شراء سيارة مستعملة أو استئجار شقة أو فتح حساب مصرفي، جميعها كوابيس متكررة في أميركا اللاتينية، بسبب كثرة الأعمال الورقية، والخمول البيروقراطي والمخاطر القانونية.
تدفع الشركات الناشئة التي أنشئت لمعالجة مثل هذه المشكلات المنطقة إلى طليعة الازدهار التقني في الأسواق الناشئة. في العام الماضي تدفقت 4.1 مليار دولار من استثمارات رأس المال المغامر إلى أميركا اللاتينية، متجاوزة بذلك 3.3 مليار دولار في جنوب – شرق آسيا، ومتفوقة على إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الوسطى والشرقية مجتمعة، وفقا لجمعية رأس المال الخاص العالمية.
في النصف الأول من هذا العام، سحبت أميركا اللاتينية 6.5 مليار دولار من رأس المال الاستثماري، وهو مبلغ لا يقل كثيرا عن 8.3 مليار دولار سحبتها الهند.
قال هيرنان كازاه، وهو الشريك المؤسس لصندوق كاسزك فينتشرز، وهو أكبر صندوق في أميركا اللاتينية في المراحل المبكرة برأس مال يزيد على ملياري دولار تم جمعه حتى الآن، “لقد بدأنا هذه الصناعة في 1999 عندما كان هناك بالكاد أي إنترنت، كانت جميع الاتصالات تقريبا تجري عبر الهاتف وكان انتشار الإنترنت 3 في المائة. أما اليوم، فتمتلك أميركا اللاتينية أخيرا كتلة حرجة في كل سوق تقريبا.
يجسد بنك نوبانك الجيل الجديد من الشركات الناشئة في أميركا اللاتينية. شارك في تأسيسه في 2013 رجل الأعمال الكولومبي ديفيد فيليز بعد أن استغرقه الأمر ستة أشهر لفتح حساب مصرفي عندما انتقل إلى ساو باولو، وقد نما البنك بشكل كبير وأصبح لديه الآن عملاء أكثر من أي بنك رقمي مستقل آخر في العالم.
يمكن للطرح العام الأولي المرتقب أن يقدر قيمة التقنية المالية البرازيلية بأكثر من 50 مليار دولار، وفقا للتقارير الأخيرة. ويقارن ذلك بقيمة 79 مليار دولار لشركة السوق الرقمية ميركادو ليبر، وهو رد المنطقة على شركة أمازون وأهم شركة في أميركا اللاتينية، التي أسست في 1999 في الموجة الأولى من النشاط التقني.
جذبت آخر مجموعة من الشركات الناشئة في أميركا اللاتينية انتباه بعض أغنى المستثمرين في العالم.
فقد أعلن مارسيلو كلور، وهو الرئيس التنفيذي بوليفي المولد للعمليات في مصرف “سوفت بانك”، الشهر الماضي صندوقا تقنيا ثانيا مخصصا لأميركا اللاتينية، حيث خصص مبلغ ثلاثة مليارات دولار، إضافة إلى مبلغ خمسة مليارات دولار المخصصة للصندوق الأول في 2019.
أخبر كلور “الفاينانشال تايمز”، “كنا متفاجئين جدا من نوعية وكمية الشركات التي كانت تعاني نقص رأس مال، لذلك بدأنا بالاستثمار. هناك مجال كبير لتحسين حياة الناس في أميركا اللاتينية، لأن جميع الأنظمة غير فاعلة وتعاني البيروقراطية… فرص وافرة لقطاع التكنولوجيا لإحداث تغييرات ثورية”.
شركة “كافاك” المكسيكية المميزة، إحدى الجهات المؤثرة في هذا الصعيد. بقيمة 8.7 مليار دولار في جولة تمويل الشهر الماضي، تهدف الشركة إلى تحسين تجربة شراء سيارة مستعملة الخطرة غالبا. حيث تقدم فحصا ميكانيكيا، وضمانا لمدة ثلاثة أشهر، وائتمانا سريعا عبر الإنترنت وتوصيلا للمنازل.
تعمل شركة “كوينتو اندار” للخدمات ومقرها البرازيل على تبسيط التحدي المتمثل في استئجار شقة عن طريق الاستغناء عن السماسرة وتقديم تأمينها الخاص للمستأجرين الذين تم التدقيق في أحوالهم، ما يلغي الحاجة إلى الودائع الضخمة أو الكفلاء أو التأمين المكلف.
قامت شركة “نوتكو” التشيلية الناشئة بنشر الذكاء الاصطناعي المبتكر لتطوير مجموعات غير عادية من النباتات لتقليد طعم وقوام الحليب والمايونيز والآيسكريم واللحوم. بقيمة 1.5 مليار دولار في جولة تمويل في تموز (يوليو) الماضي، توسعت الشركة الآن في الولايات المتحدة وكندا.
تسلط شركات “كافاك” و”كوينتو اندار” وبنك نوبانك الضوء على مدى التزام الشركات الناشئة الأكثر نجاحا في أميركا اللاتينية بمعالجة مشكلات المنطقة.
قال إيفون كويلو، وهو الرئيس التنفيذي السابق لرابطة رأس المال الخاص في المنطقة لافكا، “لم تنجح قصة جلب وادي السيليكون ومحاولة جعله مداريا. كانت النماذج التي بدأت بالنجاح هي تلك التي قالت، “هناك مشكلات هيكلية في المنطقة يمكن حلها عن طريق مؤسسات جديدة. مصممة خصيصا لاحتياجات المنطقة”.
قال كازا من صندوق “كاسزك” إن مبتكري أميركا اللاتينية أصبحوا الآن مصدر إلهام للحسد. “إنك ترى شركات خارج المنطقة تقول، أريد أن أصبح بنك نوبانك في ألمانيا. هذا لم يكن يحدث”.
سيطرت الخدمات المالية على مشهد الشركات الناشئة في أميركا اللاتينية، حيث ذهب ما يقارب 40 في المائة من التمويل الخاص للعام الماضي إلى شركات التكنولوجيا المالية، وفقا لبيانات لافكا.
وقبل الجائحة، كان أكثر من نصف سكان المنطقة لا يستخدمون البنوك. ولكن في غضون بضعة أشهر فقط من أيار (مايو) إلى أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، فتح 40 مليون شخص حسابا مصرفيا، وفقا لبحث أجرته شركة ماستر كارد.
لعبت الشركات الناشئة في مجال التقنية المالية مثل “نوبانك” و”أولا” في الأرجنتين دورا رئيسا في تسهيل التوسع. ففي البرازيل، أطلق البنك المركزي نظام بيكس، وهو نظام سريع لتحويل الأموال عبر الهواتف المحمولة يضم 110 ملايين مستخدم مسجل.
قال كلور من “سوفت بانك”، “هناك بعض البنوك الأكثر ربحية في العالم موجودة في البرازيل والمكسيك لذا من الواضح أنها أول ضربة. هذه البنوك غير فاعلة للغاية، ولديها كثير من الفروع، وطوابير طويلة وما إلى ذلك… لذلك بدأنا بالتقنية المالية”.
كما هي الحال في المناطق الأخرى، أدت الجائحة إلى تسريع التغيير الرقمي. يوجد في أميركا اللاتينية بعض أعلى معدلات الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا للفرد في العالم وبعض أسوأ فترات الركود، لكن كوفيد -19 فرض أيضا مزيدا من النشاط الاقتصادي عبر الإنترنت.
قال بييرباولو باربيري، الذي أسس بنك أولا في 2017، “لأعوام كثيرة كانت أميركا اللاتينية، وهي منطقة كبيرة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي لأنها دول متوسطة الدخل، قليلة الاستثمار في المجال التقني. ما نشهده الآن هو محاولة مواكبة عامة حيث يسارع الجميع لمعرفة الفرص”.
في بعض المجالات، لا تزال المنطقة متأخرة. “يتم تنفيذ 70 في المائة من التجارة في الصين عبر الإنترنت، وتقريبا 50 في المائة في الولايات المتحدة… ولا تزال 20 في المائة في أميركا اللاتينية، لذلك لا يزال أمام عملية الرقمنة الاقتصادية طريق طويل”. كما أضاف باربيري.
قام جوليو فاسكونسيلوس، وهو المؤسس المشارك لشركة “أتلانتكو”، هي صندوق لرأس المال الاستثماري في أميركا اللاتينية، بمقارنة إجمالي القيمة السوقية للشركات التقنية في المنطقة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مع النسبة نفسها في آسيا.
وقال، “عندما تنظر إلى تطور السوق الأميركية، وتطور السوق الصينية والآن أميركا اللاتينية، فإن المنحنى يميل ليبدو متشابها للغاية بمرور الوقت. إنها عملية بطيئة وتدريجية حتى تصل أخيرا لنقطة انعطاف وتبدأ فعلا بالتسارع”.
وأضاف، “أميركا اللاتينية تخوض الآن نقطة الانعطاف بعد الولايات المتحدة بعشرة أعوام وبعد الصين بنحو سبعة أو ثمانية أعوام”.
وأوضح أن إجمالي القيمة السوقية للتقنية في أميركا اللاتينية يبلغ نسبة 3.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ30 في المائة في الصين ونسبة 14 في المائة في الهند. إذا وصلت أميركا اللاتينية لمستويات المساهمة التقنية الصينية في الاقتصاد “فنحن نتحدث عن ما يعادل أكثر من تريليون دولار من القيمة السوقية التي يتم إنشاؤها”.
أما كم من الوقت قد يستغرق ذلك فهو أمر غير واضح. كان فرانسيسكو ألفاريز ديمالدي، وهو المؤسس المشارك لشركة “ريفروود كابيتال” ومقرها الولايات المتحدة، يقوم بالاستثمار في التقنية في أميركا اللاتينية منذ 2008. وبينما يوافق على أن المنطقة تمر بـ”كثير من الإثارة” ونمو الإيرادات في القطاع التقني من المرجح أن يكون قويا، فإنه يشير إلى أن التمويل في مد وجزر.
وقال، “هناك زيادة كبيرة في توافر رأس المال في المنطقة، التي تصاعدت في الأعوام القليلة الماضية بوتيرة سريعة للغاية. من الصعب أن نقول أين نحن في الدائرة يجب أن نكون مستعدين للتقلبات في تلك الجبهة”.
وتواجه المنطقة تحديات أخرى. كمصدرة رئيسة للسلع، فهي عرضة للازدهار الاقتصادي والكساد وسياساتها متقلبة. حيث تؤدي دورة انتخابية جارية حاليا إلى إطلاق موجة من المرشحين المناهضين للمؤسسة والمطالبة بتدخل أكبر للدولة في الاقتصاد.
هناك مشكلات عملية أيضا. باستثناء البرازيل، هناك نقص في مهندسي البرمجيات والجامعات لا تنتج ما يكفي من الخريجين العارفين بالتكنولوجيا. وتعاني اتصالات النطاق العريض الثابتة النقص في عديد من المجالات.
يشعر كلور من “سوفت بانك”، في الوقت نفسه، بالراحة لزيادة مراهناته التقنية. “يمتلك صندوق أميركا اللاتينية اليوم أكثر من 100 في المائة من معدل العائد الداخلي بالعملة المحلية وربما يكون الصندوق الأفضل أداء لدينا اليوم من منظور معدل العائد الداخلي”.
نجاح ثلاث شركات ناشئة في أميركا اللاتينية
يدعي بنك “نوبانك” أنه أعظم قصة نجاح للشركات الناشئة في البرازيل. فمنذ إطلاقه بطاقة ائتمان دون رسوم سنوية في 2014، استقطبت شركة التمويل التقني أكثر من 40 مليون عميل في موطنها الأصلي، والمكسيك وكولومبيا.
أعطت جولة تمويل هذا العام الشركة الناشئة الناجحة تقييما بقيمة 30 مليار دولار، وتتطلع الآن للطرح العام الأولي في الولايات المتحدة. مع التركيز على التقنية وخدمة العملاء، قامت المجموعة ومقرها ساو باولو بتحدي صناعة مصرفية برازيلية تشتهر بارتفاع الرسوم والبيروقراطية.
من خلال تطبيق الهاتف الذكي الخاص به، يقدم نوبانك أيضا الحسابات الشخصية والتجارية والقروض والتأمين ومنتجات الاستثمار.
تم تأسيس منصة السيارات المستعملة عبر الإنترنت كافاك في المكسيك في 2016 من قبل رجال أعمال فنزويليون. جمعت الشركة أخيرا 700 مليون دولار من جولة التمويل التي قيمت الشركة بمبلغ 8.7 مليار دولار، إحدى أعلى النسب في أميركا اللاتينية. من ضمن المستثمرين كانت شركة جينيرال كاتاليست، ومصرف سوفت بانك وآخرون.
يمكن للعملاء إما شراء سياراتهم المستعملة وإما بيعها على الموقع، مع قيام الشركة بدور الوسيط وإجراء عمليات معاينة وتفقد للمركبات إضافة إلى تقديم التمويل والضمانات والتوصيل للمنازل. تعمل الشركة الآن في البرازيل والأرجنتين وتتطلع إلى مزيد من التوسع.
شركة “رابي” الناشئة هي نجاح رائع لكولومبيا. بدأ رواد الأعمال المحليون الشركة في 2015 لتوصيل البقالة، لكنها تفرعت منذ ذلك الحين إلى مجالات مثل الخدمات المالية. بعد أن توسعت في تسع دول وأكثر من 200 مدينة، فإنها تهدف لأن تصبح “التطبيق الخارق” لأميركا اللاتينية.
من بين ابتكارات “رابي” خدمة “تيربو فريش”، التي تهدف لتقديم المنتجات الأكثر طلبا للعملاء في غضون عشر دقائق، باستخدام لوجستيات “آخر كيلومتر” المتطورة. اسم الشركة هو كلمة تلاعب بكلمة “رابيدو”، وهي الكلمة الإسبانية لكلمة “سريع”.