قال رئيس الشركة الفرنسية “نافال” إنه تلقى دعوة صباح الأربعاء 15 سبتمبر (أيلول) 2021 من وزارة الدفاع الأسترالية لعقد اجتماع مرئي في اليوم ذاته، وخلاله تلقّى ما وصفه بالقرار “الصاعق” الذي اتخذته الحكومة الأسترالية بإلغاء صفقة ضخمة لبناء 12 غواصة بقيمة تقارب الـ50 مليار دولار كان قد تم التوقيع عليها في أبريل (نيسان) 2016.
في 16 يونيو (حزيران) 2021، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لرئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون أن بلاده “ستقف إلى جانب أستراليا” لمواجهة تصاعد التوتر مع الصين. حدث ذلك اللقاء بعد أربعة أيام من اجتماع عقده موريسون مع الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش قمة الدول السبع الكبرى في بريطانيا وناقشا خلاله إلغاء صفقة الغواصات مع الشركة الفرنسية. وفي 16 سبتمبر، صرح موريسون أن بلاده ستلغي الصفقة مع الشركة الفرنسية وستستبدلها بغواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية. رد الفعل الفرنسي لم يتأخر، إذ استدعت باريس سفراءها في واشنطن ولندن وكانبيرا.
ولكن المستغرب في الغضب الفرنسي هو أن الرئيس ماكرون وضع جانباً، لأسباب داخلية، أن الحلف الأميركي – البريطاني يتجاوز العلاقات التقليدية بين الحلفاء، كما أن الروابط التي تجمع البلدين بأستراليا وكندا ونيوزيلندا أقوى من أي تجمعات سياسية أو عسكرية.
لا يمكن فصل ما فعلته الحكومة الأسترالية عن التحالف الاستخباراتي الأوسع والمعروف بـ”العيون الخمس” (The Five Eyes) الذي يضم خمس دول هي بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويعود تاريخه إلى أربعينيات القرن العشرين ويجمع بينها أنها كلها ناطقة باللغة الإنجليزية، وأن أربعاً منها كانت مستعمرات قديمة للتاج البريطاني وما زالت عدا الولايات المتحدة أعضاء في الكومنولث.
منذ نهاية القرن العشرين وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الشيوعية في الدول التي كانت تخضع لسلطة روسيا، صارت الصين مصدر التهديد الأخطر الذي تضع الولايات المتحدة كل خططها لمواجهته في كل بقعة يمكن أن يؤثر فيها على التحالفات الأميركية. ولما كان المحيط الهادي امتداداً طبيعياً لقوة الولايات المتحدة الأميركية ونفوذها، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، فإنه من الطبيعي انتقال التنافس إلى البحار والدول المطلة عليه في مسعى لمحاصرة الصين وإيقاف تمددها البحري، بعيداً من بحر جنوب الصين.
بعث القرار الأسترالي بتغيير مصدر شراء الغواصات من دون إبلاغ الحكومة الفرنسية مسبقاً، برسائل مهمة عدة أهمها أن السياسات الخارجية التي يمارسها أي رئيس أميركي ليست مرتبطة بالحزب الذي يحوز على الغالبية بل هي قواعد ثابتة تتبدل طريقة عرضها على الجمهور. على سبيل المثال، فإن قرار انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان اتخذه الرئيس السابق دونالد ترمب ولم يكُن التزام الرئيس الحالي به من باب احترام الاتفاقات التي أبرمها سلفه فحسب بل لأنه قرار اتخذته المؤسسة العسكرية الأميركية في نطاق السياسة الخارجية للبلاد.
ويمكن لمزيد من التدليل على أن السياسة الخارجية ليست مرتبطة برغبة الرئيس إلا من زاوية كيفية عرضها وتسويقها ما نقله الصحافيان الأميركيان بوب وودورد وروبرت كوستا في كتابهما الأخير “المخاطرة” Peril، عن أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميللي تجاوز قائده الأعلى الرئيس ترمب وكل هرم الإدارة الأميركية واتصل بنظيره الصيني قبل الانتخابات الأميركية وبعدها لطمأنته بعدم وجود أي مخاطر محتملة عن مواجهة قد تقود إلى حرب نووية يمكن أن يبدأها أو يهدد بها الرئيس الأميركي. ويقول الكاتبان إن القائد الأميركي وعد نظيره الصيني بإبلاغه في حال حدوث هجوم أميركي وأن لا يكون مفاجئاً.
لقد جاء مفهوماً الانزعاج الفرنسي في سياق القرار الأسترالي، وهو ما عبّرت عنه باريس بسحب سفيرها في واشنطن للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين ثم بتصريحات من نوعية “الطعن في الظهر”، لكن الحديث المبالغ به عن أزمة طويلة وضعت حداً لتفاقمها مكالمة بين الرئيسين الفرنسي والأميركي. فالبلدان تجمعهما علاقات تاريخية قد تتعرض لصعوبات ولكن القطيعة لا يمكن أن تكون واردة حين تكون قواعد التعامل راسخة ومؤسسية وناضجة وبعيدة من التناول الشخصي لمجرياتها.
هذا لا يعني أن الأزمة لن تترك ندوباً، لكن تجاوزها سيكون يسيراً في ظل المصالح المشتركة الضخمة سواء كانت في حلف “ناتو” أو في مواجهة روسيا والصين. كما أن هناك من المخاطر التي تهدد أمن القارة الأوروبية ولا يمكن حالياً وفي المستقبل المنظور الاستغناء عن الدور الأميركي في التصدي لها. ويجب التنبه إلى أن التوتر الذي وقع بين باريس وواشنطن وتم احتواء آثاره السلبية بسرعة، جرى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما جعل لندن أكثر حرية في اختيار توجهاتها في السياسة الخارجية من دون الاكتراث بالقيود التي كان الاتحاد الأوروبي يضعها عليها.
إننا نقف اليوم على عتبة تحولات في التحالفات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والعالمي، تتشكل معالمها بعيداً من أي تأثير عربي في مساراتها. ومردّ ذلك العجز المزمن في القدرة على إنتاج سياسات اجتماعية وسياسية واقتصادية بعيدة من البعد الشخصي الذي صار متحكماً في مجالات التعاملات البينية بين دول المنطقة وحتى داخلها. وإذا لم تتغير النظرة الضيقة التي تتصور أن كل قطر عربي يستطيع أن يشكل جزيرة منفصلة ومعزولة عن جيرانه، فالنتيجة لن تسمح بتحقيق الطموحات الوطنية المستهدفة.
على الرغم من الحنق الفرنسي وما وصفته بالخيانة، فإن واقع الأمر أن ذلك يعود إلى الشق المالي من الصفقة، الذي خسرت فيه عقداً ضخماً، لكنها لا بد من أنها ستنظر إلى الأمر من زاوية استراتيجية تجبرها على الاقتناع بأنها لا تستطيع الوجود من دون عوائق في تلك المنطقة المهمة إذا ما تصاعدت حدة الأزمة بينها وبين واشنطن. وباريس تعلم أنها لا تقترب بقدراتها العسكرية والاقتصادية من حجم الولايات المتحدة. من هنا، كان رد الفعل الأميركي على رد الفعل هادئاً وراغباً باحتوائه كي لا يتصاعد.
ستتجاوز فرنسا القضية مضطرة، إذ لا يمكنها الاستمرار في القطيعة ولو مؤقتاً مع الشريك الأكبر في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وسيتمكن الطرفان من التعامل مع مترتباتها بعيداً من الإثارة الإعلامية. وهو درس يمكن الاستفادة منه إقليمياً، لكنه يحتاج إلى نضج سياسي وتوازن نفسي مفقودين.