سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مايكل ج. مازار
أدت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتأييد الصين الضمني ذلك العنف الهادف إلى تقويض النظام العالمي إلى تكثيف المنافسة الاستراتيجية في العالم، التي باتت اليوم تتصدر سياسات الأمن القومي الأميركية.
إن ما بدا ربما حتى هذه اللحظة أشبه بتحد تجريدي وضبابي، قد غدا فجأة تحدياً حقيقياً وطارئاً وخطيراً. وفي رد فعل على ذلك، عمد عديد من المسؤولين والمحللين الأميركيين إلى دعوة الولايات المتحدة لتعزيز قدراتها العسكرية وتقوية دفاعاتها والاستثمار في مضمار التكنولوجيات الأساسية. ووفق هؤلاء يتوجب على واشنطن أن تكون جاهزة مرة أخرى كحالها دوماً أمام امتحان الإرادة، سواء تمثل ذلك بحروب بالوكالة أو تحديات أخرى أمام شبكة التحالفات الأميركية وشراكاتها الأمنية. ووفق وجهة النظر المذكورة يعتمد النجاح في مسابقة القوة العظمى هذه على مراكمة الانتصارات في سلسلة من التنافسات المنفصلة لإثبات التفوق.
بيد أن التاريخ يقدم درساً مختلفاً، إذ لا تنتصر الأمم في المنافسات الدائمة بالدرجة الأولى بفضل امتلاك تكنولوجيا وقدرات عسكرية متفوقة، ولا حتى عبر فرض إرادتها في كل أزمة أو حرب، فقد تقترف القوى العظمى أخطاء عدة، قد تخسر الحروب، وتخسر الحلفاء، وتخسر حتى تفوقها العسكري، لكنها تعود وتنتصر في المنافسات الطويلة الأمد، إذ إن الفارق الجوهري في الصراع من أجل التفوق الذي تخوضه القوى العالمية لا يتمثل بالقوة العسكرية أو الاقتصادية بل بالميزات والصفات الأساسية التي تسم المجتمع، أي تلك الخصائص الكامنة في الأمة والتي تولد مظاهر الإنتاجية الاقتصادية والابتكارية التكنولوجية والتماسك الاجتماعي والإرادة الوطنية.
لا يمثل الأمر طبعاً فكرة جديدة، فطوال عقود تحدث سياسيون ومثقفون وخبراء أميركيون كثيرون عن فكرة أن الجبهة الداخلية الحيوية والمرنة تمثل أساس النجاح في الخارج، لكن خلف مثل هذه الشعارات المبهمة ثمة خصائص وطنية محددة يمكن لعلماء الاجتماع تعيينها وقياسها. ولقد ترأست على مدى 15 شهراً دراسة نهضت بها “مؤسسة راند” RAND Corporation لصالح “دائرة شبكة التقييم” التابعة لوزارة الدفاع الأميركية. وقد استفادت الدراسة من تحليلات مؤرخين مستقلين تضمنت المراجعات والتقييمات المطلوبة. ومن خلال الاعتماد على سوابق تاريخية درسناها وأبحاث في مظاهر تطورات اقتصادية وتكنولوجية، ومجالات أخرى كثيرة غيرها، عملنا على تحديد عدد من الخصائص الوطنية التي مثلت عبر التاريخ أساساً لنجاح الأمم في خضم التنافس. وتتضمن تلك الخصائص وجود طموح وطني قوي، وثقافة التحصيل العلمي والتكيف، وبروز تنوع وتعددية مؤثرين.
وتشكل تلك النواحي من القوة الداخلية مداميك بناء القوة الدولية، لكن كي تؤدي نواحي القوة المذكورة إلى تمكين البلد الذي يمتلكها من النجاح ينبغي عليها أن تتضافر وتدعم بعضها بعضاً. كذلك يتوجب عليها أن تحافظ على التوازن في ما بينها، إذ إن الطموح الوطني الزائد على حده، مثلاً في بلد ما، قد يؤدي به إلى تولي مهام تتجاوز قدراته الحقيقية، والمبالغة في قوته وتعريض نفسه للخطر. في المقابل تكون البلدان المحدودة الطموح والقليلة التنوع والعديمة الانفتاح تجاه التعلم والتكيف عرضة للدخول في دورة سلبية، يمكن أن تؤدي إلى الانحلال والتدهور على الصعيد الوطني. في هذا الإطار تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم قاصرة تجاه عدد من الميزات التي عززت نهوضها خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا أرادت [الولايات المتحدة] استعادة ميزتها التنافسية، والتفوق في منافستها الراهنة مع الصين وروسيا، سيكون عليها القيام بأشياء تتخطى مجرد التفوق على المنافسين من ناحية الإنفاق على التكنولوجيات الدفاعية والعسكرية المتطورة، إذ سيكون عليها رعاية وتعزيز الميزات التي تجعل القوى العظمى قوى دينامية وخلاقة وقادرة على التكيف.
إدمان الإبداع
عشية الحرب البيلوبونيسية سنة 432 قبل الميلاد سافر وفد من كورنثة إلى إسبارطة في محاولة أخيرة لتلافي ما تحول لاحقاً إلى نزاع دام لأجيال. [إشارة إلى فترة الحروب المتواصلة بين المدن الإغريقية الكبرى آنذاك]. ويروي ثيوسيديدس [مؤرخ إغريقي عاش بين عامي 460 و400 قبل الميلاد، ويعتبر من أوائل المفكرين السياسيين] كيف اتهم الكورنثيون حلفاءهم الإسبارطيين بإغفالهم التنامي المقلق لقوة أثينا. واشتكى الكورنثيون من أن “الأثينيين مدمنو إبداع، وما يصممونه يتميز بالسرعة في فكرته وتنفيذه على حد سواء. لديكم عبقرية في الحفاظ على ما لديكم، يرافقها رغبة ابتكار مطلقة. وحين تضطرون إلى التصرف لا تذهبون أبداً بعيداً بما يكفي”. وتابع الكورنثيون شكواهم، “لوصف شخصيتهم [الأثينيون] باختصار يمكن للمرء القول بحق إنهم ولدوا في العالم كي لا يمنحوا أنفسهم الراحة ولا يمنحوا أحداً أي راحة”. بكلمات أخرى، فإن الخطر الذي مثلته أثينا لم يكن مصدره بالدرجة الأولى حجم قوتها البحرية وغنى أرضها وتربتها وعدد سكانها. بالأحرى، لقد نهضت أثينا كي تكون بديلاً من إسبارطة كقوة مهيمنة لأسباب أوسع وأكثر شمولاً، هي الصفات النوعية السامية لمجتمعها ونظامها السياسي.
وبعد ذلك بنحو 2000 سنة تكشفت قصة لافتة في تماثلها [مع ما جرى أثناء صعود أثينا]، فقد تغلبت الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي في “الحرب الباردة” لأنها كانت أكثر منه حيوية، وإبداعاً، وإنتاجية، ومشروعية. وبالفعل، عقد بعض المعلقين مقارنة مباشرة فاعتبروا واشنطن أثينا تلك القصة مقابل ما شكلته موسكو من محاكاة لإسبارطة الخاملة والمحافظة. وإلى حد ما ينطبق درس هذين التنافسين التاريخيين على مجمل التنافسات بين القوى العالمية، إذ إن الأمم، على الدوام تقريباً، تنهض وتسقط بسبب مجموعة من السمات الاجتماعية المتراكبة والمتشابكة التي تجعلها تتسم بالحيوية والأبعاد التنافسية الوطنية، لكن تحديد تلك الميزات يشكل تحدياً تحليلياً، إذ إن معظمها ميزات تجريدية وغير محددة بدقة. وكذلك يصعب أو يستحيل حتى محض قياسها [الميزات] على نحو موثوق، خصوصاً في سياق الوقائع التاريخية التي لا تتوفر المعلومات الدقيقة المتعلقة بها. قد يكون من الصعب أو المستحيل تقصي العلاقات العادية التي كانت موجودة بين الأطراف الفاعلة ضمن التفاعلات الجيوسياسية المركبة. وكنتيجة جزئية لتلك الصعوبة أو الاستحالة جاءت جهود عدة هدفت إلى تحديد العوامل الكامنة خلف مظاهر الحيوية والتنافسية، كي تطرح نظريات جوهرية تتعلق بالإرادة الوطنية أو الانحلال أو فرضيات تتعلق بتفوق ثقافات معينة.
البلدان التي لا تملك سوى القليل من الطموح والتنوع والانفتاح تجاه التعلم والتكيف تكون عرضة للدخول في دورة سلبية قد تؤدي إلى انحلالها وتدهورها
وبالتالي، ينبغي على كل محاولة تبذل بهدف تخطي ذاك التحدي أن تبدأ بتحديد معيار النجاح أو الفشل الوطني. وقد تبدو مقاييس النمو الاقتصادي أو مؤشرات الابتكارية التكنولوجية كأنها إجابات واضحة. في المقابل تشكل تلك الأمور عوامل تداخلية، بمعنى أن النمو الاقتصادي يشكل مصدر قوة وطنية بالتأكيد، لكنه أيضاً ينتج من عوامل أكثر جوهرية تولد النمو الاقتصادي. ويمكن قول الأمر ذاته بالنسبة إلى الابتكارية والتطور العسكري والإنتاجية ومعايير إنتاج مشتركة كثيرة غيرها تتعلق بالقوة الوطنية.
وثمة تعقيد إضافي في هذا السياق يتمثل في أن بعض البلدان الذي يسجل نتائج عالية في ما يتعلق بالمواصفات المرتبطة بالحيوية الوطنية والتنافسية لا يرتفع إلى قمة الهرم الدولي. إن بعض تلك البلدان المذكورة، كهولندا وسنغافورة، هي بلدان صغيرة جداً. وكذلك سبق لبعضها الآخر كالسويد وكوريا الجنوبية أن خسر نزعته للقيادة الدولية أو أنه لم يمتلك تلك النزعة أصلاً. وعلى الرغم من ذلك تولد تلك البلدان نمواً اقتصادياً وتطوراً تكنولوجياً ومستويات عيش عالية وتجانساً وطنياً ومحصلات كثيرة غيرها مرتبطة بالنجاح. وفي ذلك الصدد تتعلق المسألة بأن عوامل أخرى غير المواصفات الاجتماعية يمكنها المساهمة بفارق مهم في خضم نزاعات محددة، إذ امتلكت أثينا قدرة جيوسياسية أكبر وتأثيراً ثقافياً أبعد مدى بالمقارنة مع إسبارطة، لكن جزئياً وتحت ضغط جائحة مهلكة وأخطاء استراتيجية كاجتياحها جزيرة صقلية، بالتالي فقد خسرت الحرب البيلوبونيسية. ويستخلص من هذا كله أن كل جهد يسعى إلى تحديد المزايا الاجتماعية الإيجابية والمناسبة للتفوق ينبغي أن يلحظ المعايير المطلقة للقوة الوطنية كمعدل العمر المديد للسكان والقدرة على إحلال الأمن والازدهار، والمعايير النسبية على غرار النجاح أو الفشل في التنافس مع الأقطاب أو في الموقع والدور على مسرح الأحداث العالمي.
استطراداً، نظرت الدراسة التي أجريناها في “مؤسسة راند” RAND corporation في تلك المزايا جميعها. وقد دققنا في ما كتب وسجل حول صعود الأمم وسقوطها، ومصادر التطور الاقتصادي والتكنولوجي. وأجرينا عشرات الدراسات المتعلقة بحالات تاريخية أساسية. وألحقنا تلك الأبحاث التاريخية بأخرى أحدث منها تتناول مجموعة متنوعة من المسائل كاللا مساواة والتنوع والهوية الوطنية، بالتالي وجدنا أن الأمم التي تظهر الأنماط المطلقة وتحقق النجاح التنافسي تميل إلى أن تعكس سبع ميزات أساسية، سواء خلال فترات محددة من صعودها أو خلال حقبات أطول أثناء تربعها على قمة الهرم الدولي. تتمثل تلك الميزات في طموح وطني متوثب، وفرص مشتركة للمواطنين، وهوية وطنية جامعة ومنسجمة، ودولة فاعلة، ومؤسسات اجتماعية ناشطة، وتشديد على التعلم والتكيف، ومناخات تعدد وتنوع مميزة. وعبر الزمن وبين البلدان المختلفة تتنوع الروابط التي تصل بين هذه الميزات والنجاح الوطني التنافسي، على الرغم من أنها تبقى متناسقة عموماً. إنها ليست المتغيرات الوحيدة المرتبطة بالنجاح الوطني. ومن دون شك ثمة عوامل أخرى كالكوارث الطبيعية، والجوائح، والجغرافيا، لها أهميتها أيضاً، بيد أن بحثاً واسعاً على الأدلة أظهر أن هذه الميزات السبع تلعب دوراً كبيراً على نحو غير اعتيادي في تحديد المصير التنافسي للأمم.
أسس النجاح
تتمثل الميزة الأساسية الأولى التي يمكن القول نسبياً إنها تشكل أساس مختلف أشكال القوة الوطنية، في وجود نوع من الطموح الوطني المتوثب. وعلى الصعيد الخارجي ينتج نازع الطموح شعوراً بدور ورسالة وطنيين وإحساساً بعظمة الوطن ورغبة بالتأثير في السياسات الدولية. وعلى الصعيد الداخلي يولد هذا الطموح نازعاً وطنياً للتعلم والإنجاز والنجاح في كل شيء، بدءاً من الأبحاث العلمية وصولاً إلى الأعمال والصناعات والفنون. ويتطلب الطموح الوطني المتوثب التزاماً من الشعب كله بتحصيل المعرفة المتعلقة بالعالم واكتساب النفوذ فيه. ويهدف ذلك إلى الاستكشاف والتحكم، والفهم والتوجيه. وفي المقابل من الممكن دوماً أن يذهب هذا النازع في اتجاه خاطئ، إذ يشكل الإفراط في الطموح الوطني سبيلاً معروفاً نحو الفشل، سواء عبر حروب مدمرة يقرر البلد خوضها أو فتوحات إمبريالية تتخطى مصادر الأمة وتستدعي ردود فعل هدامة، لكن من دون هذا الطموح نادراً ما تتمكن الدول من بناء اقتصاد وطني فاعل أو بناء المحركات التكنولوجية أو التفوق في أطر التنافس النسبية بغية تثبيت نفوذها وسلطتها في العالم.
واستكمالاً، تأتي دلائل كثيرة على أهمية الطموح الوطني من الشواهد التاريخية، والعلاقة المباشرة إلى حد ما بين النجاح التنافسي وبعض مظاهر هذه الميزة (الطموح الوطني). ومثلاً، امتلكت روما طموحاً متوثباً، إذ إن صعودها نحو العظمة، إبان حقب الجمهورية الوسيطة والمتأخرة والإمبراطورية المبكرة، وتفوقها على القوى الأساسية في ذلك الوقت، اندفع قدماً بفعل عرف اجتماعي أعلى شأن السيطرة والسيادة والفتوحات. وعلى هذا المنوال يمكن أيضاً أن نرصد ضروباً مماثلة من الطموح، من ضمنها الإلحاح الداخلي للإنجاز والاكتشاف، عند أمم تميزت بدوافع تنافسية عالية، كمثل المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، واليابان “الميجية” [إبان حكم أباطرة الميجي بين 1868 و1920]، والمدن- الدول خلال عصر النهضة الإيطالي [في القرن الخامس عشر]، وغيرها. وتميل المجتمعات المتقهقرة للتأمل في ذبول تلك الروح المغامرة وكل ما يرتبط بها، كالتعطش للتطور، والطموح لتحصيل مستجدات المعرفة والاستعداد لتحمل المخاطر.
وإضافة إلى التمتع بطموح وطني متوثب تميل المجتمعات ذات النزعة التنافسية العالية إلى إشراك مواطنيها، وعلى نحو واسع، بالفرص المتاحة. وتؤمن هذه المجتمعات لمواطنيها سبلاً كثيرة للنجاح ولا تستبعد من الأدوار الإنتاجية سوى شرائح صغيرة نسبياً، بالمقارنة مع منافسيها الأساسيين في الأقل. وبفضل ذلك تحشد تلك الدول مقداراً كبيراً من مواهبها المتاحة وتفتح آفاقاً حقيقية أمام قطاعات واسعة من سكانها. ومع مرور الوقت تغدو تلك المجتمعات التي تظهر ذلك النازع أكثر إدماجاً لمكوناتها كافة في طرق عدة، فتمنح الحقوق والفرص الكاملة لمختلف الفئات الاجتماعية، وتؤمن سبلاً واضحة للتطور من الناحيتين الريادية والابتكارية. وقد اكتسبت روما واليابان الميجية، وحتى بريطانيا العظمى خلال الحقبة الصناعية، ميزة قوية في صيغ توزيع وتأمين الفرص لسكانها، وهي صيغ تبدو بمنظارنا الحديث شديدة الضيق، لكن بمعايير ذلك الزمن فقد طورت تلك المجتمعات عموماً طرقاً متزايدة في تحفيز المواهب الخلاقة بين أكبر عدد من سكانها، بالمقارنة مع فعلته منافسوها في البلدان الأخرى.
وعلى مر التاريخ أظهرت الأمم التي توزع الفرص والإمكانات بين أوساط مواطنيها تفوقاً على الأمم التي لا تفعل ذلك. وقد أدت سياسة روما في فتح باب الحصول على جنسيتها أمام الشعوب الخاضعة لها وإدماج العبيد المحررين في أدوار اجتماعية متميزة، إلى منحها ميزات اقتصادية وعسكرية. وعلى النحو ذاته، أسهمت الحركية الاجتماعية [الانتقال من طبقة إلى أخرى، خصوصاً إلى طبقة أعلى] الذي تميزت به بريطانيا والولايات المتحدة في منح هاتين القوتين ميزات تفوقتا بها على قوى أكثر تقييداً للحركية الاجتماعية في أوروبا القارية، الأمر الذي أسهم في تطورهما الكبير في المجالين الاقتصادي والعلمي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. كذلك توصل الباحثون عبر دراسات أكثر تحديداً وتخصصاً إلى أدلة وافرة على أهمية مشاركة الفرص والإمكانات وتوزيعها بين المواطنين. ومثلاً، ينظر إلى اللا مساواة بوصفها ظاهرة مرتبطة بمعدلات النمو الأبطأ وبالتلكؤ في مجال الابتكار، بالتالي يكون غيابها مقترناً مع النزعات الابتكارية والإبداعية القوية، واستطراداً مع النمو الاقتصادي.
وثمة خاصية أخرى تحفز النزعة التنافسية الوطنية تتمثل بهوية قومية منسجمة ومتناسقة، إذ تشيد المجتمعات الأكثر حيوية من الناحية التنافسية منجزاتها على أسس هوية جامعة، ومشتركة، ومتينة، أي ما يترجم في السياق الحديث بالمواطنة. وتسهم هذه الهوية المشتركة في مساعدة الأمم على تلافي معوقات التنافس والنزاع بين الفئات السياسية والإثنية، وكذلك تسهم في تمكين هذه الأمم من حشد الدعم الشعبي والوطني والاستفادة منه في إطار جهودها ضمن مسار التنافس الدولي. وعلى نحو رائع، أوضح المؤرخ ديفيد لاندس قوة الهوية الوطنية الجامعة والمنسجمة في كتابه “ثراء الأمم وفقرها” The Wealth and Poverty of Nations فأشار إلى أن “بريطانيا تمتعت بميزة مبكرة في أن تكون أمة، بيد أن ما أعنيه هنا ليس ببساطة نطاق الحاكم، وليس مجرد دولة أو كيان سياسي، بل الوعي بالنفس وجانب من الإدراك للذات يتسمان بهوية مشتركة وبالولاء والتكافؤ من ناحية الأحوال المدنية. وتستطيع الأمم المواءمة بين الهدف الاجتماعي والتطلعات والمبادرات الفردية، وكذلك يمكنها تعزيز الأداء من خلال تكافلها الجماعي. وتالياً، سيتجاوب مواطنو الأمة على نحو أفضل مع تشجيع الدولة ومبادراتها. وبوسع الأمم أن تتنافس. ولقد حفزت الدينامية عينها نهوض عدد من القوى المتنافسة الأخرى على مر التاريخ”.
إن صعود اليابان إلى مكانتها البارزة الصناعية والعسكرية في حقبتها الميجية، وكذلك في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جاء في جزء منه نتيجة هويتها الوطنية التوحيدية. وبصورة دائمة شحنت تلك الهوية بسجالات داخلية حول الطبيعة الحقيقية للشخصية اليابانية، وعلى الرغم من ذلك فإنها حفزت الروح الوطنية المتعلقة بالجهود المشتركة للأمة وبتضحياتها.
وعلى نحو مماثل تنحو المجتمعات ذات النزعة التنافسية الشديدة إلى الاستفادة من بعض أنماط الدولة الفاعلة بمعنى وجود حكومة منسجمة، وقوية، وفعالة، وذات هدف واضح، تستثمر في القدرات الوطنية وفي الميزات المجتمعية المفيدة. وقد اتخذت الدول الفاعلة أشكالاً مختلفة في دول مختلفة عبر حقب تاريخية متنوعة، إلا أنها عموماً رعت المؤسسات العامة والخاصة الأساسية لتحقيق النجاح الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. وقد عنى ذلك ضمانة النمو بقيادة الدولة وتحت إشرافها، ورعاية القطاع الخاص، وتعزيز الاستقرار الوطني وضمانته، وإنهاض أنظمة تعليم قوية، وضمانة وجود ما يكفي من الأسواق للتكنولوجيات الثورية المبتكرة، وحشد الإرادة الوطنية القوية في الظروف الصعبة. إن المثل الأكثر وضوحاً على دولة فاعلة تولد ميزات تنافسية هو الولايات المتحدة، منذ مطلع سياساتها الصناعية إلى المرحلة اللاحقة التي قدمت فيها الدولة الدعم للأبحاث والتطوير والتقنيات المحددة. كذلك تشكل المدن- الدول في عصر النهضة الإيطالية والمملكة المتحدة واليابان في العصر الحديث، أمثلة جيدة في هذا السياق. في المقابل، فإن إسبانيا الهابسبورغية [في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إبان حكم أسرة هابسبورغ للإمبراطورية الإسبانية] والسلطنة العثمانية في طورها الأخير، لم تستطيعا أبداً تطوير مقاربات منسجمة ومستمرة لرعاية عناصر أساسية في القوة الوطنية. وفي النهاية، انعكس ذلك سلباً على قدرتهما التنافسية.
تنحو المجتمعات ذات النزعة التنافسية الشديدة نحو الاستفادة من بعض أنماط الدولة الفاعلة
لقد صنف علماء الاقتصاد عشرات السبل التي تستخدمها الدول الفاعلة خلال حقبة الأمم الحديثة، في المساعدة على تحفيز النمو. ومثلاً، بينت ماريانا مازوكاتو مدى الأهمية التي اتسم بها دعم الدولة لتطورات أساسية في تكنولوجيا المعلومات، والطاقة الخضراء، وصناعة الأدوية والمستحضرات الصيدلانية. كذلك فإن تكنولوجيا الإنترنت والـ”جي بي أس” تطورت في أحد مناحي مسارها عبر برامج وضعتها “وكالة المشاريع البحثية الدفاعية الأميركية المتطورة”، وقد أسهم الدعم الحكومي في المساعدة على تكاثر عشرات التكنولوجيات الأخرى، منها الطاقة النووية وأنظمة الطيران المتطورة.
وفي المقابل تعتمد الدولة الفاعلة على إحدى الميزات الإضافية في المجتمعات التنافسية، وتتمثل بالمؤسسات الاجتماعية الفعالة. ووفق ما أظهر علماء الاقتصاد دارون عاصموغلو، ودوغلاس نورث، وجايمس روبنسون، فإن المؤسسات القوية والجامعة تعزز النمو الاقتصادي وتقوي شرعية الدولة، وكذلك تتجاوب مع التحديات الاجتماعية وتنتج قوة عسكرية كفؤة. في المملكة المتحدة، مثلاً، أسهم البرلمان الذي عمره قرون، والقطاع المالي المتين والبحرية القوية في نهضة بريطانيا وصعودها اقتصادياً وجيوسياسياً. في المقابل، كشف تلاشي الاتحاد السوفياتي وانهياره في النهاية عما يحدث حينما تقع المؤسسات في قبضة الفساد والعقم. وعلى غرار الميزات المتعلقة بالتفوق التنافسي، فإن المؤسسات الاجتماعية الفعالة لا تكفي وحدها لتفسير النجاح أو الفشل الوطنيين. وبهدف جعل تلك المؤسسات نافعة ومنتجة ينبغي أن تقترن بقيم وعادات اجتماعية واسعة المدى.
ثمة خاصية إضافية تتشارك فيها معظم المجتمعات التنافسية تتمثل في ميلها إلى إيلاء عناية اجتماعية قوية بالتعليم والتكيف. ويدفعها إلى ذلك الحاجة إلى الإبداع والاستكشاف والتعلم. فبدل التقيد بأغلال التزمت والتقاليد تتبنى تلك المجتمعات والأمم نزعات التكيف والتجريب وتنفتح على الابتكار في السياسات العامة ونماذج الأعمال والمفاهيم والمبادئ العسكرية، وكذلك الحال في الفن والثقافة. وعلى مر التاريخ، من أثينا إلى روما وصولاً إلى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الصناعيتين، ارتبط النجاح التنافسي ارتباطاً وثيقاً بانتشار الفضول الثقافي والعلمي والالتزام بالتعليم. وقد جاءت دراسات حديثة في الآونة الأخيرة لتقدم أدلة على العلاقة الإيجابية بين الالتزام بالتعليم التكنولوجي الحديث والنمو والابتكارية، وأيضاً بين التحصيل العلمي والنمو.
وأخيراً، فإن الأمم الأكثر حيوية وتنافسية تتميز بدرجة عالية من التنوع والتعددية، إذ تسهم مناخات واسعة من التجارب والرؤى في توليد مزيد من الأفكار والمواهب التي تعزز استدامة القوة الوطنية. وكذلك تقوي التعددية أيضاً في مؤسسات ومنظمات كالشركات والأفرع العسكرية، وذلك من طريق دفعها إلى المحافظة على النزعة التنافسية. وكذلك يتخذ التنوع أنماطاً عدة مختلفة. وحتى الأمم المتماثلة والمتجانسة من الناحيتين الإثنية والعرقية، كالمملكة المتحدة في الحقبة الفيكتورية أو اليابان المعاصرة، يمكن أن تبقى قادرة على إنتاج تنويعة سياسية وتجارية واسعة تسهم في تعزيز النزعة التنافسية الوطنية.
وفي سياق متصل، يعد التنوع بالمعنى الحديث بفوائد وميزات تنافسية محتملة. وتميل المجتمعات التي تحتضن التنوع والاختلاف وتمتصها ضمن نسيجها، إلى عدم تبني قواعد متزمتة جامدة كابحة للتنافس والابتكار. ويضاف إلى ذلك أن قدرة هذه المجتمعات على استيعاب الأجانب تسهل لها أمر اجتذاب المواهب القادمة من الخارج. وقد أسهمت تلك الميزات في مساعدة عدد من القوى العظمى على النهوض والاحتفاظ بسماتها التنافسية. كذلك دعمت مساهمات المواهب القادمة من الخارج، التي تعزز الحيوية الوطنية، بمقدار كبير من الأبحاث التجريبية حول التنوع في المؤسسات.
وصفة متوازنة
تأتي كل من تلك الميزات السبع مقترنة بنزعة التنافسية الوطنية، لكن لا يمكن حتى للمجتمعات التي تتفاخر بأنها تضمها كلها [المزايا السبع] أن تضمن نجاحها على المدى الطويل، إذ يتوجب على الأمم التي تنتصر في المنافسات الطويلة الأمد تحقيق التوازن ضمن كل ميزة من هذه الميزات التي قد تدخل في دوامة تلتف فيها على بعضها بعضاً وتنازع نفسها بنفسها. وربما ينطبق ذاك أكثر ما يكون على ميزة الطموح الوطني التي قد تقود الأمم إلى إجهاد نفسها، بيد أن الأمر يترك تأثيراً في الميزات الأخرى أيضاً. ومثلاً، يمكن للجهود المبذولة في بناء دولة فاعلة أن تنتج أجندة ذات طابع مركزي تبدأ بالتخثر وتتجه نحو السلطوية والتزمت. ويمكن للمؤسسات الفاعلة في هذه الحالة أن تغدو بيروقراطيات متضخمة وخانقة. وكذلك قد تؤدي التعددية المفرطة إلى تفكك الوحدة الوطنية. لذا سعت الأمم الأكثر حيوية ونجاحاً إلى تبني تلك السمات والميزات باعتدال وتوازن.
تكتسب الأمم ميزة تنافسية هائلة من وجود نخبة حيوية في مجتمعها تكون عقولها منشغلة بالشأن العام
وعلى نحو مواز عملت تلك الأمم على تمكين الميزات السبع الآنفة الذكر، كي تتآزر وتتعزز مع بعضها بعضاً، إذ تتأتى المنفعة الأقوى لكل واحدة من تلك الميزات بفضل تأثيرها المتضافر مع الميزات الأخرى، وليس من تأثيراتها الذاتية حصراً. وتتآزر ميزتا الطموح الوطني وثقافة التعلم والتكيف، مع بعضهما بعضاً بقوة، وكذا تفعل ميزتا الدولة الحيوية والمؤسسات الفاعلة. كذلك ينبغي لميزة المشاركة في الفرص أن تقترن بشيء من التنوع والتعددية، كي تؤتي ثمارها الحقيقية، بالتالي إن وصفة النجاح الوطني، بمكوناتها التي تؤازر وتقوي بعضها بعضاً، تظهر في جميع المجتمعات المتفوقة بنزعتها التنافسية، لكن مع وجود اختلافات تتعلق بالحقب الزمنية والمقاربات، إذ تدمج تلك الوصفة الطموح الوطني المتوثب والمدعوم من قبل الدولة، مع رأسمال بشري متنوع ومتعدد، ومؤسسات اجتماعية فاعلة وحكم القانون، وروحية الجماعة الوطنية المتكافلة، وتقدير عميق محسوس للتجريب والأفكار الجديدة.
واستطراداً كي تتمكن هذه الوصفة من إنتاج النجاح التنافسي يجب أن يمتلك المجتمع نخبة تتمتع بروحية شعبية، إذ تكتسب الأمم قدرة تنافسية عظيمة من وجود نخبة حيوية في مجتمعاتها تهتم عقولها بالشأن العام، وتمثل المجتمع الأوسع، بل ترتبط به عبر مسارات الحركية الاجتماعية. وفي المقابل، إذا فسدت نخبة الأمة أو الشريحة الكبرى من تلك النخبة، أو غدت نخبة همها الأجر الذي تتقاضاه، فلسوف تتقوض حيوية الأمة ومرونتها واندفاعها التنافسي. إذاً وعلى نحو بالغ الأهمية تؤدي نوعية نخبة الأمة دوراً حيوياً في تحديد شرعية مؤسساتها الحكومية. وحين تعتبر النخبة غارقة في الفساد ومهتمة بمصالحها الخاصة بدلاً من أن توجه جهودها للصالح العام والمجتمعات التي تضمها والمؤسسات التي تديرها، فإنها غالباً ما تضمر وتنحل.
في أعلى التلة
كل ما تقدم ذكره ينبغي أن يحيل القادة الأميركيين إلى التفكر. ففي النصف الثاني من القرن العشرين أتقنت الولايات المتحدة، أفضل من أي أمة في التاريخ، الوصفة المناسبة للنزعة التنافسية الوطنية. وحتى الآن تستمر مزايا المجتمع الأميركي في إظهار عناصر قوية ترتبط بالمزايا والسمات السبع الأساسية، خصوصاً الحركية الاجتماعية، والتنوع والتعدد السياسي. أكثر من ذلك فإن المؤسسات الحكومية الأميركية، بجميع مستوياتها المحلية والفيدرالية، على الرغم من مشكلاتها ما زالت تحتل مراتب عالية في التقييم الدولي من ناحية الشفافية والفاعلية، لكن هناك أيضاً أسباباً جدية للقلق في هذا الإطار. إذا استمرت الولايات المتحدة في سلوك وجهتها الراهنة فستواجه احتمال تسلل الضعف إليها أو حتى احتمال خسارة عدد من السمات التي جعلتها على مدى الــ75 سنة الأخيرة القوة العالمية الأولى.
وعلى نحو خاص ثمة مخاطر تحيط أربع من السمات والميزات السبع الأساسية. تتمثل واحدة من تلك السمات في الإرادة الوطنية والطموح. ويشير دليل استقي من بحث استطلاعي إلى أن الأميركيين الشبان لا ينظرون إلى الولايات المتحدة وقيمها وطموحاتها، بالمنظور نفسه الذي يعتمده الأميركيون الأكبر سناً. ومثلاً، توصلت دراسة استطلاعية أجرتها سنة 2019 “مؤسسة أوراسيا غروب” Eurasia Group Foundation، إلى أن 55 في المئة من الأميركيين بين سني الـ18 و29 من العمر لا يرون في الولايات المتحدة “استثناء”، بالمقارنة مع 25 في المئة في أوساط الأميركيين فوق عمر الـ60. بالطبع إن الاعتقاد باستثنائية الولايات المتحدة لا يتطابق أو يعادل بأهميته سمة الطموح (الوطني)، لكنه يشير إلى مستوى الثقة بالدور الوطني ورسالة الأمة. وإذا أخذنا في الاعتبار الدراسات الاستطلاعية الكثيرة التي تظهر تصاعد شعبية الموقف السلبي تجاه الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية الأميركية في خارج البلاد وعبر البحار، فإن انحسار ثقة الأميركيين بدور بلادهم ورسالتها يشير إلى بلاد أقل ثقة بنفسها مما كانته في السابق. وفي خضم عدد من المسائل والمشكلات تكشف الدراسات الاستطلاعية عن أن الأميركيين عموماً باتوا أقل إيماناً بالمستقبل وبمؤسساتهم السياسية والاجتماعية الرئيسة، مما كانوا عليه قبل نصف قرن. وهكذا نتائج استطلاعات كانت على الدوام تنحسر وتتدفق، وكان الأميركيون لعقود عديدة مضت يظهرون إيماناً قليلاً ببعض مؤسساتهم كالكونغرس، لكن بصورة إجمالية ترسم استطلاعات الرأي العام صورة لأمة لم تعد واثقة من نفسها، ولا بحقها وواجبها بفرض إرادتها على العالم.
وقد تكون الهوية الوطنية المشتركة للولايات المتحدة في مواجهة خطر أكبر. فعلى نحو متزايد تظهر معطيات الاستطلاعات وغيرها من الدراسات المتعلقة ببعض المظاهر كـ”الفرز الترابطي”، الذي يشير إلى انتقال الناس للعيش بين آخرين يشبهونهم في التفكير والآراء، أن البلاد تغدو منقسمة بين معسكرين يتبادلان الحذر من بعضهما بعضاً وليس بينهما سوى مساحة مشتركة صغيرة، هذا التفرق الوطني تسارع بفعل بيئة معلومات منعزلة تتيح انتشار المعلومات والأخبار المضللة ونظريات المؤامرة.
كذلك تظهر علامات الوهن والتراجع على المشاركة في الفرص [بمعنى تعميمها وإتاحتها للمجتمع]، إذ تتزايد اللا مساواة، فيما تبدو الحركية الاقتصادية بين الأجيال متعثرة. ووفق ما أظهر الباحث الاقتصادي راج تشيتي والمتعاونون معه ضمن “مشروع هارفرد عن الرؤى في شأن الفرص” لا يجني سوى نصف الشباب اليوم دخلاً أعلى من الدخل الذي جناه أهلهم، بالمقارنة مع معدل 90 في المئة سجل في هذا الإطار ضمن أوساط المولودين سنة 1940. ولم تتمكن جهود سعت إلى رأب الفجوات في الفرص من ناحية الوصول إلى رأس المال الاستثماري من تحقيق نتائج مرضية تسهم في قلب المسار المقلق السائد. وقد بقي مستوى مشاركة الفرص، في أحسن الأحوال، راكداً، وهذا المستوى قد يبدأ بالتراجع بعد عقود من التقدم والنجاح.
أخيراً، تواجه روحية التعلم والتكيف في الولايات المتحدة تهديداً متزايداً من قبل بيئة معلومات مفسدة ومدمرة. إن المجتمعات التنافسية كائنات تتعامل مع المعلومات، وتعمل مكوناتها المختلفة على تلقي رؤى عن العالم وتحولها إلى أفعال وتصرفات، بيد أن سوق المعلومات الأميركية تعاني الفساد جزئياً بسبب الكمية الهائلة من المعلومات المضللة التي تتلاطم في وسائط التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الميل إلى الإثارة في إعلام الأخبار، وتشتت مصادر المعلومات، وبروز أخلاقيات “التصيد” التي تشجع على العدائية وروحية الخبث في المناقشات العامة.
تستمر الولايات المتحدة في إظهار قدرات اجتماعية جلية وواضحة، لكن المعطيات المتعلقة بمسائل عدة كالصعود المدوي للبيروقراطية والوظائف الإدارية في أوساط مؤسسات أميركية كثيرة، خاصة وعامة، وتنامي معدل الاستثمار المخصص لما يسمى عمليات استخراج القيمة، من ضمنها عمليات إعادة الشراء عبر الأسهم تشير إلى أن البلاد ربما باتت تعيش على المنافع التي راكمتها ميزاتها القديمة، بدلاً من نهوضها بإنتاج وتوليد قدرات تنافسية جديدة. وتظهر الولايات المتحدة بعضاً من سمات القوة العظمى التي كانتها ذات مرة، لكنها غادرت نقطة الذروة في التنافسية، بالتالي، ووفق تقديرات مهمة، غدت أميركا متساهلة وشديدة البيروقراطية وتسعى إلى مكاسب قصيرة المدى ومردودات، بدل الإنجازات البعيدة المدى. إنها بلاد منقسمة اجتماعياً وسياسياً، تدرك الحاجة إلى الإصلاحات، لكنها غير مصممة أو غير قادرة على تحقيقها، وتعاني فقدان الإيمان بفكرة المشروع الوطني الجامع الذي طالما أمدها بالحيوية.
الولايات المتحدة تجد نفسها اليوم قاصرة في عدد من المزايا التي عززت صعودها
وفي الوقت عينه الذي سمحت فيه الولايات المتحدة بضمور بعض قدراتها الاجتماعية، عملت غريمتها الأقرب، الصين، على بناء قدرات اجتماعية هائلة في بعض الجوانب لكنها أتاحت أيضاً لعناصر ضعف قاتلة محتملة بالتفاقم. وتستفيد الصين بوضوح من إرادة وطموح وطنيين قويين على الصعيدين المحلي والدولي، ومن هوية وطنية موحدة بين معظم سكانها. وتملك الصين دولة فاعلة تضخ المصادر في الرأسمال البشري، والأبحاث والتطوير، والتكنولوجيا المتقدمة، والبنى التحتية. ونظرياً تقدم حكوماتها ما تحت الوطنية (أي المحلية) المنصات لتجارب حيوية ومتعددة في سياستها الاجتماعية. وكذلك تملك الصين تراثاً عريقاً في التعليم والتربية، وتبدو مؤسساتها الحاكمة متمتعة بدرجة عالية من الشرعية. ووفق دراسة للرأي العام على الإنترنت في 28 بلداً، أجرتها سنة 2022 مؤسسة “إدلمان ترست باروميتر”، حلت الصين في المراتب العليا من ناحية متوسط المستوى في الثقة تجاه المؤسسات غير الحكومية والشركات والحكومة والإعلام. لذا تبدو الصين في بعض النواحي كأنها ترعى مزيجاً قوياً من السمات الأساسية للنجاح التنافسي، وتموضع نفسها لتجاوز الولايات المتحدة والتفوق عليها.
في المقابل، ثمة أسباب للاعتقاد بإمكانية تعثر الصين، إذ تنتشر الفرص فيها لكنها تبقى محدودة. كذلك تتزايد اللا مساواة. ويصنف “المنتدى الاقتصادي العالمي” الصين في المرتبة 106 من أصل 153 بلداً من ناحية المساواة الجندرية، فيما يعبر الشبان عن قلق متزايد تجاه النقص في الحركية الاجتماعية. وفي “مؤشرات الحوكمة على صعيد العالم” التي يصوغها “البنك الدولي” وتقيس مستوى الحوكمة تستمر الصين في تخلفها عن الولايات المتحدة. إن التنوع في الصين ضئيل، وهي تظهر اهتماماً ضئيلاً في تبنيه. ويتمثل الأمر الأهم من ذلك كله بعدم تحقيق الصين توازناً سليماً بين ميزات التفوق الأساسية، إذ يغدو طموحها مفرطاً ومؤذياً لها. ومن الممكن أن يتصلب اعتزازها بالهوية الوطنية ويغدو كراهية للأجانب، ويصبح إقصائياً فيعوق التعلم من تجارب أخرى في العالم في هذا السياق. وكذلك تغدو الدولة الصينية أيضاً مفرطة النشاط وساعية للهيمنة على مجمل النواحي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فتخنق سياسات الابتكار والتكيف، وتفرض مبادئ متزمتة وجامدة تكبح السعي الحر والابتكار. وينبغي لهذه التوجهات وغيرها من التحديات المعروفة التي تشمل تسارع الشيخوخة السكانية وتعاظم الديون أن تمثل إشارات تحذيرية بالنسبة إلى الصين.
سؤال الإرادة
تأتي الإشارات التحذيرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة من اتجاه معاكس، إذ إنها تشير إلى قوة كانت عظمى لكنها باتت تتصلب باتجاه الجمود. وثمة إشارات مماثلة سبقت تهاوي عدد من القوى العظمى والحضارات السابقة التي فقدت وضعيتها التنافسية. ويشكل هذا المسار حلقة مسمومة وصورة معاكسة للسمات الإيجابية التي تولد التفوق التنافسي، إذ تحتبس الفرص. وتنحسر الإرادة الوطنية حين يغدو المجتمع قانعاً بنفسه وعالقاً في قبضة قواعد متزمتة جديدة، فيفقد بعض نوازعه للإنجازات الدولية والتقدم محلياً في المجالات الثقافية والاجتماعية والعلمية. وتتشتت الوحدة تحت عبء الضغوط الفئوية (الحزبية) والأيديولوجية. وتصبح المؤسسات الاجتماعية ضعيفة وغير كفؤة أو سلطوية ومفرطة البيروقراطية. وتتوقف الدولة الفاعلة عن الخفقان وتغدو عاجزة عن اتخاذ خطوات جريئة لحل المشكلات وخلق الفرص الجديدة.
واستكمالاً إن ما تحتاج إليه الولايات المتحدة بغية استعادة تفوقها التنافسي قد لا يقل عن مشروع وطني جديد يهدف إلى إعادة تنشيط ميزاتها الأساسية. لم تكن دراستنا في مؤسسة “راند” RAND مصممة بهدف التوصل إلى اقتراحات محددة في السياسات، بيد أن نتائجها تشير إلى ما قد يتطلبه ذلك النوع من المبادرة. وبين أمور أخرى، ينبغي لتلك المبادرة أن تتضمن التزاماً متجدداً يضمن توزيع الفرص وإطلاق النزعة الابتكارية والقدرات الوطنية الكامنة في أوساط محرومة ومستبعدة في المجتمع. وسعياً إلى تنمية هوية أميركية جامعة يتوجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تجد سبلاً للاحتفاء بالروح الوطنية الأميركية والمجتمع الأميركي، والترويج لموضوعات وحدوية في التاريخ الأميركي والثقافة الأميركية من دون أي نزعة اعتذارية، وذلك بموازاة الاعتراف بالطابع المعقد والشائك لماضيها. وكذلك سيكون عليها تبني دور فاعل ومتجدد للدولة، على الرغم من محدودية هذا الدور، وتوجه صوب أهداف محددة عبر تشجيع الأبحاث والابتكار والأنماط الجديدة في التعلم، بالتالي شن الحرب على مظاهر توسع البيروقراطية والكوابح الإدارية بحق الإبداع في القطاعين الخاص والعام، وبذل مزيد من الجهود في مكافحة المعلومات المضللة والزائفة.
بالتالي، تستطيع أجندة كتلك أن تتخطى تماماً التجاذب الحزبي. إن بعض هذه المبادرات المطلوبة، كتعزيز سوق فاعلة وحيوية في التبادلات التجارية وتقوية الإحساس بالهوية الوطنية الجامعة، غالباً ما ترتبط بالأجندات المحافظة. في المقابل، تعتبر مبادرات أخرى أولويات تقدمية عموماً، إذ تتضمن جهوداً تهدف إلى مشاركة الفرص على نحو أوسع وتقوية الدولة الفاعلة بغية تصميم الأسواق لمصلحة الخير العام. وسبب وجود أمر يهم كل شخص في هذه المقاربة قد يعود إلى أن الميزات الاجتماعية التي أدت بالولايات المتحدة إلى موقعها المتقدم عبرت على الدوام عن المزيج المثمر والسليم للأولويات العابرة لمختلف ألوان الطيف السياسي. ثمة نظرة غير حزبية للعظمة الأميركية باتت ملحة اليوم من جديد.
التحدي العظيم التالي أمام الولايات المتحدة يتمثل في تحفيز حقبة جديدة تسودها الميزة التنافسية
إن التحديات التي تواجه الولايات المتحدة حقيقية جداً. في هذا الإطار ينبغي عدم تضخيم التهديدات التي تمثلها الصين وروسيا، لكنهما تملكان أهدافاً تتناقض مع المصالح والقيم الأميركية، وكذلك النظام الدولي الذي أرسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي خدم الولايات المتحدة على نحو ممتاز. في المقابل فإن الرأي السائد المتعلق بما ينبغي لواشنطن أن تفعله كرد فعل على تلك التهديدات، أي مضاعفة الاستثمارات في القوة العسكرية وإطلاق حملة جديدة لاحتواء القدرات الروسية والصينية، يشكل في أحسن الأحوال مجرد جزء من الجواب على المسألة. وبسهولة، من الممكن أن تؤدي جهود كتلك تبذل في ذلك الإطار إلى نتائج عكسية إذا أنهكت الولايات المتحدة، أو يمكنها أن تنتج ضروباً جديدة من القمع الداخلي والتزمت. ويتمثل الأمر الأهم من ذلك بكثير في جهد وطني حازم يهدف إلى إعادة تنشيط السمات والمزايا التي جعلت من الولايات المتحدة المحرك الأعظم للدينامية التنافسية في التاريخ. في سنة 2005، ختم المؤرخ كينيث بارتليت سلسلة محاضرات عن عصر النهضة الإيطالية بتأمل حزين في أسباب الركود والتدهور الوطنيين. ووفق كلماته “انتهى عصر النهضة لأن منطلقات المواقف والمعتقدات والثقة بالذات، وهي الأسطورة المولدة التي كانت القوة المحركة لعقل النهضة، قد توقفت عن أداء وظيفتها. لم تتمكن النهضة من الاستمرار بالشكل الذي سبق وتميزت به. ولم يكن بالإمكان استدامتها لأن الفشل في نهاية المطاف لم يكن عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، على الرغم من أن كل هذه الإخفاقات شكلت السياق العام للإخفاق الكبير الحقيقي الذي كان سيكولوجياً ومعنوياً، بمعنى أنه فشل الإرادة، وفشل مواجهة الأزمات التي أدرك الإيطاليون وجودها بين ظهرانيهم، والقرار، القرار الصعب، والقرار الذي هو طبيعي جداً ضمن الطبيعة البشرية، بقبول ما هو معروف وآمن ومستقر”.
واستطراداً، إن ذلك القرار الصادق أطفأ جزءاً كبيراً من شعلة العلم التي أعطت دفعاً للتطور اللافت خلال تلك الحقبة. وقد قضى ذلك الأمر، وفق تعبير بارتليت، على “أسطورة تعزيز الذات المحفزة للطاقات” التي دفعت الإيطاليين “إلى إنجاز تلك الأشياء العظيمة، وتوسيع نطاق التجربة البشرية إلى ذلك الحد خلال مدة زمنية قصيرة”. لقد كان مصدر العظمة تلك أوسع بكثير وأشد أهمية من النمو الاقتصادي والجبروت العسكري. لقد شكل دينامية المجتمع الأساسية وحيويته أيضاً. وحينما تبخر (ذلك المصدر) فجأة، غدت إيطاليا بلا طموح ولا التزام بالتعليم، وخائفة من التجريب والابتكار، وعالقة بين أيدي نخبة يتمثل همها في الدرجة الأولى بالسلطة وجني الأرباح.
وعلى نحو مذهل تواجه الولايات المتحدة اليوم خطراً مماثلاً، إذ لا يأتي التهديد الأول لدينامية الولايات المتحدة وميزتها التنافسية من الخارج بل من الداخل، بمعنى أنه يأتي من التبدلات في شخصية المجتمع الأميركي. ويتمثل التحدي الكبير الثاني أمام الولايات المتحدة في قدرتها على تحفيز حقبة جديدة تسود فيها الميزة التنافسية، أي تحفيز حقبة يمكنها إحياء الميزات التي أدت إلى نهوض هذه البلاد خلال القرن الماضي، وكذلك تستطيع أن تديم تلك الميزات والسمات وتبقي عليها في القرن المقبل. وعلى غرار حال إيطاليا في نهاية عصر النهضة، لا يتمثل السؤال الأهم الماثل أمام الولايات المتحدة بموضوع فهم الواقع أو القدرة على الاضطلاع بتلك المهمة. بالأحرى يتمثل الأمر في سؤال الإرادة، إذ إنه سؤال يتعلق في شأن مدى استمرار الولايات المتحدة في امتلاك مخزون من التفكير الخلاق، والتضامن الوطني، والإرادة السياسية بغية مواجهة هذا التحدي.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر