ورغم هذا التقدم الذي فرضه التنافس وانتشار المعرفة، مازالت هناك وسائل (إعلام) ترى العالم من زوايا ملونةٍ ضيقة، خصوصا في الدول التي تحكمها الأيديولوجيات الدينية والقومية والأنظمة الشمولية، أو الأنظمة المهلهلة التي لا تستطيع أن تحمي أصحاب الرأي المخالف من المتربصين بهم.

وعلى الرغم من دخول وسائل التواصل الاجتماعي طرفا في العملية الإعلامية، وتسببها في إحداث إرباك ليس قليلا، خصوصا وأن معظم مستخدميها ليسوا مهنيين، بل إن بعضهم يتعمد اختلاق الأخبار أو تحريفها حسب المصلحة أو الهوى، فإن وسائل الإعلام المهنية ظلت مهيمنةً على نقل الأخبار والمعلومات الدقيقة، أو الأكثر دقة، وتغطية الأحداث العالمية بنزاهة وموضوعية، وعرض الآراء المتباينة.

 لذلك فإن كل شائعة أو خبر كاذب أو تحريف متعمد للأحداث، التي قد تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي غير المقيدة، أو وسائل (الإعلام) غير المسؤولة، أو وسائل التضليل الأيديولوجي أو السياسي، التي تُسمى خطأً “وسائل إعلام”، تجدها تتبدد بسرعة، لكنها تبقى شاهدة على انعدام المسؤولية الأخلاقية عند من ينشرها أو يختلقها أو يروج لها.

وسبب هذا التقدم الذي حققته وسائل الإعلام المهنية، لا يعود إلى صحوة الضمير الإنساني، الذي مازال عليلا، إن نظرنا إلى العديد من المشاكل والكوارث التي تجتاح العالم، والتي يمكن تجنبها أو حلها بسهولة إن توفرت الإرادة السياسية الدولية، وإنما إلى التقدم التقني في وسائل الاتصال والتواصل، التي أضاءت البقع المظلمة أو المعتمة في معظم بلدان العالم، باستثناء تلك التي تخيم عليها الأيديولوجيات المتعصبة، أو تتحكم بها طُغَمٌ متسلطةٌ تناصب الحقيقة والتطور والحرية العداء.

 ولا ننسى أيضا تطور وسائط النقل وسهولتها، وانخفاض تكاليفها، التي جعلت التنقل السياحي والثقافي والتعليمي ممكنا وسهلا وممتعا، وسهَّلت على كثيرين التعرف على ما كان إلى عهد قريب من المجاهيل. فكثيرون منا يسافرون لرؤية الظواهر الطبيعة، أو المعالمِ الأثرية، أو التفرجِ على المباريات الرياضية، أو حضورِ المؤتمرات العلمية والثقافية، أو المشاركة في المناسبات والأعياد والكرنفالات العالمية، ومثل هذه الرحلات تكشف لنا الكثير من المجاهيل، وتكسبنا معلومات تمكننا من التمييز بين الحقيقي والكاذب.

في الثالث من أيار/مايو من كل عام، يراجع الصحفيون ومؤسساتهم ونقاباتهم واتحاداتهم في بلدان العالم، أحوالهم وأوضاع مؤسساتهم والحريات المتاحة لهم، والتحديات التي تواجههم في إنجاز واجباتهم. وقد هيمنت الحرب في أوكرانيا هذا العام على البيانات والمؤتمرات والتجمعات التي عقدت في أنحاء العالم المختلفة، خصوصا مقتل 12 صحفيا، كانوا يغطون الحرب في أوكرانيا خلال الـ70 يوما الأولى.

وفي روسيا هناك قرارات حكومية ألزمت الصحفيين جميعا بأن يستقوا معلوماتهم من المصادر الرسمية، وفي خلاف ذلك فإنهم يعرِّضون أنفسهم للمساءلة. وقد وضع هذا القرار قيودا صارمة على عمل الصحفيين في روسيا، إلى درجة أن كثيرين منهم توقفوا عن العمل، لأن الامتثال لرغبة الحكومة من شأنه أن يحوِّلهم إلى أبواقٍ لها، إذ لا يستطيعون أن يبثوا أو ينشروا أيَّ معلومة، يحصلون عليها من مصادر غير رسمية.

لكن أوضاع الصحفيين لم تكن ممتازة في العديد من بلدان العالم، حتى الحرة والديمقراطية منها، والسبب هو أن الصحافة تحاول أن تحصل على كل المعلومات حول الاحداث السابقة والحالية والخطط المستقبلية، وهذا ما لا يمكن أيُّ حكومة أن تقدمه لهم. فالحكومات دائما ما تُعِدُّ خططها وتبلور قراراتها بعيدا عن الأضواء، والجميع، بمن فيهم الصحفيون، يدركون ضرورة هذه السرية للعمل الحكومي، لكن الصحفي في الوقت نفسه يسعى إلى التميُّز عبر تقديم الجديد إلى متلقيه، والحصول على المعلومات بكل الطرق المتاحة قانونا، وفي هذه المسألة تحديدا يحصل التقاطع، وربما التصادم، بين الصحافة ومؤسسات الدولة.

لا شك أن من حق الصحافة أن تحصل على المعلومات، وهناك قوانين في العديد من الدول تمنحها هذا الحق، بل وتمكِّنها منه، لكن المؤسسات الرسمية والشركات والمنظمات لا تقدم سوى المعلومات التي بودها أن تظهر للعلن، لذلك تضطر الصحافة للسعي للحصول عليها عبر التقصي والتدقيق والمتابعة والتحليل.

منظمة اليونسكو، التي اقترحت على الأمم المتحدة تخصيص يوم لحرية الصحافة في عام 1991، وتبنت الأمم المتحدة المقترح في عام 1993، تعقد مؤتمرا سنويا يستمر 3 أيام في أحد البلدان، تحت شعارٍ يعكس اهتمامات الصحافة في ذلك العام، بالاشتراك مع نقابة الصحفيين أو المؤسسات التي تهتم بشؤون الصحافة والحرية في العالم.

وفي هذا العام، 2022، عقدت اليونسكو مؤتمرها في الفترة 3-5 أيار/مايو في مدينة “بونتا ديل إيستا” في الأورغواي، افتتحه رئيس الأورغواي، لويس لاكالي بو، والأمين العام للأمم المتحدة، أنتونيو غوتيريش، إضافة إلى مدير عام اليونسكو والمفوَّض الدولي العام لحقوق الإنسان. وشارك في المؤتمر 3400 صحفي ومسؤول دولي ووطني من 86 بلدا، وكان شِعاره “الصحافة تحت الحصار الرقمي”.

ويناقش الشِعار أَثَرَ العصر الرقمي على حرية التعبير، وسلامة الصحفيين، وحق الحصول على المعلومات والخصوصية. كما يشير إلى تعرض الصحفيين إلى مضايقات جديدة، وهي المضايقات الرقمية والرقابة الإنترنتية على نشاطاتهم الصحفية المشروعة، من خلال التلصص على نشاطاتهم ألكترونيا، الأمر الذي يعيق أداءهم واجباتهم. لقد أصبح العديد من الصحفيين مراقَبين عبر الانترنت وهم في مكاتبهم، وهذه الرقابة تحُد من حريتهم لتغطية الأحداث ونقل الحقائق، كما تعرِّض سرية مصادرهم إلى الإفشاء، ما يجعل عملهم صعبا، أو مستحيلا، فلن يجرؤ أي مصدر على البوح بمعلومة إن كان أمره سيُكتَشف.

وناقش المؤتمر معظم القضايا التي تواجه الصحفيين، وتأتي في المقدمة سلامة الصحفيين في البيئات الخطيرة التي يتعرضون فيها إلى أخطار محدقة تهدد حياتهم، خصوصا أثناء تغطياتهم الحروب وأعمال العنف، أو عندما يتعرضون لضغوطٍ تمنعهم من أداء عملهم، ومضايقاتٍ نتيجة لنشرهم تقاريرَ تكشف مخالفاتٍ أو تجاوزات أو إخفاقات.

كما نوقشت مسألة “الإفلات من العقاب” لمرتكبي الجرائم والمخالفات، خصوصا أولئك الذين يعتدون على الصحفيين ويضايقونهم، ولكن يفلتون من العقاب، نتيجة للحماية التي يتمتعون بها من جهات متنفذة، أو تساهل القضاء مع ممارسي تلك المضايقات.

الاتحاد الأوروبي أصدر بيانا بمناسبة عيد حرية الصحافة العالمي قال فيه إن الاتحاد “يولي سلامة الصحفيين أولوية قصوى”، وإنه “يقدم دعما طارئا للصحفيين الذين يغطون الحرب في أوكرانيا”. وأضاف البيان “الصحفيون والمصورون والمدونون الشجعان يخاطرون بحياتهم من أجل أن يعْلِمونا حول عدوان روسيا غير المبرر على أوكرانيا…. إنهم يسلطون الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، والتجاوزات على القانون الدولي، ويساهمون في مكافحة التضليل والتحكم بالمعلومات وكشف الفظائع ويساهمون في ألا يفلت مرتكبوها من العقاب”.

مازال الصحفيون يتعرضون إلى الاخطار والمضايقات وحجب المعلومات حتى في الدول الديمقراطية. بريطانيا مثلا جاءت في المرتبة 33 في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2021، والذي أعدته منظمة (صحفيون بلا حدود)، وأُشِّرت باللون الأصفر، وهو التصنيف الثاني الذي يشير إلى أن حرية الصحافة “مُرْضِيَة” أو مقبولة!

وفي كندا، أُجري استطلاع حول المضايقات التي يتعرض لها الصحفيون، وقد عُرِضت نتائجُه في برنامج على اليوتيوب كي يطلع عليها الجميع، ويسعى المعنيون إلى تذليل العقبات التي تعترض العمل الصحفي.

وفي فرنسا عرض اتحاد الصحفيين الفرنسيين فيلم (قرصنة العدالة)، الذي يدافع عن الصحفي الأسترالي، جوليان أسانج، الذي نَشَرَ وثائق سرية عام 2010، يمكن أن تدين كل من بريطانيا والولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب في العراق وأفغانستان. وكانت محكمةٌ بريطانية قد أمرت بترحيل أسانج إلى الولايات المتحدة، حيث سيحاكم على ما اعتبرته الولايات المتحدة “عملا تخريبيا”. ويعتقد خبراء بأنه قد ينال حكما بالسجن لمدة 175 عاما!

وفي المكسيك قُتِل 34 صحفيا منذ مجيء الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور إلى السلطة عام 2018، تسعة منهم قتلوا خلال العام الأخير، استنادا إلى تقرير نشرته منظمة “ميثاق 19” الشهر الماضي. وقبل يومين فقط، عُثر على الصحفي المخضرم لويس إنريك راميريز، مقتولا وموضوعا في كيس، تُرك بجانب أحد الطرق في مدينة سينالوا. وقد طالب عضوان في مجلس الشيوخ الأمريكي، توم كين وماركو روبيو، إدارة الرئيس بايدن بحض الرئيس المكسيكي على بذل المزيد من الجهد لحماية الصحفيين.

أما في العراق، فقد قتل مئات الصحفيين منذ التغيير عام 2003 حتى الآن، وكثيرون منهم قتلوا مع سبق الإصرار والترصد، على أيدي جماعات إرهابية، بعضها تستخدم سلطة الدولة وأدواتها لتنفيذ جرائمها، بسبب آرائهم الناقدة، أو نشاطاتهم الكاشفة للفساد والمخالفات التي ترتكبها الجماعات الحاكمة، ومازلت أتذكر أصدقاء وزملاء أعزاء قتلوا غيلة، دون أن يشكلوا خطرا على أحد، بل لا أحد يعرف حتى اليوم سبب قتلهم.

وكشفت “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة” في العراق عن مقتل 92 صحفيا منذ عام 2010 حتى 2021. الصحفيون العراقيون المغدورون كثر، أتذكر منهم نزار عبد الواحد من العمارة، وفاخر التميمي وعبد الحسين خزعل وأحمد عبد الصمد من البصرة، وهادي المهدي من الديوانية، وخمائل محسن من الموصل، وأطوار بهجت من سامراء، وعلاء مشذوب من كربلاء، ولقاء عبد الرزاق وهشام الهاشمي ومازن لطيف وتوفيق التميمي من بغداد، والأخيران خُطفا في وضح النهار قبل عامين ولا يعرف أحد مصيرهما حتى الآن. أما عدد الذين تركوا الصحافة أو هاجروا إلى بلدان أخرى فغير معروف، لكنه كبير.

في عصر التكنولوجيا المتطورة، التي سهَّلت الأعمال الشاقة والمهام الصعبة، بقيت مهنة المتاعب متعِبةً ومحفوفةً بالمخاطر، وبحاجةٍ إلى مزيدٍ من الرعاية والحماية والتنظيم والحرية في بلدان العالم أجمع.