداخلة بين كافة الأطراف، سواء على المستويات التاريخية، أو الجغرافية، أو الاقتصادية، أو العسكرية. ففي الآونة الأخيرة، برزت اهتمامات جادة من جانب كلٍّ من الهند والولايات المتحدة واليابان وأستراليا بخلق إطار رسمي للتكتل الرباعي في قلب القارة الآسيوية.
وقبل الشروع في بحث أسباب توجهات الرباعي، نعود إلى طبيعة الثنائيات داخل القارة الآسيوية، فالعلاقات الهندية – الصينية المعاصرة، وتأرجحها بين التوافق والاختلاف المتباين بين الفينة والأخرى، وكذلك ما يدور في فلك العلاقات اليابانية الصينية، وما تحمله من دفء ملحوظ على الصعيد الاقتصادي، وبرودة سياسية حيال ملفات جغرافية وحدودية وتنافسية، في خضم ذلك يجب علينا هنا أن نشير إلى توجهات الصين الرسمية حيال ملف العلاقات الدولية، ومن ثَمَّ النظام الدولي، المتعارضة في جزء كبير من جوانبها، مع رغبة واشنطن بهذا الصدد، خاصة فيما يتعلق بطبيعة النظام الدولي الذي ترى الولايات المتحدة ضرورة أن يحتفظ بكونه أحادي القطبية، بخلاف الصين الساعية نحو نظام عالمي ثنائي أو متعدد الأقطاب. وعلى جانب آخر، فرغم ما تعتمده الرؤية الصينية من أطر سلمية تجاه دول الجوار الآسيوي، فإن توسع نفوذها العسكري والاقتصادي أثار الشكوك ناحيتها في محيطها الآسيوي والإقليمي، خاصة لدى اليابان والهند.
الهند في مواجهة الصين.. الصراع على النفوذ
فعلى صعيد العلاقات الهندية – الصينية، شهدت تغيرات متضادة من التفاؤل المفرط إلى الشك وعدم الثقة، ثم إلى الوفاق، لتتراجع عنه مؤخرًا بعض الشيء، وهو ما يمكن معه التمييز بين محطات أربع رئيسية: أولها، الاعتراف الهندي بالصين كمحطة رئيسية أولى في العلاقات بين البلدين. فعندما ظهرت جمهورية الصين الشعبية إلى الوجود أواخر عام 1949، نظرت إليها الهند نظرة تعاون أخوي، وكانت أول دولة تعترف بها؛ وهو ما يفسر الضغوط التي مارستها الهند لكي تحصل جمهورية الصين الشعبية على مقعد دائم في مجلس الأمن بدلاً من الصين الوطنية (تايوان).
وتتمثل المحطة الثانية في التدهور الكبير الذي شهدته العلاقات بين البلدين، بدءًا من عام 1959 بسبب المشاكل الحدودية وقضية التبت، التي لا تزال تعكر صفو العلاقات، وتسببت في اندلاع الحرب بينهما عام 1962. أمَّا المحطة الثالثة في العلاقات بين البلدين، فتتمثل في الوفاق الذي عرفته في أعقاب الغزو السوفياتي لأفغانستان، وامتد خلال الفترة بين عامي 1979 و1998. وبلغ هذا الوفاق ذروته عام 1991 عندما قامت الهند بتطبيع علاقاتها مع الصين. بينما المحطة الأخيرة في العلاقات الهندية – الصينية، بدأت مع التفجيرات النووية الهندية عام 1998، التي تعد بمثابة نقطة تراجع بارزة في العلاقات الثنائية بين الهند والصين.
ومن أبرز جوانب الخلاف بين البلدين، النظرة الهندية إلى الصين باعتبارها مصدر تهديد تقليدي ونووي لأمنها. إضافة إلى معارضة الصين للرغبة الهندية في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن. وفيما يتعلق بمستقبل العلاقات الهندية – الصينية، فإنه يمكن القول إنه يمثل صراعًا على النفوذ الإقليمي.
اليابان والصين.. اقتصاد دافئ في ظلال سياسي متوتر
اتبعت الصين في أواخر القرن العشرين، استراتيجية آسيوية، جوهرها التعاون الاقتصادي، وتلاشي فلك المنافسات مع دول الجوار، بقصد تكريس طقس إقليمي سلمي يمنحها فرصًا لتجاوز أزمات الداخل واستمرارية النمو الاقتصادي. وعلى إثر هذا التوجه تقوَّت علاقاتها التجارية والاستثمارية مع اليابان كثيرًا بحلول القرن الحادي والعشرين. وفي عام 2007 باتت أكبر شريك اقتصادي لليابان، ليبلغ الحجم التجاري بينهما ما يقرب من 350 مليار دولار في عام 2011، بما يعادل 9% من التجارة الخارجية للصين، و21% من الحجم التجاري الكلي لليابان.
ورغم هذا الترابط على الصعيد الاقتصادي، فإن التنافس العسكري والمعضلة الأمنية بين البلدين حملت أوجهًا مضادة، قوامها التنافس وعدم الثقة وتشكيك كل طرف في نوايا الآخر، ترتبط بشكل أو بآخر بميراث من التوتر خلقه الماضي الاستعماري للإمبراطورية اليابانية.
وفي خضم التوسع الصيني، انتاب الجار الياباني الكثير من المخاوف لعلوِّ المستوى العسكري للصين الشعبية، فتأخذ نظرية “الخطر الصيني” حيزًا أكبر في عقل صنَّاع القرار في اليابان، وأعربت الأخيرة صراحة عن مخاوفها من الإنفاق العسكري الصيني الذي تضاعف ثلاثين مرة خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وإن استمر على هذه الوتيرة، فسيتجاوز نظيره الأميركي بحلول عام 2035.
وفي نفس السياق، ساهمت الملفات الساخنة بين الصين واليابان – بشكل تدريجي – في تصاعد مستويات التوتر؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت العلاقة بين البلدين تشهد بين الفينة والأخرى، توترًا حول القضايا العالقة بينهما. وتتلخص أهم هذه القضايا في مسألة النزاع حول جزر سنكاكو/ دياويو، بجانب الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية، حيث يختلف البلدان حول قضيتين بحريتين: الأولى تتمحور حول ترسيم وامتداد الحدود البحرية لكل بلد داخل بحر الصين الشرقي. أمَّا القضية الثانية، فتتعلق بـ”أوكينو توريشيما”.
وفي ظل التوتر الراهن، فقد تهتز العلاقات الاقتصادية المتميزة بين ثاني وثالث أكبر اقتصادين عالميين، ومع محاولة فسخها، إن اندلعت حرب تجارية بين البلدين، فستهوي بالاقتصاد العالمي. وتتأتى تداعيات النزاع على الجزر من ناحية اليابان التي تراجع دستورها السلمي المعمول به منذ 1947، لإدخال تعديلات عليه تسمح لها بالمشاركة في لعب دور أمني أكبر على المستوى الدولي، وبالتالي مواجهة القوة الصينية المتنامية بشكل سريع. وعلى نفس الصعيد، تتوجه إلى إعادة التوازن بين علاقاتها مع أميركا خلال السنوات الأخيرة من جهة، وعلاقاتها مع الجوار الآسيوي من جهة أخرى، عبر التركيز على بناء تجمع شرق آسيا East Asian Community.
بحر الصين الشرقي.. صراع الكبار
في وقت سابق، أعرب “آبي” عن الرفض الياباني المباشر لسيطرة الصين على البحر الشرقي واعتماده بحيرة صينية، وأطلق إشارة إلى أهمية ما سمي بـ”عقد أمني ديمقراطي” يضم اليابان والهند وأستراليا وولاية هاواي الأميركية، يحمي حرية الإبحار عبر المحيطين الهندي والهادي. كما يعد بحر الصين الشرقي من المسائل الاستراتيجية شديدة الحيوية، لكلٍّ من الصين واليابان وأميركا.
بيْدَ أن الأسباب الداخلية، كمرحلة انتقال السلطة من الجيل الرابع إلى الجيل الخامس في الصين، مع عودة “شينزو آبي” إلى هرم السلطة اليابانية بأجندة متشددة تجاه الصين، لا سيَّما اعتبارات جيواستراتيجية، وكذلك الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الشرقي، مع تغير مركز الثقل الاقتصادي العالمي إلى شرق آسيا، وتحويل الولايات المتحدة تركيزها إلى منطقة آسيا – الباسيفيك، ووجود موارد طبيعية متنوعة وهائلة في هذا البحر، تدفع إلى تشكيل التكتل الآسيوي لمواجهة التمدد الصيني.
أميركا وثنائية الهند واليابان.. شراكات لا صراعات
تعد العوامل الجيواستراتيجية في مناطق آسيا الوسطى والخليج العربي وشمال إفريقيا، لامتلاكها أغلب احتياطيات البترول العالمي، من أهم نقاط الاتفاق بين أميركا من جانب، واليابان والهند من جانب ثانٍ، إضافة إلى الحفاظ على الوضع الراهن في آسيا الباسيفيك عبر التعاون العسكري في منطقة المحيط الهادي للحفاظ على الوضع القائم في آسيا الباسيفيك. وفي ضوء الحرب ضد الإرهاب، يمكن القول إن مستقبل العلاقات الهندية – الأميركية على حدة، في طريقه إلى التكامل أكثر منه إلى التصارع. فباتت العلاقة القوية مع الولايات المتحدة، عنصرًا رئيسيًا في سياسة الأمن الهندية، ويعد أمن المحيط الهندي من أبرز مجالات التعاون بين البلدين.
ويعد الدور الأميركي متغيرًا رئيسيًا، له تأثير مباشر على العلاقات بين الهند والصين، انطلاقًا من نظرة كليهما إلى علاقة الآخر بالأولى. وفي ذات الوقت الذي كانت العلاقات الصينية – الأميركية دون وفاق خلال تسعينيات القرن الماضي، شهدت العلاقات الأميركية – الهندية على الجانب الآخر، تحسنًا ملحوظًا في كثير من الصُعُد، باستثناء تلك العقوبات التي فرضتها الحكومة الأميركية على الهند عقب تفجيرات الهند النووية في عام 1998. وبخلاف ذلك تتلخص نقاط الاختلاف بين الهند وأميركا في برنامج الأولى النووي، وملفات تزوير العلامات التجارية وقضايا حقوق الإنسان، بجانب رؤية واشنطن لطبيعة الإصلاحات الاقتصادية في الهند بكون معدلاتها في النمو غير متوازنة.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عن العلاقات الأميركية اليابانية التي تحسنت كثيرًا على خلفية النزاع مع الصين، الذي غيّر توجهات اليابان وأعادها ثانية إلى الحضن الأميركي، وتبني تعزيز العلاقات الأمنية فيما بينهما، بعد مرحلة طويلة من التصدعات عقب انتهاء الحرب الباردة، ليتكون حلف استراتيجي لمواجهة الصعود الصيني. ويضاف إلى ذلك، النزاع حول الجزر الذي أجبر اليابان على إجراء تغييرات جذرية في استراتيجية الدفاع الوطني؛ والبدء في بناء قدراتها العسكرية تدريجيًا، وتطوير علاقاتها الأمنية والعسكرية مع دول مثل الهند وأستراليا، وبناء علاقات عسكرية مع الدول التي تشارك اليابان مخاوفها تجاه الصين.
أهمية التكتل للأطراف المعنية
من مناقشات الدول الأربع، تبيَّن أن مسألة إرساء منطقة (آسيا – المحيط الهادئ)، أو (الهند – المحيط الهادئ)، كما تسميها الولايات المتحدة، على قواعد تنظيمية منضبطة فاعلة تبقيها متمتعة بالحرية والانفتاح، هي قضية جوهرية لدى الأطراف المجتمعة، وبذلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب جهدًا حثيثًا لاستقطاب الهند للتجمع، تأكيدًا لأهميتها في الحد من النفوذ الصيني في المنطقة كهدف أولي صريح ومباشر. ومن ضمن أهداف الرباعي، تقديم الدعم للنظام الإقليمي القائم، فضلًا عن تسوية النزاعات الإقليمية البحرية، وتحرير الأنظمة التجارية، وترسيخ حرية الملاحة من أجل تعزيز التجارة الحرة وتوفير الضمانات الأمنية للبلدان الصغيرة الواقعة في الجنوب الشرقي للقارة وشرق آسيا.
أخيرًا، يجدر بنا استبعاد تشكيل الرباعي “ناتو آسيويًا”، نظرًا لطبيعة العلاقات التجارية بين عناصره والصين. ونستطيع أن نقول هنا إن بزوغ الفكرة من جديد – في نظرنا – على الأغلب لتحقيق إطار استراتيجي عرف بـ”الماسة الديمقراطية الأمنية”؛ لاحتواء الصين لصالح الرباعي الذي يرى في الصين بخلاف كونها منافسًا كبيرًا، أنها معارض حاد وصارم باستمرار للقوانين والأعراف الدولية المعمول بها، والمأمول بالنسبة للأطراف أن يبعث برسالة شديدة إلى مراكز صنع القرار في الصين بأن طموحاتها لن تستمر دون مواجهة حاسمة، ولن تنسحب أستراليا وأميركا بتاتًا من التكتل والسماح لبكين بالتمكن أكثر داخل القارة الآسيوية وبحر الصين الجنوبي، والمحيط الهادئ.
وحدة الدراسات السياسية *
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر