أصبحت الأزمة الليبية من أبرز القضايا الإقليمية المستعصية، ورغم مرور حوالي عشر سنوات على اشتعالها، مازالت فرص التسوية ومخاطر الارتداد للمربع الأول قائمةً بذات الدرجة، إلا إنه وبالنظر لما شهده عام 2021 من تحولات هامة تؤشر على أن الحالة الليبية مُرشحةً في عام 2022 لتطورات وأحداث قد تغير من معادلة “الجمود الساخن” التي سادت الدولة المأزومة، وهو ما يمكن استشرافه عبر البحث في حصاد العام الماضي.
أتمت الأزمة الليبية عقدها الأول بانتهاء عام 2021، ومازالت مستمرةً في التأرجح بين التسوية المُعطلة واحتمالات الارتداد إلى ميادين المواجهة والصراع المختلفة، فقد جاء حصاد العام المنصرم مليئًا بالعديد من الأحداث التي تجسد إعادة إنتاج لمشاهد الأزمة في أعوامها السابقة، رغم الهدوء الميداني -بدرجة أو أخرى- عن الفترات الماضية. ومن أبرز ملامح الأزمة الليبية في عام 2021:
أولًا: تعثر جهود التسوية السياسية: حققت ليبيا تقدمًا ملحوظًا في بداية العام حين تم انتخاب ومنح الثقة البرلمانية لسلطة انتقالية جديدة، وساد التفاؤل الحذر خلال الأسابيع التالية لتسلم المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة للسلطة، إلا أن هذا التقدم سرعان ما جرى الارتداد عنه بشكل جزئي؛ حيث دخلت حكومة الوحدة في صدام مع مجلس النواب، بسبب منهجية عملها وتجاوزها لدورها الانتقالي، بالإضافة لتهميش دور مسؤولي المنطقة الشرقية، وغيرها من الالتزامات التي دفعت مجلس النواب لسحب الثقة من حكومة الوحدة (سبتمبر2021).
واتجه المشهد الليبي نحو تعقيد إضافي؛ حين فشلت لجنة الحوار السياسي (لجنة الـ 75) في إقرار قاعدة دستورية تؤسس الانتخابات التي كان مقرر عقدها نهاية العام (24ديسمبر)، ليشرع أعضاء مجلس النواب حزمة من القوانين لتنظيم الانتخابات العامة (الرئاسية-البرلمانية)، والتي واجهتها انتقادات متنوعة كعدم استبعادها رموز النظام السابق أو أنها لم تحظى بالتوافق المنصوص عليه في الاتفاق السياسي للعام (2015)، ناهيك عن تمسك قوى أخرى بإقرار دستور للدولة قبل أية انتخابات. كما ضاعف من التعقيد استقالة مبعوثا الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة ويان كوبيش، واحتدام المواجهة الروسية-الغربية بأروقة مجلس الأمن، والتي تعوق تفعيل نشاط البعثة -بشكل أو أخر- وتهدد بإنهاء مهمتها.
بالإضافة لما سبق، فقد عجز مجلسا “النواب” و”الدولة” عن حسم ملف المناصب السيادية، ليستمر الانقسام في خلفية عمل مؤسسات الدولة. واستمر الاستقطاب المتصاعد بين القوى والمكونات الليبية حول تجاوز المرحلة الانتقالية الراهنة، لاسيما مع خوض شخصيات جدلية السباق الرئاسي، أبرزهم نجل العقيد القذافي “سيف الإسلام” الذي يرى البعض ترشحه فرصة لعودة النظام السابق، ورئيس حكومة الوحدة “عبد الحميد الدبيبة”، الذي عُد ارتدادًا عن تعهده في جنيف للمشاركة بالسلطة التنفيذية الموحدة.
ثانيًا: استمرار مُعضلات المسار الأمني-العسكري: عكس الوضع الميداني بالعام 2021 تراجعًا واضحًا لحالة “الحرب الشاملة” التي كانت قائمةً بين العامين (2019-2020)؛ حيث صمد اتفاق وقف إطلاق النار المستدام (أكتوبر2020) بوجه الإشكاليات والصعوبات المتجذرة بالمشهد، كما نجحت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في إقرار خطة عمل لإخراج “المرتزقة” والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية. إلا أن تلك الجهود لم تحقق بالعام (2021) التقدم المأمول، فمازال المرتزقة والقوات الأجنبية متواجدة بليبيا، ولم تنجز خطوات لتفعيل نصو الاتفاق المتعلقة بإعادة تأهيل ودمج العناصر المسلحة بالكيانات الأمنية-العسكرية، أو اتخاذ إجراءات ملموسة لتوحيد المؤسسة العسكرية المنشود.
كما ظلت المجموعات المسلحة فاعلًا معرقلًا لجهود التسوية؛ حيث أغلقت المليشيات الرافضة للانتخابات العامة عددًا من المراكز الانتخابية بالمنطقة الغربية، كما حاصرت مجموعات أخرى مقر حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي؛ للضغط من أجل تأجيل الانتخابات. بالإضافة لمحاصرة بعض الكتائب مقر محكمة مدينة سبها بالجنوب، للحيلولة دون طعن المرشح الرئاسي “سيف الإسلام القذافي” طعنه على قرار استبعاده من السباق الانتخابي.
ولم يخل العام (2021) من المناوشات بين المجموعات المسلحة في المنطقة الغربية والجنوبية، حيث شهدت مدن “طرابلس” والزاوية” ومدن الساحل الغربي مواجهات ممتدة بين المليشيات، تقاتلت فيها كتائب تابعة لوزارات ومؤسسات الحكومة الانتقالية. ناهيك عن المواجهات المسلحة التي وقعت مواجهات بالجنوب الليبي، وكان أخرها بين وحدات الجيش الوطني وكتائب حكومة الوحدة، لتصبح الفواعل المسلحة حجر عثرة بمسار استعادة الاستقرار.
ثالثًا: تعافي اقتصادي محدود: شهدت بدايات العام (2021) استمرارًا لذات الصعوبات والاشكاليات الاقتصادية المزمنة التي سادت بالسنوات السابقة، حيث كانت السيولة النقدية بالمصارف متراجعة، وواجهت حكومة الوحدة انتقادات متصاعدة بسبب عجزها عن حل أزمة الكهرباء بالبلاد، واضطرار المواطنين لتحمل انقطاعها لساعات طويلة خلال عمليات طرح الأحمال. ولكن يبدو أن الشهور الأخيرة من العام قد شهدت تحسنًا نسبيًا في تلك الملفات؛ حيث أشار تقرير البنك الدولي إلى أن “ثمة تفاؤل حذر بشأن جهود التعافي ورأب الصدع، لكن لا تزال هناك مخاطر كبيرة تهدد تلك المساعي”.
ويرتبط التحسن السابق بعدد من المؤشرات، بينها ارتفاع مستويات إنتاج وتصدير النفط الليبي بعد الاغلاق الذي شهده القطاع بالعام (2020)، بالإضافة لاستيعاب الاقتصاد العالمي لصدمات وموجات جائحة “كورونا”، وهو ما ساهم في استقرار أسعار النفط دوليًا عند مستويات قياسية أنعشت خزانة الدولة الليبية، بالإضافة للانفراجة السياسية التي تحققت بالبلاد بعد توحيد السلطة التنفيذية ثم سيرها نحو الانتخابات العامة، وهو ما حفز بعض الشركات والحكومات على التسابق للمشاركة بعمليات إعادة الإعمار.
رابعًا: هشاشة الأوضاع الإنسانية-الاجتماعية: أعقب توقف العمليات العسكري انفراجه محدودة بالأوضاع الإنسانية؛ ووفقًا لمنظمة الدولية للهجرة، لم يتم الإبلاغ عن أي حالات نزوح جماعي جديدة خلال العام (2021)، بينما استمرت عودة النازحين لمناطقهم الأصلية، وبعد أن بلغ عددهم (425) ألف نازح (يونيو2020) عاد أكثر من (50%) منهم إلى أماكن إقامتهم، إلا أن هناك حوالي (200) ألف نازح في ليبيا، ما يشير إلى أنه رغم تحسن الوضع الإنساني العام إلا أن البلاد لم تتجاوز مرحلة الانتقال والتعافي بعد.
ولكن الوضع أكثر تدهورًا فيما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين، حيث تضاعفت أعداد اللاجئين والمهاجرين لتتخطى الـ (31) ألف شخص خلال العام (2021)، أي ثلاثة أضعاف من تم إعادتهم بالعام (2020) والذي بلغوا الـ (18) ألف لاجئ ومهاجر. وتشير التقديرات الدولية إلى وجود نحو (610) ألف لاجئ ومهاجر في ليبيا، ويعاني أغلبهم من انتهاكات وأعمال عنف، سواء تضاعف أعداد المحتجزين في المرافق المكتظة بأكثر من (10) آلاف شخص، أو حالات الهروب الجماعي والملاحقات الأمنية التي وقعت بشهر أكتوبر، والتي تخللها إصابات ووفيات بين المهاجرين وطالبي اللجوء بالعاصمة “طرابلس”.
يبدو أن حالة المراوحة بين التسوية والارتداد عنها كانت السمة الرئيسية للأزمة الليبية بالعام (2021)، ومع استمرار تلك الحالة مسيطرةً على المشهد الليبي على مدار العقد الأول للأزمة، فإن استشراف العام الحادي عشر يأتي مُقربًا لما حدث بالسنوات الماضية، ويمكن الإشارة إليه كما يلي:
أولًا: استمرار تعقيدات المشهد السياسي: ستظل حالة الانسداد السياسي قائمةً كعقبة معرقلة لجهود التسوية خلال العام (2022)، وهو مسار مرهونًا باستمرار ذات التقاطعات والتباينات بين القوى والفواعل (الداخلية والخارجية) المؤثرة بالمشهد، حيث رفض قوى المنطقة الغربية -لاسيما التابعة لتيار الإسلام السياسي وجماعة الاخوان- لعقد الانتخابات بالهيكل التشريعي القائم، أو إجراء الانتخابات البرلمانية دون الرئاسية. واستمرارها في خلط الأوراق عبر الدعوة للتوافق حول القوانين الانتخابية تارة، والتمسك بإقرار دستور للبلاد تارة أخرى، فضلًا عن مساعيها لاستبعاد شخصيات بعينها عن السباق الانتخابي. وفي المقابل، تمسك قوى الشرق الليبي بعقد الانتخابات الرئاسية أولًا، أو أن تأتي كليهما بشكل متزامن، مع تمسكها بعدم تقييد شروط الترشح وتفصيلها بصورة إقصائية ضد الشخصيات التي يرفضها بعض قوى غرب ليبيا.
وحال وجود مساحة للتفاوض وإعادة تقييم المواقف، وربما التوصل لصفقة بين تلك القوى والفواعل، قد تتمكن ليبيا من تجاوز العقبات المعطلة لعقد الانتخابات -بصيغة أو أخرى- ولكن ذلك لا يعني الانفراجة التامة بالمسار السياسي؛ إذ ستستمر حالة عدم اليقين والثقة في تماسك التحالفات والتفاهمات المبرمة، والتي قد تتهاوى بعد الجولة الأولى من الانتخابات حال أفرزت تغيرًا في موازين القوى السياسية، ما سيدفع القوى الخارجية ومن يواليها من فواعل بالداخل للارتداد وتعطيل هذا المسار مرة أخرى، حتى إذا ما مثل ذلك خطورةً لإشعال مواجهات مسلحة جديدة أو إعادة إنتاج مرحلة انتقالية سادسة في طريق ليبيا نحو الاستقرار بعد عام (2011)
ثانيًا: اختراق محدود للإشكاليات الأمنية-العسكرية: تشير الحالة الأمنية-العسكرية الراهنة إلى أن العام (2022) قد يشهد محاولات لتثبيت ما تم ترسيمه من خطوط فصل بين الأطراف المتحاربة بالأعوام السابقة، وهو أمر مُحتمل أن يجري في عدة أنماط مثل البدء المتدرج -بدرجة متواضعة- في عمليات إخراج عناصر المرتزقة، ولكنه قد يكون أمرًا لا يتضمن القوات الأجنبية، وسيكون الهدف منه تحسين وتعزيز صيغة (5+5) كأساس لضمانة عدم الارتداد عن اتفاق وقف إطلاق النار.
كما يُرجح أن تستمر المجموعات المسلحة في محاولة إظهار قدرتها على تحريك المشد الميداني بما يعطل العملية السياسية؛ لضمانة حصد الدعم والاسناد من القوى الرافضة لمسار الانتخابات، بالإضافة لتعزيز موقعها بالترتيبات الأمنية المُحتملة، لاسيما وأن العام (2022) قد يشهد مساعي لحلحة ملف إعادة تأهيل القطاعات الأمنية والعسكرية، وهو ما تراه تلك المجموعات تهديدًا قد يضعها في مأزق حال استبعادها أو تعزيز سطوة قوة تنافسها إيديولوجيًا أو مناطقيًا وتهميشها في هكذا ترتيبات. ناهيك عن فرصة استغلال الاستقطاب المتصاعد حول العملية الانتخابية؛ لتعطيل أية مسار أمني أو سياسي ينهي سيطرتها وسطوتها على موارد ذاتية أو تمويل ودعم خارجي تتمتع به بفضل استمرار الأزمة وتجدد دورات الصراع على مدار الأعوام الماضية.
ثالثًا: تحسن الأداء الاقتصادي والأوضاع الإنسانية: قد يشهد العام المقبل تعافي اقتصادي وزيادة المؤشرات الإيجابية في ليبيا، حال استمرار حالة السكون الميداني والتوسع في تفعيل مشروعات إعادة الإعمار، وهو ما يرتبط باستمرار المشهد السياسي والعسكري في التحسن أو على أقل تقدير عدم الارتداد الى مربع الصراع الصفري بين القوى المتنافسة على السلطة والسيطرة الميدانية. ولكن هذا التحسن قد يكون أكثر بروزًا في الأوضاع الإنسانية، والتي ترتبط بعودة النازحين وتحقيق المصالحة الوطنية، بالإضافة لضبط أنشطة المجموعات المسلحة المناطة بإدارة مراكز الاحتجاز والتصدي للهجرة غير الشرعية، ولكنها جميعًا تتوقف على نمط التعاطي السياسي-الأمني بين الأطراف الليبية، ومستويات وأنماط التدخلات الخارجية وحدتها بالأزمة.
ومع مطلع العام الحادي عشر للأزمة الليبية، يمكن القول إن فرص التجاوز ومخاطر الارتداد مازالتا قائمتين، والعامل الأبرز في تحيد مسار الأزمة بالعام (2022) سيكون محكومًا بطبيعة التفاعلات والمواقف الجارية بين الفرقاء، وأنماط وحدود الأدوار التي ستمارسها القوى الإقليمية والدولية لتسكين الصراع وتلافي الانزلاق في عقد جديد من المواجهات، والحيلولة دون إعادة إنتاج دورات صراعية ستؤدي إلى تعقيد المشهد وإهدار فرص التسوية.