سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
نظمي محمد الخميس
إيمان عبدالله أمان
1 – الهدف من البحث
يقدِّم هذا البحث، وسائل الإعلام الأميركية، على أنها أداة في أيدي عدد من اللاعبين الناشطين في سوق النفط. لقد استغلت وسائل الإعلام الأميركية، وضعية سوق النفط بأنها “غير مكتملة” للتدخل والتأثير، على اعتبار أن التدخل الحكومي والعالمي – إن وجد – لاستكمال السوق، غير فعَّال في إعادة تصميم آليات السوق النفطية وتحديث أو وضع السياسات واللوائح، عن طريق تعبئة الرأي العام للتأثير على صانعي السياسات.
إن اختيار الولايات المتحدة الأميركية، في هذا البحث، لدراسة تأثير وسائط الإعلام على موثوقية صناعة النفط، ينبع من عدة أسباب: أولها، التأثير الأهم على صناعة النفط العالمية يأتي منها، فتاريخ صناعة النفط تطور بشكل أكبر في أميركا، ومعظم التطور التكنولوجي في صناعة النفط كان فيها، وأكثر الأنشطة في صناعة النفط ما زالت موجودة فيها. ثانيًا، طبيعة النظام السياسي الأميركي، يجعل تأثير وسائط الإعلام فيها فاعلاً. ثالثًا، الولايات المتحدة الأميركية، هي المستهلك الأكبر للنفط، وقد تصبح في يوم ما، المنتج الأكبر كذلك. وأخيرًا، السياسات والتشريعات التي يسنها المشرعون الأميركيون في مجال صناعة النفط، هي الأكثر والأبرز بين الدول، واستجابة الصناعة لها تشكل ديناميكية فريدة، وهي بذلك تمثل نموذجًا يُقتدى من كل من الدول المستهلكة، وكذلك المنتجة.
وبالتالي يهدف اللاعبون الساعون في أجنداتهم في السوق النفطية، إلى التأثير على السياسات واللوائح عبر قناتين، وهما: وسائل الإعلام المختلفة، والضغط المباشر والمنظم على صانعي السياسات. وتخلص هذه الدراسة إلى أن خصوم الصناعة النفطية، يستثمرون جهودهم بشكل مكثف وكبير في استخدام وسائل الإعلام بأشكالها المتنوعة التقليدية والحديثة، لتوجيه الرأي العام والتأثير على العواطف لتشويه صورة الصناعة النفطية. وإن الآلية التي يتم بها التأثير، هي عن طريق تسييس الرأي العام، الذي يحفز عملية توجيه السياسات في مسار معين، ومن ثم التأثير على صانعي السياسات. بينما تقابل صناعة النفط هذه، التأثير المنظم عن طريق الضغط المباشر والمنظم على صانعي السياسات.
إن الهدف من هذه الدراسة، هو التعرف على التأثير التراكمي السلبي لوسائل الإعلام الأميركية في موثوقية صناعة النفط، ومدى فعالية الضغط المباشر على صانعي السياسات في الحد منه. وتخلص الدراسة إلى الاستنتاج بأن التراكم السلبي للصورة الذهنية لصناعة النفط يصعب مجابهته، مع مرور الوقت، بالضغط المباشر على صانعي السياسات، وأن الحل الأمثل يكمن في وضع استراتيجية تعبوية في وسائل الإعلام لتصحيح الصورة النمطية السلبية عن صناعة النفط.
2 – موثوقية سوق النفط وصناعة النفط
يتغلغل استخدام النفط ومشتقاته في كافة مناحي حياتنا اليومية بدرجات متفاوتة، وذلك لأن أهم استخداماته، هو في قطاع المواصلات الاستراتيجي الذي يستحوذ استخدام مشتقات النفط فيه على نصيب الأسد (حوالي 90%). ونظرًا إلى هذه الأهمية الجوهرية للنفط، يبرز اهتمام وسائل الإعلام به. ومن جهة أخرى، للنفط عدد من الخصائص التي تميزه، فهو من الموارد الطبيعية الناضبة، أو غير المتجددة؛ لذلك، فإن محركه الرئيس على المدى البعيد، هو الطلب عليه. أيضًا تتميز منحنيات العرض والطلب على النفط، بأنها غير مرنة على المدى القصير؛ مما يؤدي إلى تعاظم تذبذب سعر النفط. بينما تزداد المنحنيات مرونة، كلما كبر المدى الزمني، وذلك لإمكانية تطوير تكنولوجيات تحد من الطلب، أو تطوير تكنولوجيات تساعد في زيادة العرض. ومن جهة أخرى، تتأثر قرارات الإنتاج بمختلف الخصائص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكلٍّ من المنتجين والمستهلكين. لذلك، فإن قرارات الاستثمار غير “مستدركة” لدى المنتجين؛ لذا فهي تأتي متأخرة عندما ينمو الطلب بشكل سريع، مما يساهم بشكل كبير في تكوين “الدورات الاقتصادية للنفط”.
تؤدي هذه الخصائص إلى الاستنتاج أن السوق غير قادر ذاتيًا على اكتشاف السعر، وبحاجة إلى “آلية متينة وفعالة وموثوقة” من قبل “صناع سوق”، لمساعدة رواد السوق في اكتشاف السعر العادل. غير أن ما نشهده – حاليًا – في أسواق النفط، هو خلاف ذلك. إن عدم وجود صناع سوق قادرين على إدراك جملة هذه الحقائق، وترجمتها في أسواق النفط، إلى صناعة سوق تساعد على اكتشاف السعر العادل، أدى إلى أن تكون هذه الأسواق غير مكتملة، وعرضة للتدخل من غير المنتسبين الأساسيين للسوق. وكنتيجة لذلك، يسعى كثير ممن هم خارج السوق من ذوي المصالح المختلفة والمنتفعين، إلى ملء الفراغ والتأثير في عملية اكتشاف السعر، لغايات مختلفة، وبعيدًا عن أساسيات السوق؛ مما يساهم في تعاظم تذبذب سعر النفط، بشكل أكبر. إن محصلة خصائص سوق النفط والتدخلات من خارجه، تساهم بشكل كبير في التأثير سلبًا في موثوقية سوق النفط.
إن موثوقية سوق النفط، شديدة الأهمية لكلٍّ من المستوردين والمنتجين. ويسعى المستوردون لبناء أنماط استهلاكهم عن طريق السياسات والتشريعات بمفهوم أمن الطاقة، الذي يتضمن أن تتكامل مصادر الطاقة المختلفة حتى تحقق مبادئ توفير الطاقة لجميع أفراد المجتمع، أو “إتاحة الطاقة”، و”استطاعية استخدامها”، وأن يكون استهلاكها بشكل “مستدام”. وحتى يتم تحقيق هذه الأبعاد الثلاثة، لا بدَّ أن يتميز قطاع الطاقة بكل من السيادية، والمتانة، والارتجاعية. وتعرف السيادية، على أنها قدرة قطاع الطاقة على تقليل آثار المخاطر ذات المصدر الخارجي للبلد، بحيث لا تتضمن القرارات الاقتصادية، التي تُعنى بالطاقة أو تتأثر بها، والتي يقوم بها الأفراد أو المجتمعات أو المنشآت أو الدولة، أي تأثير خارجي. ويتضمن هذا المفهوم امتلاك بنية الطاقة التحتية، وتنوع المصادر الرئيسية للطاقة الجغرافي والنوعي. أمَّا المتانة، فتعرف على أنها تقليل آثار المخاطر الداخلية المشخصة والمتوقعة والناتجة من العوامل الطبيعية والتقنية والاقتصادية. وتعرف الارتجاعية، على أنها القدرة على مجابهة وتحمل المؤثرات والتهديدات المختلفة وغير المتوقعة، وتوفير خدمات الطاقة الضرورية حتى يزول المؤثر.
من جهة مقابلة، تهدف صناعة النفط لدى الدول المنتجة له، إلى توفيره للمستهلكين بسعر مناسب، وأكثر استدامة، ولا يؤدي إلى احتجاز قيمة مصدر الطاقة، أو البنية التحتية المبنية على استخراجه، أو معالجته، أو نقله، أو تكريره، بحيث يعظم ذلك منافع النفط لكلٍّ من المنتجين والمستهلكين. ولكي يتحقق ذلك، لا بد أن يتميز قطاع النفط بالسيادية، والمتانة، والارتجاعية. فالسيادية، لدى الدول المنتجة، تعنى باستقلالية قرار الإنتاج وبنائه على أساس تعظيم المنافع الاقتصادية من الثروة النفطية. ويتضمن هذا المفهوم، امتلاك المعرفة والتكنولوجيا الضروريتين لاستخراج النفط ومعالجته، وتنوع قاعدة المستهلكين الجغرافية، وامتلاك البنية التحتية ومجموعة الأفراد المتخصصين، والقدرة على توفير مصادر التمويل الضرورية لدعم مشاريع الاستكشاف، وتطوير مكامن النفط والقدرة على نمو ضبط الطلب المحلي على النفط. أمَّا المتانة، لدى الدول المنتجة، فتعرف على أنها تقليل آثار المخاطر الداخلية المشخصة والمتوقعة والناتجة من العوامل الطبيعية والتقنية والاقتصادية. ويتضمن هذا المفهوم، القدرة على إحداث تطور تكنولوجي بشكل مبرمج ومستمر، وموثوقية البنية التحتية لقطاع النفط، والقدرة على مجابهة المؤثرات المتوقعة التي تتطور على نطاق زمني كالتقادم العمري للبنية التحتية، والتقادم العمري للمكامن، وارتفاع تكلفة الاستخراج والحاجة لتكنولوجيات تعزيز الإنتاج، والقدرة على إيجاد حلول تكنولوجية للمشاكل المصاحبة لاستهلاك النفط كالتغير المناخي، والقدرة على مجابهة تطور بدائل للنفط وتوسيع قاعدة الاستهلاك النوعي والجغرافي، وتقليل الاعتماد عليه في الاقتصاد المحلي، وذلك بتنويعه بعيدًا عن النفط. وتعرف الارتجاعية، لدى الدول المنتجة، على أنها القدرة على مجابهة وتحمل المؤثرات والتهديدات المختلفة وغير المتوقعة لصناعة النفط. ويتضمن هذا المفهوم، تحمل المؤثرات على المدى القريب كالظواهر الطبيعية، والتعطيلات التقنية، والصدمات السعرية والكمية الطارئة لأسواق الطاقة، وتهديد إمدادات النفط وخطوط نقله.
تتقاطع أهداف كلٍّ من سياسات أمن الطاقة لدى الدول المستوردة، وسياسات أمن صناعة النفط لدى الدول المنتجة، عند التأكيد على موثوقية سوق النفط، مادام النفط مصدر الطاقة الرئيسي والاقتصادي أمام البدائل غير الناجزة، على المديين القريب والبعيد، فالمحافظة عليها هي مسؤولية مشتركة لتحقيق المنافع المتبادلة. وإن سعي بعض الدول المستوردة للاستغناء كليًا عن النفط، أو بشكل كبير عبر سياسات غير مبررة اقتصاديًا وتشريعات غير مسؤولة بداعي أمن الطاقة، يهدد موثوقية سوق النفط، وقد يؤثر سلبًا في الاقتصاد المحلي بزيادة التضخم المزمن.
3 – اللاعبون الرئيسيون المؤثرون في صناعة النفط في الولايات المتحدة الأميركية
هنالك تأثير متبادل بين سوق النفط، وصناعة النفط في الولايات المتحدة الأميركية، فتأثير اللاعبين غير الأساسين، ينعكس على صناعة النفط. ومن الممكن إجمال اللاعبين الرئيسيين، من الأساسيين وغيرهم، المؤثرين في صناعة النفط في الولايات المتحدة الأميركية على النحو التالي: المستهلكون، والمنتجون، ومنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ومنظمة الطاقة العالمية، والحكومات، وجماعات المنفعة المنظمة، والمنظمات الحكومية.
وينقسم المستهلكون إلى مستهلكين مباشرين يشاركون مباشرة في سوق النفط، وهم – في الغالب – مصافي النفط والحكومات، ومستهلكين نهائيين يتحملون تبعات الأسعار والسياسات والتشريعات، وهم – في الغالب – مستهلكو المشتقات النفطية كالأفراد والمنشآت والمصالح العامة. فقرار المشاركة في السوق، يُمرر من المستهلكين النهائيين، ويمثل المستهلكون الأفراد النسبة الكبرى منها، إلى المستهلكين المباشرين، فمنفعتهم التشارك في تحديد سعر النفط كعامل أساسي.
أمَّا المنتجون، فينقسمون إلى ثلاث فئات: الشركات العالمية الكبيرة، والمنتجون الأميركيون المستقلون، والمنتجون من خارج الولايات المتحدة الأميركية، وأهمهم شركات البترول الوطنية. إن محصلة العلاقة بين الفئات الثلاث، تشكل قوة العرض التي تؤثر في سوق النفط العالمية. ويستحوذ المنتجون المستقلون الذين يقدر عددهم بالآلاف على 95% من آبار النفط والغاز في أميركا، وأكثر من نصف الإنتاج المحلي من النفط، وحوالي 85% من إنتاج الغاز الطبيعي. وينشط المنتجون الأميركيون المستقلون عبر “مؤسسة المنتجون المستقلون البترولية الأميركية” التي تدافع عن مصالحهم كجماعة من جماعات التأثير المباشر في الكونجرس الأميركي وصناع القرار في الولايات المختلفة المنتجة للنفط، وتقاوم تأثير استيراد النفط على المنتجين المستقلين، وتؤثر جزئيًا في سياسات معهد البترول الأميركي، وكذلك تسعى لمقاومة تأثير الشركات العالمية الكبيرة وتكتلها. وتسعى شركات النفط الكبرى إلى تعزيز قيمتها، وتحقيق أرباح مجزية لحملة أسهمها عن طريق كفاءة التشغيل والإدارة، وإدارة المخاطر، وكذلك بامتلاك التكنولوجيا. بينما تسعى شركات النفط الوطنية إلى تحقيق أهداف المالك الوحيد لها وهي الحكومات، من تدفقات مالية للإنفاق العام، وتوظيف غير منضبط للعمالة المحلية، وأن تبنى إدارة الإنتاج على أسس سياسية واجتماعية، لا على أسس اقتصادية بحتة؛ مما يعقد عمل هذه الشركات ويجعلها خلف شركات النفط الكبرى في الربحية والكفاءة، على الرغم من امتلاكها مكامن ذات تكلفة حدية منخفضة نسبيًا. إن العلاقة الحالية بين الشركات العالمية وشركات النفط الوطنية، تشكل إلى حدٍّ بعيد، واقع الصناعة النفطية ومستقبلها. فهذه العلاقة بين الطرفين، ليست لعبة صفرية، وأن التكامل فيما بينهما في مصلحة كل منهما، فالشركات الوطنية تستحوذ على المكامن التي تستطيع تشغيلها، ولكن إلى حدٍّ ما، بينما تمتلك الشركات الكبرى رأس المال، والمعرفة، والإدارة اللازمة لتشغيل المكامن بكفاءة أكبر تعزز من قيمتها.
يلاحظ في هذا الإطار، صعود تأثير شركات خدمات النفط منذ الثمانينيات، فلقد استثمرت هذه الشركات كثيرًا من المال والجهد ولفترة طويلة في مجال تكنولوجيا الاستخراج، وأصبحت من خلاله لاعبًا مهمًا في صناعة النفط. فقد أضحت هذه الشركات، تمتلك جل تكنولوجيات الاستكشاف والحفر والإنتاج الحديثة والمتطورة، التي أصبح يحتاج إليها جميع المشغلين لمكامن النفط والغاز. وساعد هذا التغيير الاستراتيجي المهم، شركات النفط الوطنية، في أن تكون أكثر استقلالية عن الشركات الكبرى، ما عدا بعض التكنولوجيات التي تحاول شركات خدمات النفط امتلاكها. وصاحب صعود هذه الشركات، نمو تأثيرهم عن طريق جماعات الضغط على تشريعات الكونجرس الأميركي وصناع القرار في الولايات المختلفة المنتجة للنفط.
إن جماعات المنفعة المنظمة، جزء أصيل ومؤثر في الحياة السياسية الأميركية، تتميز بقوتها ونفوذها على الساحة الأميركية، وتهدف إلى إطلاق الآراء والمواقف الكامنة عند النخبة، أو عامة المجتمع، وتعمل ضمن حق كفله لها الدستور، ليكون عملها شفافًا في إطار القانون، وليس في الغرف المظلمة، كما في بعض دول العالم، وإن لم تخلُ أدوارها من كثير من الجدل. وتعرف جماعة المنفعة المنظمة، على أنها مجموعة من الأفراد، غالبًا ما يكونون من النخبة المثقفة، أو الناشطين لقضية ما، أو أصحاب المصالح التجارية، ذوي رسالة واضحة وأهداف أو مصالح مشتركة، تريد التغيير أو التأثير على سياسات أو تشريعات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية بما يتناغم مع أهدافها ورسالاتها، ضمن العملية السياسية والقوانين المحلية والفيدرالية. وتختلف عن مجموعات الضغط والعلاقات العامة، بأن لها أهدافها الخاصة التي تسعى لتحقيقها من خلال عملية التأثير، بينما قد تتعدد في مجموعات الضغط والعلاقات العامة حسب الزبون، وتشترك في كثير من الأدوات والوسائل للتأثير على صانعي القرار. إن أدوات التأثير التي تلجأ إليها هذه المجموعات، متعددة ومبتكرة وتتطور باستمرار، وأهمها التأثير المباشر على صانعي القرار، وذلك بالاتصال المباشر بأعضاء الكونجرس، أو أعضاء الحكومة التنفيذيين لإخبارهم بمواقفهم، أو مخاطر السياسات، أو البدائل المفضلة إزاء سياسات معينة، أو مشاريع قوانين مقترحة. وقد تنخرط – كذلك – في النشاطات الانتخابية المختلفة في محاولة للتأثير على النتائج لمصلحة المناصرين لأهدافهم، أو الانخراط بشكل مباشر، وإن كان ذلك نادرًا في أميركا، وأكثر حدوثًا في أوروبا. كذلك قد تلجأ إلى تعليم وتثقيف عامة المجتمع، أو أصحاب القرار، أو النفوذ، بقضية ما، من ناحية أهميتها أو خطرها، أو اقتراح البدائل في وسائط الإعلام، أو عبر محاضرات خاصة. وقد يكون دورها أكثر حدة في تغيير الرأي العام وتعبئة القاعدة الشعبية لقضية ما بالخطاب العاطفي والمؤثر عبر وسائط الإعلام المتاحة، أو التظاهر الشعبي أو النخبوي، عندما يكون التعليم والتثقيف غير مجديين. وقد تلجأ إلى الدعوة إلى المقاطعة الشعبية للمنتجات، أو مقاطعة أسهم الشركات المعنية بشؤون صناعة النفط، أو مقاطعة صناديق الاستثمار التي تستثمر في شركات النفط، أو ممولي المشاريع النفطية. وأخيرًا، تستخدم جماعات المنفعة المنظمة، الترافع عند القضاء على قضايا جدلية بهدف إثارة الرأي العام.
ازدهر النشاط البيئي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وخرج من العباءة التقليدية واحتكار المشاركة على النخبة، كما في نادي (سييرا)، إلى مشاركة أوسع من كل فئات المجتمع، ومنها الشباب. ويعزى توسع قاعدة النشاط البيئي إلى سببين رئيسين: التأثير الكبير لوسائط الإعلام الجديدة – آنذاك – وخصوصًا التلفاز. وكان من نتائجه نشوء جماعات بيئية جديدة كالسلام الأخضر، ومجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية وأصدقاء الأرض. وتوج هذا التوجه البيئي بإنشاء وكالة حماية البيئة الأميركية، وسن قوانين نظافة الماء والهواء. والناشطون في مجال التغير المناخي، هم امتداد طبيعي للناشطين البيئيين، ولكنهم يتميزون بتسخير العلوم الطبيعة لشرح تأثير الإنسان الضار على البيئة. وبدأ هذا النشاط في نهاية الثمانينيات عن طريق مجموعة من علماء المناخ الذين أنشؤوا الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ. ومن جهة أخرى، احتضنتها بقية جماعات النشاط البيئي – وإن بأساليب مختلفة من النشاط – وتوج هذا النشاط بإنشاء اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المعنية بتغير المناخ، وأصبح الجميع ينادون بأكبر تهديد يواجه صناعة النفط في تاريخها “دعوة تحت الأرض”، حيث يمثل تأثير الناشطين البيئيين على الرأي العام وعلى صانعي القرار في قضية التغير المناخي، أكبر تهديد يواجه صناعة النفط؛ لأنه تهديد وجودي جدي منذ إنشائها.
واعتقد الناشطون في مجال أمن الطاقة في السبعينيات من القرن المنصرم، أن الموارد الطبيعية غير المتجددة، وعلى الأخص النفط، على وشك النضوب، بالإضافة إلى مقومات الحياة الأخرى كالماء والغذاء، عند الأخذ في الاعتبار، النمو السكاني العالمي وكميات الموارد المعروفة، وأن عام 2100 سوف يكون العالم قد استنزف موارده غير المتجددة، وأن الغذاء والماء لن يكونا كافيين ليدعما الحياة للجنس البشري. أمَّا الناشطون في مجال حماية المستهلك، فيدفعون بشعار “المنفعة الوطنية يجب أن تتقدم على أرباح صناعة النفط”. ومما يدافع عنه الناشطون في هذا المجال، هو إبقاء قرار حظر تصدير النفط المنتج في الولايات المتحدة الأميركية للخارج، الذي أصدره الرئيس الأميركي جيرالد فورد عام 1975، ضمن قانون سياسة الطاقة وترشيد الاستهلاك كنتيجة لسياسة أمن الطاقة بعد حرب أكتوبر، الذي بدأ يلقى رواجًا بعد ارتفاع الإنتاج الأميركي من النفط بسبب النفط والغاز الصخري، وبسبب الحفر العميق في خليج المكسيك. وتنشط هذه المنظمات المتعددة في مجال مراقبة أسعار البنزين والديزل، حيث يرون – دائمًا – أن شركات النفط تبالغ في الأسعار، وأنها تربح كثيرًا من بيعهما بعد حساب سعر الخام وتكلفة التكرير والنقل.
أمَّا القسم الذي يمثل صناعة النفط، فهو يمثل المشغلين من الشركات العالمية الكبيرة، والمنتجين الأميركيين المستقلين، وشركات خدمات النفط، وأهمها: اللجنة الوطنية النفطية لخدمات الحرب التي ضمت اللجنة الاستشارية لصناعة النفط، التي كانت تضم رؤساء شركات النفط الكبرى، وبدأت علاقة متبادلة بينها وبين الحكومة الأميركية. ومنها، أيضًا، معهد البترول الأميركي، وضم بين عضويته جميع أعضاء اللجنة الوطنية النفطية لتنسيق سياسات صناعة النفط بين الحكومة وأرباب الصناعة، وخصوصًا الشركات الكبرى، وكان الهدف الرئيسي، هو ترشيد الاستهلاك والكفاءة التشغيلية لدعم المجهود الحربي أثناء الحرب العالمية الأولى. وهنالك أيضًا، لجنة فيدرالية للولايات المختصة بالنفط والغاز التي أنشئت عام 1935، تنشط في الكونجرس، وتعنى بأن تكون موارد النفط والغاز الطبيعي، تُستهلك برشد وتُستغل بما يعظم الفائدة منها، وفي نفس الوقت تضمن صحة الإنسان وسلامة البيئة، وتكونت نتيجة للفوضى التشغيلية والتشريعية لحقول كلٍّ من شرق تكساس وأوكلاهوما، وكيف ساهم تعهد مالكي حقوق الاستغلال للنفط في استخراجه بدون رشد، وبيعه بسعر زهيد، مما يهدد الثروة النفطية فيهما.
4 – وسائط الإعلام والنفط
تؤثر وسائط الإعلام في موثوقية سوق النفط، عندما تستطيع وسائط الإعلام تعبئة الرأي العام ضد قضية ما، وتحويل اهتمام الرأي العام بها إلى قوانين؛ نتيجة الضغط الشعبي على الكونجرس، أو مجالس التشريع في الولايات المختلفة، فهي بذلك تؤثر على مستقبل وموثوقية سوق النفط. ويلاحظ أن اللاعبين الأساسيين، يستخدمون وسائط الإعلام، كأداة للتأثير على الرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية، الذي يكون في مجموعه، المستهلكين. وكذلك قد ينشط الإعلام الاقتصادي لتمرير اتجاه ما في سوق النفط، لا يمتُّ للعوامل الأساسية للسوق بصلة، وتكون المحصلة هو التأثير إمَّا العرضي، أو الدائم على موثوقية صناعة النفط. ويلاحظ أن وسائط الإعلام غير موضوعية في تناولها للأحداث الشائكة والقضايا الخلافية، فهي إمَّا أن تؤطر سلبًا، أو أن تضع نفسها في موقع الحكم من هذه القضايا والأحداث بما يتناسق مع أيديولوجية معينة أو ثقافة بعينها، أو قد تثير الرأي العام لقضية ما دون غيرها، أو تجاهل قضية أساسية، أو “تشويش” المعلومات في قضية ما لتشتيت الانتباه، أو تستدعي الصورة الإدراكية الجمعية المتراكمة عند تغطيتها لحدث ما، أو تغطي بشكل غير دقيق وغير حيادي القضايا المختلفة بشكل متعمد، فهي سمة عامة لها ولا تقتصر على قضية ما دون غيرها، فالمهنية الإعلامية أصبحت تقاس بالمقدرة على تمرير القضايا للرأي العام وإقناعهم بشكل مباشر، أو غير مباشر، بما يريد صانعو المادة الإعلامية بها.
صناعة النفط، أكثر عرضة من غيرها للنقد السلبي لتراكم “صورة إدراكية جمعية” سلبية عنها منذ بداياتها حتى الآن، ويرجع جزء كبير من ذلك إلى تركزها الجغرافي، وقلة العاملين بها بالنسبة لعدد السكان وعظم تأثيرها، فهي ليست مهنة كل الناس. فعندما تناقش في وسائط الإعلام يستخدم الآخرون، أو المناطقية كثيرًا، وكأنها ليست جزءًا أصيلاً من النسيج الاقتصادي والاجتماعي للولايات المتحدة الأميركية، وكأن ما تنتجه ضار، وليست الطاقة التي هي من أبرز مقومات الحياة الحديثة. وتتبلور هذه الصورة السلبية حول ثلاث نقاط رئيسية: جشع أرباب الصناعة، والنفط يلوث البيئة، ومعظم النفط يستورد من الخارج، وأن سعره مبالغ فيه، وأن حروبًا تخاض لأجله.
بني الاقتصاد الأميركي منذ تأسيس الولايات المتحدة على مبدأ السوق الحرة، الذي يرى أن سعر السوق لأي سلعة يُكتشف عندما يجتمع في السوق مجموعة كبيرة من الباعة، ومجموعة كبيرة من المشترين للتجارة في هذه السلعة، وأن تحديده من طرف واحد دون الآخر يناقض القيم التي بُنيت عليها الولايات المتحدة. ويعتقد معظم الاقتصاديين بأن السعر يتحدد وفق آلية السوق عندما تكون السلعة قابلة للمنافسة، وكذلك قابلة للاستبدال بسلع أخرى، فالشرط الثاني لا ينطبق على النفط بشكل تام، فالسعر لا يمكن تحديده من السوق بشكل مطلق، لتجنب الإسراف في استخدام السلعة، أو حجزها عن الاستخدام، فخصوصية النفط كسلعة تتطلب تدخل الحكومة لتنظيم الصناعة والمساعدة على اكتشاف السعر. إن قصة صناعة النفط في الولايات المتحدة، تجسد هذه القاعدة. فقد بدأت الصناعة بلا تنظيم من قبل الحكومة، وانتابتها فوضى كبيرة منذ البداية، فكان الإنتاج أكبر من قدرة المستهلكين على استهلاكه أو قدرة المنتجين على خزنه، مما أدى إلى استهلاك غير رشيد له، كمورد طبيعي ناضب. واستغل جون روكيفيلر هذا الوضع، ليستحوذ على تجارة المشتقات النفطية ويحتكرها بنسبة تجاوزت 95%، واستطاع عندها فرض السعر الذي يراه مناسبًا كمحتكر، والذي لم يعتده المستهلكون؛ مما أدى إلى تذمر كبير، دفع بالحكومة إلى فك احتكارها. تركت قصة روكيفيلر، ولاحقًا تآمر الأخوات السبع وتحكمهم في السعر ونزاعها مع المنتجين المستقلين، وبعدها تضاعف سعر النفط لأربع مرات بعد حرب أكتوبر، انطباعًا قويًا، تطور بمرور الوقت إلى أن أصبح صورة إدراكية جمعية، لم يبنَ على علم أو معرفة بطبيعة سوق النفط، بأن أرباب هذه الصناعة هم ثلة من الجشعين والمتآمرين، وهذا ما تصمهم به وسائط الإعلام طوال تاريخ الصناعة من روكيفيلر إلى حد الآن.
تركت حوادث التسرب النفطية منذ الستينيات صور ذهنية متعاقبة، صُورت فيها الصناعة، بالإهمال وعدم المسؤولية، وعلى أنها من أعداء الطبيعة. وساعد على ذلك، تطور وسائط الإعلام، واستغلال التلفاز والصور الفوتوغرافية، وكذلك تزامن نمو الوعي البيئي وحوادث التسرب النفطي. ومن الحوادث المؤثرة في الرأي العام، تسرب النفط من إحدى منصات الحفر البحرية في شاطئ سانتا باربارا في كاليفورنيا عام 1969، حيث تركت الصور الفوتوغرافية للطيور وهي مغطاة بالنفط الأسود وغير قادرة على الطيران، والشواطئ الرملية وقد أصبحت سوداء، وكيف أصبحت بقع النفط السوداء تتناثر في مياه البحر، والأسماك الميتة طافية على سطح الماء، بالإضافة إلى تغطية التلفاز، أثرًا كبيرًا في الرأي العام الأميركي، حيث يعتقد كثير من المراقبين أن هذا الحادث المؤسف أجج الحراك البيئي. ومن الحوادث المهمة، حادث الناقلة إكسون فالديز في ألاسكا سنة 1989، ولعل آخرها حادث منصة الحفر العميق هورايزون في خليج المكسيك 2010 الذي أجج الحراك البيئي مجددًا، ولكن بتقنية العصر الجديد، وهي وسائط الإعلام الاجتماعية.
وضع حظر النفط العربي على الولايات المتحدة الأميركية وهولندا، إبان حرب أكتوبر عام 1973 لمدة تقرب من الخمسة أشهر، وارتفاع سعره أربع مرات، النفط في أعلى سلم أولويات الرأي العام الأميركي، وهُيج ضد صناعة النفط بطريقة غير مسبوقة. وبدأ الحديث بعدها عن “استقلال مصادر الطاقة”، حيث يجب على صناع القرار في أميركا أن تكون مستقلة بمصادر الطاقة الطبيعية، ثم ما لبث أن تمحور حول “أمن الطاقة” لاستحالة الاستقلال التام، وطور بحيث يضمن السيادة، والمتانة، والارتجاعية. وما زال الإعلام يستحضر هذه الأحداث بإيماءات “الحظر العربي” في كل مناسبة ممكنة. لقد كان انقطاع النفط الإيراني سنة 1979، وحرب الناقلات إبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، وحرب تحرير الكويت في 1991، وحرب العراق في 2003، محطات يتجدد الحديث فيها بصوت عال عن أمن الطاقة.
5 – السياق الذي تؤطر فيه قضايا النفط
لا قيمة ذاتية للأخبار والمعلومات، إن لم توضع في سياق محكم، يؤدي إلى فهمها ضمنه، فالكلمات والجمل – بحد ذاتها – معزولة عن أي واقع لم تنسب إليه أصلاً، ولا تستطيع مجتمعة خلق واقع بعينه. الصور الذهنية المغروسة منذ لحظة الولادة مهمة، حتى لحظة تلقي الخبر، كالصور والإشارات الحسية والتعبيرات التصويرية، فاستدعاؤها فرادى، أو مجموعة، في زمن لاحق، يحقق معاني مختلفة باختلاف المجتمعات والأفراد. وتحاول وسائط الإعلام من خلال التأطير، وضع هذا السياق باستدعاء هذه الصور الذهنية، التي لا تأتي من مصدر الخبر أو المعلومة، بل يضيفها الإعلامي لاحقًا، وهو عمله الأصيل والحقيقي، فباختلاف الإعلامي الناقل للخبر أو المعلومة، لا تفهم الأخبار بنفس المعنى الذهني من وسائط الإعلام المختلفة. فالتأطير يعتمد – أيضًا – على قدرة الإعلامي على توظيف وسيطة الإعلام وكلٍّ من قدرة وطبيعة المتلقين للخبر أو المعلومة، فالأفراد الأكثر تعلمًا وثقافة واطلاعًا يملكون أطرهم الخاصة، فالإطار المُحكم هو الذي يستطيع إيصال الأخبار والمعلومات ضمن السياق المقصود إلى متلقين بعينهم، وقد يكون الرأي العام أجمع، فعندها ينجح الإعلامي فيما أراد عمله.
ترزح وسائط الإعلام الأميركية بالكثير من المفاهيم “غير المحكمة” علميًا، التي تُتناول بأيدي غير المختصين، ويكون تناولها إمَّا لهدف الإثارة دون المحتوى، أو تحقيق أجندات معينة. ومن الممكن تصنيف هذه القضايا إلى قسمين: قضايا فنية بحتة يمكن البت فيها، وقضايا أخرى هي موضع عدم اتفاق بين المختصين، والبت فيها لا يؤدي إلى أي نتيجة، وإثارتها للرأي العام تهدف إلى التشاؤم بمستقبل النفط والتشكيك في موثوقية صناعة النفط. إن استخدام الأطر العلمية المناسبة لشرح المفاهيم العلمية والفنية، هو من الأمور الصعبة، وإن لم تكن مستحيلة، وقد يرجع السبب في أن المتلقين للخبر أو المعلومة يفتقدون الأطر العلمية المناسبة، التي لم تكتسب في مراحل التعليم والحياة المختلفة، أو قد يرجع إلى عدم استطاعة المتصدي لهذه المفاهيم، استدعاء الأطر العلمية والفنية المناسبة للاستنباط أو الاستقراء. إن أسوأ ما في هذا الأمر، هو تصدي غير المختصين لها، أو تداولها في وسائط الإعلام من قبل عامة الناس، وخصوصًا في وسائط الإعلام الاجتماعية. وهنا ينبغي التأكيد على الفرق بين التأطير العلمي والفني، والاتصال الاجتماعي البحت. من جهة أخرى، إن ميل بعض العلماء والإعلاميين والسياسيين، لتحييد النقاشات العلمية والفنية، يغذي جذور الصراع السياسي والقيمي، ويضعف ثقة الجمهور في العلماء والبحث العلمي بشكل خاص؛ لذلك يجب مناقشة المفاهيم بتحكيم علمي، ومحاولة إبعاد عامة الناس عن التنازع في القضايا العلمية التي لم تدخل مرحلة التيقن، وعدم طرحها مباشرة على الجمهور لتجنب الجدال الذي لا طائل منه، وتجنب تسييس العلوم والأمور الفنية.
إن أكثر موضوع متداول، قُدِّم للجمهور قبل أن يدخل مرحلة التيقن، هو التغير المناخي الذي استنزف كلا الفريقين: العلماء والمؤسسات العلمية، لأغراضه السياسية، دون التنبه إلى ما يمكن أن يؤدي ذلك إلى خسارة ثقة الجمهور بالعلماء والمؤسسات العلمية. إن استخدام بعض وسائط الإعلام للإطار المتسبب في التغير المناخي بالوقود الأحفوري، ومنه النفط، أسهم في إيجاد علاقة سببية بين صناعة النفط والغاز، على وجه الخصوص، وارتفاع معدل درجة حرارة الأرض. فأضحى مستقبل النفط مرتبطًا بارتفاع معدل درجة حرارة الأرض. ويلاحظ هذا النجاح في أوروبا بشكل أكبر، لقدرة الناشطين البيئيين هنالك على تمرير هذا الإطار لاستعداد المجتمع ثقافيًا على تقبله، بينما لا تذكر صناعة الفحم الحجري إلا نادرًا، لقلة تناولها في وسائط الإعلام عمومًا، ولأن جماعات الضغط من قبل هذه الصناعة تنشط بشكل كبير.
من المواضيع الأخرى التي جذبت بعض الاهتمام من الرأي العام في السبعينيات، موضوع مدى قدرة صناعة النفط على توفير النفط بتكلفة لا تضر بالاقتصاديات المستهلكة له، فعلى هذه القدرة تُبنى سياسات أمن الطاقة واستهلاك الطاقة في المستقبل. وتطور هذا الموضوع على أطوار عدة، فبدأ بالحديث أولاً عن ذروة إنتاج المصادر غير المتجددة، وكان ضمن سياق الحديث العام عن مدى قدرة المصادر غير المتجددة، وحتى المتجددة، على استيعاب الموجات الاستهلاكية المستقبلية المتزايدة للمصادر الطبيعية نتيجة الزيادة السكانية، ونتيجة اتساع قاعدة المستهلكين لهذه المصادر، وأيضًا زيادة معدل استهلاكها من الفرد الواحد. فإذا أخذنا ذلك في في الاعتبار، مع نضوب المصادر غير المتجددة، ومنها النفط، ووصول الإنتاج إلى الذروة، فإنه لا يستطاع زيادة الإنتاج بما يستوعب قدرة المصدر على الوفاء بالطلب. وبعد أن فُندت هذه النظرية عن طريق التطور التكنولوجي، وزيادة الكفاءة، وإمكانية توفر البدائل، انتقل الحديث عن مخاطر وجود المصادر غير المتجددة لدى منتجين غير موثوقين، فاعتماد الاقتصاديات المستهلكة على مصادر ذات مخاطر جيواستراتيجية عالية، يهدد الاستقرار الاقتصادي فيها. وتُفند هذه النظرية من خلال سعي هؤلاء المنتجين لأن يكونوا منتجين موثوقين، لما يحقق لهم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في المقابل. وأخيرًا نشأت فكرة تأثير تكلفة إنتاج النفط المتصاعدة على مستقبل الاقتصاديات المستهلكة، والمشهورة بتعبير “نهاية عصر النفط الرخيص”.
6 – الأخبار التي يغطيها الإعلام الأميركي وتتعلق بالنفط
يلاحظ أن أغلب هذه القضايا التي تطرح في وسائط الإعلام، هي سلبية الطابع، وهي ميزة عامة في نقل الأخبار عن طريق وسائط الإعلام، عمومًا. فإذا كان الحافز في نقل أخبار النفط تنبع من أهميته، فإن النزعة لنقل السلبية، دون الإيجابية، تعزز الصورة الإدراكية الجمعية السلبية، وتجعل تغييرها مع مرور الوقت، أمرًا ليس بالهين، فهي صور متراكمة، وتتجدد باستمرار على وقع القضايا المستجدة.
ويغطي الإعلام الأميركي، جملة من الأخبار المتعددة التي تكون فيها للشؤون النفطية دور بارز، فيمكن تصنيف هذه الأخبار إلى ثلاثة أصناف: اقتصادية، وقضايا تتعلق بأمن الطاقة، وقضايا البيئة والتغير المناخي. وإن أهمها على الإطلاق هو علاقة النفط بالاقتصاد، فمن الأخبار الاقتصادية: التضخم، وتجارة النفط الدولية، وتأثر اقتصاديات الدول المستهلكة والمنتجة بأسعار النفط، وأرباح الشركات الكبيرة، والاستثمارات الكبيرة في مجال النفط، والاندماج والاستحواذ، وتأثر سلوكيات المستهلكين بأسعار النفط، كاقتناء السيارة الصغيرة أو ذات الدفع الرباعي، وتأثر أسعار تذاكر الطيران بأسعار النفط، والضرائب على مشتقات النفط، والاستثمارات النفطية في الخارج، ومدى قدرة بدائل النفط على المنافسة. أمَّا قضايا أمن الطاقة، فتتعلق بالاعتمادية على النفط المستورد، والحروب التي يدخل فيها النفط كعامل يؤثر في مسارها، والهجوم على البنية التحتية للنفط في الدول المنتجة، وسعة المصافي، وفساد شركات الطاقة بشكل عام، ووفرة النفط والاستكشافات النفطية، وتأثر الحياة السياسية والاجتماعية في الدول المنتجة للنفط، وتأثر المنتجين المستقلين بأسعار النفط، وذروة الطلب على النفط، وتدخل الحكومات في قضايا النفط. أمَّا القضايا البيئية، فهي تتعلق بالتغير المناخي، والوقود الأحفوري، والتسربات النفطية، والتكسير الهيدروليكي، وتلوث المياه، وتلوث الهواء، وسياسات البيئة.
7 – كيف تؤثر وسائط الإعلام على موثوقية سوق النفط؟
شاركت وسائط الإعلام في ترسيخ قيم الحداثة، والتفكير المستقل، واتساع التعبير عن وجهات النظر، وكذلك حفظ ونشر العلوم والتكنولوجيا، والأطر المرجعية للأفراد والجماعات، والخبرات الذاتية والمجتمعية، والتاريخ. وتُمثل وسائط الإعلام كفاءة كلٍّ من الاتصال وعملية التأطير والإدراك، فبحسب قدرة الوسيطة الإعلامية على إيصال المكونات الإطارية الضمنية، تتحدد كفاءتها على الاتصال الجماهيري أو المحدد. فلوسيطة الإعلام، أثر بارز على المحتوى، ولوسائط الإعلام المختلفة قدرة على إيصال طبيعة معينة من المحتوى دون غيره، فمثلاً: للصحافة المكتوبة، قدرة أكبر على إيصال القضايا ذات البعد الفكري والعقلي العميق، بينما جهاز التلفاز أكثر ميلاً لإيصال المكونات الإطارية الضمنية، ومنها العواطف والمشاعر. أمَّا وسائط الإعلام الاجتماعية، فلها القدرة على الاتصال من الاتجاهين، أو الاتصال المتبادل اللحظي؛ مما يمنحها ميزة دراسة ردود الأفعال المتبادلة للوصول إلى تبادل أفضل للأفكار والمعلومات والتحليل. علاوة على ذلك، لوسيطة الإعلام، قدرة معينة على حمل قدر محدد من المحتوى، أو المعلومات، أو الأخبار، في حين تتميز صفحات الشبكة العنكبوتية الصماء بقدرة غير محددة على حمل المحتوى لا تتوفر في غيرها من الوسائط؛ لذلك لا بد من التصفية الذهنية من حيث الكمية والنوعية، لكي تكون ذات معنى ومصداقية، وهي مهمة الصحافة.
ساهم تطور وسائط الإعلام المتواصل في تشكيل ديناميكية الرأي العام، وتقليل الفجوات المعرفية بين الأفراد ذوي المستويات المنخفضة والعالية من التعليم، أو أصحاب تجارب الحياة المختلفة. وللتحولات التكنولوجية، أثر كبير على صناعة الإعلام، على الرغم من أنه من الصعب القول ما إذا كانت التكنولوجيا، أحدثت تحولاً ثقافيًا حادًا، فقد حققت انتشارًا للمعرفة والأخبار بأقل تكلفة، وأصبحت في متناول الجميع، حيث ما زال تطور تكنولوجيا وسائط الإعلام متواصلاً. وتؤثر وسائط الإعلام تأثيرًا كبيرًا في توصيل الأخبار عن طريق التحكم في تراتبية القضايا، والتقييمية، والتأطير.
وتراتبية القضايا، هي عبارة عن عملية فرز للقضايا العامة، تقوم بها وسائط الإعلام بتقديم قضايا معينة على أخرى بشكل بارز، وتكون النتيجة أن قطاعات واسعة من الجمهور تدرك أن تلك القضايا أكثر أهمية من غيرها، عملاً بمبدأ “المزيد من التغطية لقضية ما، الأكثر أهمية لعموم الناس”. ويتعدى مفهوم تراتبية القضايا، المفهوم المشار إليه سلفًا عن “إثارة الرأي العام”، إلى إبراز غير مبرر لقضايا معينة يغطيها بكثافة دون سواها. وينبع هذا السلوك لوسائط الإعلام من وجود أجندات سياسية، أو اجتماعية، أو تحت تأثير مجموعة من الأفراد أو النخبة. وتبرر وسائط الإعلام هذا السلوك عند الحاجة إلى “توجيه الرأي العام” المشغول بقضايا الحياة المختلفة، إلى قضايا تبدو أكثر إلحاحًا في نظرهم. وتعكس تراتبية القضايا، اختلاف تغطية الأحداث بين وسائط الإعلام المختلفة.
وتختلف “تقييمية” الناس للقضايا والأحداث لاختلافهم في المعايير التي يستخدمونها في تقييماتهم. وتحدث “تقييمية” وسائط الإعلام عندما تقترح المحتوى والسياق في قراءتها للأحداث بالقياس إلى معايير جدلية، أو تقييمها على أساس قضايا سابقة عالقة في الذاكرة الجمعية للجمهور، وقد لا تتشابه – بالإطلاق – مع القضايا المطروحة – حاليًا – من حيث الظروف والمسببات والآثار، في أغلب الأحيان. “تقييمية” القضايا يجب ألا تكون من وظائف وسائط الإعلام، وإلا كانت الحكم في القضايا الخلافية، فتعتدي بذلك على سلطات الدولة، وكذلك تهمش عقول الجمهور.
من جهة مقابلة، فالتأطير هو معالجة جوهرية للمحتوى، ويحدث أثرًا أكبر من تراتبية القضايا و”تقييمية” وسائط الإعلام، كلما زاد مستوى التعليم عند الجمهور، وأصبحت الفائدة منهما أقل، إذ إن وعي الجمهور يجعلهم يستاؤون من تهميش قدراتهم العقلية، وقد يحدث ذلك ردّة فعل عكسية. إن تسمية قضية ما، ووصفها، ومن ثم تقديمها للجمهور في أطر معينة، تحدد كيف يفكر الجمهور فيها. ويعرف الإطار، على أنه نمط مركزي منظم للتفكير في شأن ما، مشترك بين الباعث والمستقبل له، وتزداد كمية وكفاءة الأطر بزيادة التعليم وتجارب الحياة، وتعزيز الفطرة. وهنا لا بد من التنويه، بأن الجمهور سيكون له تصورات مختلفة وعاطفية وتلقائية عن القضية المستحدثة، لا يستطيع الصحفي إغفالها عند إنتاج العمل الصحفي، وقد يوظفها فيه إذا ما تناسقت ومضمون العمل.
وضعت الأسس العلمية للتأطير من قبل عالم علم الاجتماع جوفمان، عام 1974، الذي افترض أن الأفراد لا يمكنهم فهم العالم بشكل كامل، وبوتيرة مستمرة، ولا يستطيعون تسخير تجاربهم المتراكمة في الحياة لفهم الأحداث المستجدة، لذلك يستخدمون الأطر الجاهزة المكتسبة من التعليم والثقافة لتصنيف المعلومات وربطها بالأطر المختزنة، لتفسير ما يجري حولهم. وتنجح عملية التأطير لقضية ما في الإطار العلاقة الموسومة له، كالعلاقة السببية بين أمرين أو أكثر، أو أن يضع قيم الأمور المختلفة في قضية ما في نسب وتناسب ذهني، أو يضع لها أهمية نسبية إزاء قضايا أخرى متزامنة معها أو متعلقة بها. غالبًا ما يتم إرسال أطر متعددة عند إنتاج العمل الصحفي، ليتم تحميل رسائل ضمنية كثيرة، لا يحتمل أن يفندها المتلقي جميعًا جملة واحدة، فهي تحدث أثرًا عندما تكون مجتمعة، حتى لو لم تكن واضحة أو مترابطة، وهذا جزء من عمل الصحفي أن يحمل الرسائل الضمنية المتعددة، من دون ذكرها نصًا، ومن دون قدرة المتلقي على ردها لو كانت آحادًا. وهنا لا بد من التأكيد على أن مهمة الصحفي في اختيار الأطر، يجب أن تتركز على تحفيز تفكير الأفراد في قضية ما، للوصول إلى إجماع، لصناعة رأي عام عقلاني حولها، وليس توجيه الرأي العام لأخذ موقف يفرضه اختيار الأطر في حد ذاته. إن تأطير القضية الموجه، هو وسيلة استراتيجية لجذب المزيد من الأنصار لتفسيرها، ثم التعبئة للعمل الجماعي في سبيلها، وتوسيع أكبر لنطاق فاعل من التأثيرات لها، ومن ثم زيادة فرص إنجاح مسعاهم اتجاهها.
إن وسائط الإعلام، تؤثر في الرأي العام، من خلال توفير مقومات الحكم على القضايا لمجموعات كبيرة من الناس، مختلفين في القدرات الذهنية على نطاق واسع، ومختلفين في الرغبات والتطلعات، لتطوير مواقف جماعية فيما يتعلق بالشؤون العامة. ووسائط الإعلام، تخبر الناس عن أهمية القضايا، وتحفز الجمهور إلى الاهتمام بها. والرأي العام يوفر المرجعيات والظروف والأطر التي يمكن من خلالها مناقشة السياسات والخيارات والقرارات، وقد يستخدم الرأي العام باعتباره قيدًا رئيسيًا على عمل الحكومة، بدلاً من أن يكون عامل استحداث أو تغيير، كما هي الصورة السائدة. والبلدان الديمقراطية، تتفق على مبدأ جوهري، هو أن للرأي العام تأثيرًا بالغ العمق على السياسة العامة، ويزداد هذا التأثير كلما أصبحت هذه البلدان أكثر ديموقراطية. فالقضايا التي تدخل في دائرة اهتمام الرأي العام، لا بد أن تُتناول في أقبية صناع السياسات، فالتحدي الماثل لصُناع السياسات – بالطبع – هو تحديد “ما يريده الجمهور” ضمن التوازنات السياسية المختلفة. والعلاقة بين الرأي العام والسياسة العامة في تشكيل السياسات والتشريعات، وكذلك الخطاب السياسي، تشير إلى أن الآلية تنبع من خلال توقع الثواب والعقاب عند صناديق الاقتراع، من حيث اتخاذ مواقف تأخذ في الحسبان الرأي العام أو لا. هذه العلاقة لها ملامح عديدة، فمثلاً: يمكن للسياسيين تناول القضايا التي تدخل في دائرة الرأي العام لزيادة شعبيتهم، أو تجنب الإجراءات التي من شأنها أن تولد قدرًا كبيرًا من الاستياء لدى الرأي العام.
تتشكل السياسات في الولايات المتحدة الأميركية من تفاعل مجموعة من اللاعبين الرئيسيين: المواطن الناخب العادي، والنخب الاقتصادية، وجماعات المنفعة المنظمة، الذين يؤثرون على صنع القرار عن طريق وسائط الإعلام، أو التأثير المباشر على صانعي القرار. فإذا كان الرأي العام، ليس هو العامل الوحيد الذي يؤثر في صياغة السياسات، فإن التغطية الإعلامية، من جهة أخرى، هي العدسة التي يرى من خلالها الجمهور تطور النقاش السياسي وتأثير جماعات الضغط، ومن ثم ضبط المحصلة عن طريق الرأي العام. إن للنخب الاقتصادية تأثيرًا كبيرًا جدًا وهامًا للغاية، ولكنه غير مباشر، غالبًا ما تمارسه عن طريق جماعات الضغط. إن جماعة المنفعة المنظمة، تعبأ وتدافع عن السياسات العامة التي تخدم رغبات أعضائها وتعزيز مهمة منظماتهم، وتشمل جمعيات رجال الأعمال والتجارة، والمنظمات المهنية والنقابات العمالية، ومنظمات الدفاع عن البيئة، ومجموعات الأفراد ذوي الأهداف المشتركة، وكذلك جماعات الضغط. إن صنع السياسة ليس – بالضرورة – لعبة صفرية لهؤلاء اللاعبين، فعندما يفوز مجموعة من اللاعبين المختلفين في التوجه السياسي، فإن الآخر قد يفوز أيضًا.
8 – بعض القضايا الاقتصادية والجيوسياسية التي أثرت في موثوقية صناعة النفط
وما إن مرت سنوات قليلة، إلا وباتت هذه القضية، أحد الأسباب المهمة لتشكل جماعات أخرى لحماية البيئة، ساهمت في توجيه الرأي العام الأميركي للضغط على السياسيين لإجراء موجة من التشريعات البيئية. وكان ذلك حراكًا جديدًا مختلفًا في التاريخ الأميركي. ومثال على تلك التشريعات البيئية، إصدار الكونغرس لقانون السياسة البيئية الذي يستلزم دراسات الأثر البيئي قبل اتخاذ أي إجراء قانوني. وأيضًا صدر قانون الهواء النظيف والماء، وقوانين لحماية المناطق الساحلية الحساسة، وحماية أنواع الحيوانات والقشريات المهددة بالانقراض، ومطالبات مستمرة للتأكد من أنشطة السلامة في الصناعة النفطية.
9 – تحدي التغير المناخي وموثوقية صناعة النفط
تعتبر قضية التغير المناخي من أكثر القضايا خطورة التي تؤثر سلبًا في موثوقية صناعة النفط، ويؤُطر فيها النفط في مجموعة الوقود الأحفوري. وتساعد الأطر التي تستخدم في وسائط الإعلام في تحديد شروط النقاش بين الفاعلين السياسيين والجمهور، ولكنها يجب ألا تكون وحدها على وجه الحصر. ويستحوذ تأطير قضية بيئية ما بطريقة ما، على توجه الجمهور المعني بهذه القضية، فاستخدام الأطر المناسبة أو المثيرة لفضول الجمهور، قد تدخل هذه القضية في دائرة اهتمام الرأي العام. عندما لا تكون أبعاد القضية واضحة، فهذا يفتح مجالاً واسعًا لمجموعات المنفعة المنظمة لتحديد أبعادها، التي تعكس – بالطبع – رؤيتهم الخاصة وأجندتهم.
أصبح تأطير العلاقة بين التغير المناخي، وكلٍّ من الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية من الأمور المستجدة التي تشغل بال العلماء وصناع القرار حول العالم، فلم يبدأ الاهتمام بالتغير المناخي، إلا في العقود الأربعة الأخيرة. مع ذلك، ما زال الإطار العلمي للتغير المناخي، غير واضح بشكل جلي لكثير من المتابعين والمهتمين بهذا الشأن. إن الجانب الأهم في هذا الموضوع، هو حل المعضلة التالية: يمثل استخدام الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي والفحم الحجري)، معضلة حقيقية، فهو من جهة، لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية في الدول النامية، ولا غنى عنه كذلك، للمحافظة على التقدم الاقتصادي في الدول المتقدمة، كأفضل مصدر اقتصادي وموثوق وعملي للطاقة. ومن جهة أخرى، فإن استخدامه في مجال الطاقة، يساهم إلى حد بعيد في زيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، التي تؤدي إلى التغير المناخي وإضعاف قدرة الأرض على توفير متطلبات الحياة، كالماء والغذاء والصحة والأرض الصالحة للعيش، كما ألفناها في الماضي.
إن تقييد التنمية الاقتصادية أو النمو الاقتصادي، ليس خيارًا مطروحًا لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، فعندها لا يكون التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى البدائل الأخرى، ذات التكلفة الاستخدام العالية وغير العملية في كثير من التطبيقات، هو الحل الوحيد. إن البديل العملي لخفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، يتأتى من المزج بين خمس طرق: تقنين وترشيد الطلب على الطاقة، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة، واستخدام تكنولوجيات منخفضة استهلاك الطاقة، واستخدام تكنولوجيات الانبعاثات السلبية التي تلتقط غاز ثاني أكسيد الكربون وتجتزه، واستخدام بدائل للوقود الأحفوري. وتؤدي التكنولوجيا دورًا محوريًا في التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، فمزيج الطرق التي تساهم في خفض الانبعاثات، يعتمد تصميمه بشكل كبير على ابتكار تكنولوجيات جديدة.
تستخدم أطر مختلفة عند الحديث عن التغير المناخي، ومنها: التركيز على المخاطر التي تهدد البيئة، وحماية الطبيعة من الضرر، أو التركيز على المخاطر التي يتعرض لها البشر، وحماية من هم أكثر احتياجًا من الآثار السلبية للتغير المناخي، أو تأطير من حيث الصحة العامة، يؤكد إمكانية تغير المناخ لزيادة الإصابة بالأمراض المعدية، والربو، والحساسية، وضربة الشمس، وغيرها من المشاكل الصحية البارزة، وخاصة بين السكان الأكثر حاجة للمساعدة، ككبار السن والأطفال، أو تعريف القضية من الأساس على أنها مسألة صواب أو خطأ، أو دعوة لتفادي الآثار المحتملة في مواجهة كارثة، أو على أنها ستصبح خارج نطاق السيطرة، أو هل هو قرار أو عمل من أجل المصلحة العامة أو خدمة المصالح الخاصة، أو التركيز على النزاهة والشفافية، والملكية، بما في ذلك مراقبة الاستخدام المسؤول أو إساءة استعمال الخبرة في صنع القرار، أو التركيز على أن المعركة هي بين شخصيات أو مجموعات، أو التكتيكات والاستراتيجيات المعنية، وكيف أنها تؤطر على أساس “اللعب السياسي”. والاستراتيجيات التي تستخدمها منظمات المجتمع المدني، تتحول مع مرور الوقت، وتعكس فهمًا للجمهور أكبر من منافسيهم. ويفترض بأسواق الطاقة، إدراك العلاقة بين التغير المناخي والوقود الأحفوري، إلا أنه لم تتضح – حتى الآن – علاقة سببية واضحة بين التغير المناخي وأسواق النفط، ولكنها بدأت تظهر جلية في كلٍّ من أسواق الفحم الحجري والغاز الطبيعي.
10- القضية الغائبة عن الإعلام: التطور التكنولوجي في صناعة النفط وأثره الإيجابي في موثوقيته
إن التطور التكنولوجي المتواصل لصناعة النفط، عامل مهم لترسيخ موثوقية صناعة النفط، فهو يزيد من قدرة صناعة النفط على تخفيض تكلفة الاستخراج والتكرير. وكذلك الوصول والاستخراج من مكامن لم تكن معروفة، أو كانت عصية على الاستخراج بسبب عدم ملاءمة التكنولوجيا للاستخراج منها، يساعد على توسيع قاعدة الطلب على المشتقات النفطية، وكذلك يقدم حلولاً للمشاكل المصاحبة لاستهلاك مشتقاته كانبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي. مع تسارع وتيرة الطلب العالمي على الطاقة، تتزايد أهمية التقدم التكنولوجي لتوفير الطاقة بتكلفة اقتصادية وبموثوقية عالية. إن التقدم التكنولوجي، لا يختص بمصدر واحد للطاقة. وتغير التنافسية لكل مصدر طاقة من خلال تقليل تكلفة الإنتاج لكل وحدة حرارية، ومدى ملاءمته لأنماط الاستهلاك، من الأمور التي تطور خريطة الاستهلاك العالمي للطاقة بشكل دائم. وكذلك صناعة النفط والغاز، معنية بمواصلة تبني التقدم التكنولوجي لمواجهة التحديات الجيولوجية والزيادة المطردة للطلب العالمي على النفط.
ومن التكنولوجيات الواعدة التي ما زالت في مرحلة التطوير، استخدام تكنولوجيات الانبعاثات السلبية التي تلتقط غاز ثاني أكسيد الكربون، ومن ثم تحجزه، أو أن يتم استغلاله في تطبيقات صناعية أخرى. ويعتبر التقاط ثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء، من أكثر التطبيقات ملاءمة لهذه التكنولوجيا بوضعها الحالي من التطور، وكذلك علاقة الجدوى الاقتصادية وحجم المنشأة. إن ابتكار تكنولوجيا قادرة على التقاط الكربون وحجزه على نطاق صغير، وبتكلفة منخفضة وموثوقية عالية، سيعدُّ خرقًا كبيرًا. وفي حين لا يزال استخدام الطاقات المتجددة كبدائل الوقود الأحفوري، غير مجد اقتصاديًا في مجالات توليد الكهرباء من دون تطوير تكنولوجيا التخزين للطاقة الكهربائية، فإن تشكيل مزيج الطرق الذي يساهم في خفض الانبعاثات والانتقال إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، سوف يعتمد بشكل أساسي على المنافسة بين هذه التكنولوجيات للوصول إلى حلول موثوقة وعملية ومنخفضة التكلفة.
إن عزوف وسائط الإعلام التقليدية – بشكل عام – عن تناول ما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا من حلول للمشاكل المختلفة، أو مدى ما يمكن أن تحدثه من زيادة لموثوقية لسلعة ما، هو أمر لا يخص صناعة النفط في حد ذاتها، بل يشمل جل السلع. ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، منها: أن إمكانية إحداث خرق تكنولوجي في المستقبل، هو أمر يتسم بعدم اليقين، وزد على ذلك صعوبة تأطيره العلمي لعامة الجمهور والخروج بتصور عن مدى قدرته على حل مشكلة ما، كالتغير المناخي. أمَّا إذا كان التطور التكنولوجي متواصلاً، ويبني على إحداث تغيرات طفيفة، فإن مناقشته لن تكون بالأمر الجذاب، فهي تفتقد الإثارة ورؤية تغير كبير ماثل. من جهة أخرى، هنالك صعوبة كبيرة في توقع مدى ما يمكن أن يحدثه خرق تكنولوجي كبير، فكيف بشرح إمكانية الخرق من خلال وسائط الإعلام لعامة الجمهور.
11- استنتاجات عامة ونصائح للمعنيين بصناعة النفط
تمثل وسائل الإعلام الأميركية، أداة في أيدي عدد من اللاعبين الناشطين في سوق النفط. لقد استغلت وسائل الإعلام الأميركية، وضعية سوق النفط بأنها “غير مكتملة” للتدخل والتأثير، على اعتبار أن التدخل الحكومي والعالمي – إن وجد – لاستكمال السوق، غير فعَّال في إعادة تصميم آليات السوق النفطية، وتحديث أو وضع السياسات واللوائح، عن طريق تعبئة الرأي العام للتأثير على صانعي السياسات.
إن تركيز شركات النفط على التأثير المباشر في صانع القرار لمجابهة المرجفين في صناعة النفط، وهو أمر قد لا يبدو مجديًا مع اشتداد حملة التشكيك، وانتشار المعلومات على صفحات الشبكة العنكبوتية ووسائط الإعلام الاجتماعية التي تبني فكر جيل جديد، أصبح أكثر ميلاً للأفكار الراديكالية والليبرالية. ولمجابهة تعزُّز الصورة السلبية، لا بدَّ لصناعة النفط من تقنين العمل في مجال العلاقات العامة بشكل استثنائي يتناسب مع طبيعة الصناعة، والعمل على جبهتين: الأولى، تقضي بتحييد الصورة الإدراكية الجمعية السلبية عن طريق نشر تاريخ النفط من وجهة نظر الصناعة، ليقابل رواية مروجي الأفكار السلبية عنها، عندما تستعاد الذاكرة، أو بمبادرات من قبل الصناعة. والثانية تقضي بملء الفضاء الإعلامي المستمر والمتدفق بالمعلومات والأخبار الإيجابية عن الصناعة من ناحيتي الكم والكيف.
وسائط الإعلام الحديثة، تمثل تحديًا وفرصة في نفس الوقت. فعبر مزيج من التأطير التقليدي “من أعلى إلى أسفل”، والتأطير الحديث “أسفل إلى أعلى” الذي يكون مشتركًا بين مجموعات من المتلقين من القضايا كمجاميع المهتمين بقضايا البيئة، أو حماية المستهلك، أو المتخصصين في العلوم المختلفة، سوف تحدث – بلا شك – ثورة في كيفية تشكيل الرأي العام. إن ملء الفضاء المعلوماتي في الشبكة العنكبوتية، مع الأخذ في الحسبان هذا المزيج، سوف يعزز فرصة صناعة النفط في إحداث تغيير جوهري في الرأي العام تجاهها. إن ترك الفضاء المعلوماتي لهم ليملؤوه، فسوف تنشأ الأجيال الجديدة، وهم أكثر استخدامًا له وأكثر تأثرًا في نفس الوقت، وفقًا لهواهم ورؤيتهم، وسيكون التغيير والإقناع أصعب حينها، فلا بد من مجابهة استراتيجيتهم هذه بأخرى مضادة، كملء الفضاء المعلوماتي بالمعلومات والتعليقات المضادة، وكذلك الإيجابية عن صناعة النفط.
يجب على صناعة النفط، التعلم من الماضي لمجابهة هذه القضايا في الحاضر والمستقبل، باستباق المرجفين بها بتعليم الأطر العلمية المناسبة للجمهور، في مراحل التعليم أو في وسائط الإعلام، ليكون أكثر حصانة ضد التشكيك بموثوقية صناعة النفط، كتأثير التكنولوجيا في كلٍّ من تكلفة الإنتاج، والجيولوجيا، والبيئة، وكذلك ملء الفضاء المعرفي في وسائط الإعلام والإنترنت بالشؤون العلمية المناسبة للجمهور عن النفط. فالجيل الجديد أكثر ميلاً لتصفح الإنترنت والتشارك في الآراء في وسائط الإعلام الاجتماعي، وبالتالي الاستماع لجهات متعددة أكثر لدحض إفكهم، فلا مجال هنا للتغاضي. فمع زيادة اليقين العلمي بالتغير المناخي، تواجه الصناعة – حاليًا – موقفًا غير متماسك بين أعضائها، لا تستطيع فيه مواصلة المشاركة في إنكار التغير المناخي، فلا بد من تغيير الاستراتيجيات، ولا ينفع هنا تغيير التكتيكات، بل يجب أن تأخذ الصناعة المبادرة، وتتجه لإيجاد حلول تكنولوجية لانبعاثات الغازات الدفيئة، توازن بين زيادة التكلفة ووجود البدائل.
وبالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، يجب أن نكون أحد اللاعبين الرئيسيين في صناعة النفط في الولايات المتحدة، فيجب أن تقود، وتؤثر، وتقدم مثالاً للآخرين. فلا يلبي اللاعبون الحاليون في صناعة النفط في الولايات المتحدة، جميع أهداف دول مجلس التعاون الخليجي، في كل الأوقات، فيجب أن يكون لهذه الدول تأثير استراتيجي وفعَّال على وسائل الإعلام والضغط.
هنالك حاجة ملحة للدفاع عن التدخل في أسواق النفط العالمية من قبل دول منظمة أوبك، لمساعدة السوق على اكتشاف السعر العادل كإجراء مبرر، وأمر حيوي؛ لأن سعر النفط العادل، الذي يساهم في وضعه المشاركون في السوق بناء على افتراضاتهم المستقبلية، يجب أن يتضمن مصلحة كلٍّ من المنتجين والمستهلكين في آن واحد، ويدحض أوبك باعتبارها (كارتل).
في داخل صناعة النفط، هنالك مصالح متضاربة بنمط ديناميكي متغير بين أرباب الصناعة، بالإضافة إلى الأعداء الاستراتيجيين. ويجب على أرباب صناعة النفط تعزيز المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة داخلها ومع الآخرين. وعلى سبيل المثال، فإن اتخاذ موقف استراتيجي متجانس من التغير المناخي، هو أمر مهم لتعزيز موثوقية سوق النفط.
وأخيرًا، لا بدَّ من أن تأخذ صناعة النفط المبادرة من أعدائها الاستراتيجيين، فبقاؤها في موقف المتلقي يكلفها أكثر.
12 – REFERENCES
[1] M. A. B. a. P. B. Potter, “The Relationships Between Mass Media, Public Opinion, and Foreign Policy: Toward a Theoretical Synthesis,” Mass Media, Public Opinion, and Foreign Policy, 2008.
[2] IEA, INTERNATIONAL ENERGY AGENCY, Paris: OECD/IEA, 1994.
[3] R. W. OLDENDICK, “The Role of Public Opinion in Policy and Practice,” PUBLIC POLICY & PRACTICE, 2002.
[4] S. A. I. S. a. T. H. Hannah Schmid-Petri, “A changing climate of skepticism: The factors shaping climate change coverage in the US press,” Public Understanding of Science, 2015.
[5] K. W.-J. T. Hanitzsch, THE HANDBOOK OF JOURNALISM STUDIES, New York: Routledge, 2009.
[6] P. J. S. S. D. Reese, MEDIATING THE MESSAGE, New York: Longman Publishers, 1996.
[7] J. Zaller, “A Theory of Media Politics,” Working Paper, 1999.
[8] F. Webster, Theories of the Information Society, New York: Routledge, 2006.
[9] G. S. Jowett and V. O’Donnell, Propaganda and Persuasion, New York: SAGE Publications, Inc, 2012.
[10] D. Scheufele, “Framing As A Theory of Media Effects,” Journal of Communication, 1999.
[11] D. A. S. &. D. Tewksbury, “Framing, Agenda Setting, and Priming: The Evolution of Three Media Effects Models,” Journal of Communication, 2007.
[12] V. B. a. S. Bremner, The Routledge Handbook of Language and Professional Communication, New York: Routledge, 2014.
[13] P. Moy and B. Bosch, Handbook of Communication Science: Theories of public opinion, Berlin, 2013.
[14] T. RISSE-KAPPEN, “PUBLIC OPINION, DOMESTIC STRUCTURE, AND FOREIGN POLICY IN LIBERAL DEMOCRACIES,” World Politics, 1991.
[15] J. Jerit, J. Barabas and T. Bolsen, “Citizens, Knowledge, and the Information Environment,” American Journal of Political Science, vol. 50, no. 2, pp. 266-282, 2006.
[16] M. H. a. J. Garry, “Thinking About Salience,” Working, 2000.
[17] P. Converse, “Changing Conception of Public Opinion in The Political Process,” Public Opinion Quarterly, 2002.
[18] B. Norrander and C. Wilcox, Understanding Public Opinion, Washington, D.C.: CQ Press, 2010.
[19] M. G. a. B. I. Page, “Testing Theories of American Politics: Elites, Interest Groups, and Average Citizens,” Perspectives on Politics, 2014.
[20] C. H. a. P. S.-M.PARK June, “Social Media’s Impact on Policy Making,” SERI Quarterly, 2011.
[21] D. Yergin, The Prize: The Epic Quest for Oil, Money & Power, New York: Free Press, 2008.
[22] S. ISSER, The Economics and Politics of the United States Oil Industry, 1920–1990, New York: Routledge, 1996.
[23] C.-Y. C. L. Lawell, “Market Power in the World Oil Market: Evidence for an OPEC Cartel and an Oligopolistic Non-OPEC Fringe,” Working, 2016.
[24] M. K. a. A. K. Ralf Dickel, Putting a Price on Energy, Energy Charter Sec retariat, 2007.
[25] HYDROCARBONS: ECONOMICS, POLICIES AND LEGISLATION, 2010.
[26] S. Silver, A Media Relations Handbook for Non-Governmental Organizations, New York: A publication of the Independent Journalism Foundation, 2003.
[27] D. L. G. a. C. J. Bosso, “Framing ANWR: Citizens, Consumers, and the Privileged Position of Business,” Working Paper, 2008.
[28] G. B. a. J. M. Tom Perreault, THE ROUTLEDGE HANDBOOK OF POLITICAL ECOLOGY, New York: Routledge, 2015.
[29] D. Yergin, The Quest: Energy, Security, and the Remaking of the Modern World, New York: The Penguin Press, 2011.
[30] C. F. a. M. Sandoval, Critique, Social Media and the Information Society, New York: Routledge, 2014.
[31] M. Fernandez, L. S. G. Piccolo, D. Maynard, M. Wippoo and C. a. A. Meili, “Talking Climate Change via Social Media: Communication, Engagement and Behaviour,” Working, 2016.
[32] D. L. W. G. T. C. B. H. Reber, Public Relations, Edinburgh Gate: Pearson Education Limited, 2015.
متخصص في السياسات الاقتصادة للنفط والطاقة*
@knadhmi
متخصص في السياسات وتشريعات الطاقة*
@aman_eamanii
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر