سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
الشيماء عرفات – مها علام
مثلت رحلة الرئيس الأميركي “جو بايدن” إلى أوروبا أول اختبار حقيقي لاستعادة الدور الأميركي العالمي، وقد التقى مع رئيس وزراء بريطانيا “بوريس جونسون”، في كورنوال، لضخ دماء جديدة في “العلاقة الخاصة” بين البلدين سيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واستنادًا إلى ذلك، فقد وقعا “ميثاق أطلسي جديد”، على غرار الميثاق الأطلسي لعام 1941، والذي يحدد ثمانية مجالات رئيسة تخطط البلدين للتعاون بشأنها؛ وشملت الوثيقة الالتزامات تتعلق بالدفاع عن الديمقراطية، وإعادة التأكيد على أهمية الأمن الجماعي، وضمان نظام تجاري عالمي عادل ومنفتح. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن ماهية “العلاقة الخاصة”، وكذا النظر مسار هذه العلاقات ومستقبلها.
تُوصف العلاقات الممتدة بين واشنطن ولندن في مختلف المحافل بــ”العلاقة الخاصة”، كان أخرها في تصريح الرئيس “بايدن” قبل وصوله للمملكة المتحدة لبدء حضور قمة السبع الكبار. وقد ظهر هذا مصطلح علنًا في خطاب “الستار الحديدي” الذي ألقاه “ونستون تشرشل” عام 1946. وبالرغم من عدم قبول “جونسون” لهذا الوصف – أي العلاقة الخاصة – لما يعكسه من موقف احتياج وضعف للمملكة المتحدة، فقد استخدم بدلًا منه في مقابلته مع “بايدن” وصف العلاقات “غير القابلة للتدمير”.
وعلى الرغم من تمتع العلاقات بدرجة عالية من المتانة، إلا أنها تعرضت لعدد من التذبذبات؛ إذ واجهت حالة من الصعود والهبوط؛ تحكمت فيه عدة عوامل، أبرزها: السياق والمؤامة وشخصيات القادة في كلا البلدين، وذلك وفقًا لما أكدت عليه دراسة منشورة لجامعة هارفارد. أوضحت الدراسة أن المملكة المتحدة كانت أكثر استخدامًا لهذا المصطلح تاريخيًا، بعكس الولايات المتحدة التي تثمن هذا الوصف فقط حال وظفتها لخدمة مصالحها.
وهو ما يمكن التدليل عليه عبر عرض أبرز محطات التقارب والاختلاف بين البلدين منذ تدشين هذا المصطلح –”العلاقة الخاصة “- أي منذ وقت الحرب العالمية الثانية. نجد أنه برغم من دفع “تشرشل” “روزفلت” لدخول الحرب، إلا أن هذا لم يؤثر على “روزفلت”، إذ تمثل عامل الدفع الأساسي لدخول الولايات المتحدة الحرب في قيام اليابان بمهاجمة “بيرل هاربور”، واستغل حينها “تشرشل” نفوذه لاستفادة المملكة المتحدة من انتصار الحلفاء بفضل الولايات المتحدة لتأسيس نظام عالمي جديد، مؤسس على ميثاق الأطلسي.
تلا تلك المرحلة الذهبية، أكبر مواقف الشقاق بين الحليفين، وهو موقف الرئيس الأميركي “دوايت أيزنهاور” من حرب السويس، وضغطه على بريطانيا للانسحاب عام 1956؛ وقد مثل هذا الموقف العلامة الحقيقية لاحتضار الإمبراطورية البريطانية، وبدأ تفكيك مستعمراتها. وقد استمر هذا الموقف البارد بين الطرفين، والذي رفضت فيه المملكة المتحدة مساعدة الولايات المتحدة مرتان، مرة في رفضها السماح بمساعدة الطيران الأميركي على مساعدة الإسرائيليين بحرب 73، ورفضها إرسال قوات بريطانية لفيتنام.
ووصلت العلاقات لأعلى مراحل بريقها بالثمانينات أثناء حكم الرئيس الأميركي “رونالد ريجان” ورئيسة الوزراء “مارجريت ثاتشر”، التي على إثرها تم إطلاق مبادئ السوق النيوليبرالية حول العالم؛ والتي استطاعت خلالها “ثاتشر” أن تؤثر على “ريجان” وتقنعه بأن الزعيم الروسي الجديد “ميخيائل جورباتشوف” رجل يمكن التعامل معه، وبإمكانية إدارة الحرب الباردة سلميًا.
إلا أن العلاقات شهدت تراجع جديد أثناء حكم الرئيس الأميركي “بيل كلينتون” نظرًا لاختلاف رئيس الوزراء البريطاني حينها “جون ميجور” معه. إلا أن وصول “توني بلير” أرجع للعلاقات زخمها، وتوافق مع “كلينتون” حول التدخل في البلقان؛ كما وافق “بلير” بعدها على دخول بلاده حرب العراق. إلا أنه في أعقاب ذلك اتجهت العلاقات نحو التدهور بعدما تكشف قيام “بوش” بإخفاء بعض الأمور عن “بلير”، ما أصاب تلك العلاقة بضرر بالغ، وندبات مازالت أثرها موجودة للآن.
لم يقم الرئيس الأميركي ” باراك أوباما” بالكثير لمعالجة تلك التداعيات، إذ بدا أن “أوباما” ساخط على الماضي الاستعماري للمملكة المتحدة كونه من أصول أفريقية؛ وكذلك دارت رؤيته حول كون ألمانيا شريك أكثر أهمية وتأثير بأوروبا. لذا، انعكس هذا الفتور في تقارب لندن مع بكين، ورفضها مساعدة واشنطن في الضربات الجوية الموجهة ضد نظام الأسد في سوريا. وجاء الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب” ليكون الرئيس الأميركي الأكثر تعبيرًا عن ازدرائه لتلك العلاقات أثناء تولى “تيريزا ماى” لرئاسة الوزراء، وانتقادها علنًا على أداء بلادها بملف البريكيست، عبر إطلاقه لإتهامات بالتجسس عليه من قبل المملكة.
وبسبب تصريحاته الشعبوية، اتجهت بعض التحليلات إلى تشبيه “جونسون” بالرئيس “ترامب” الذي كان دومًا يُشيد به – أي جونسون – وبالبريكسيت، واعتبار هذا التشابه دافعًا لتعزيز العلاقات المشتركة على أرضية أكثر قوة. وهو ما اتجه للتأكيد خلال السباق الرئاسي الأميركي، إذ سخر “بايدن” من “جونسون” في إحدى حملاته لجمع التبرعات، واصفًا إياه بأنه يمثل “نسخة جسدية وعاطفية” من “ترامب”. لكن الواقع حمل مؤشرات مغايرة، إذ يبدو “جونسون” أكثر توافقًا مع إدارة “بايدن” بشأن القضايا الدولية الرئيسية مثل أزمة المناخ أو التحديات التي تمثلها الصين وروسيا. الأمر الذي اعتبرته بعض التحليلات تكرارًا لنموذج الصداقة الذي جمع “روزفلت” و”تشرشل”، والذي وُصف بأنها صداقة “أنقذت العالم”.
بعد ثمانين عامًا، وقع الرئيس “بايدن” ورئيس الوزراء “جونسون” ميثاقًا أطلسيًا جديدًا، كاستجابة للتهديدات العالمية الجديدة؛ التي تعكس مشهدًا مشابهًا – بقدر ما – لحقبة الثلاثينيات، حيث صعود التيارات الشعبوية والقومية والديماجوجية، وانقسام القوى الأوروبية، وتصاعد تيار استبدادي مناهض للديمقراطية.
ومن الجدير بالذكر أنه تم توقيع ميثاق الأطلسي من قبل الرئيس الأميركي “روزفلت” ورئيس الوزراء البريطاني “تشرشل” في عام 1941، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتدمير الاستبداد النازي، وتعزيز حرية “عبور أعالي البحار والمحيطات دون عوائق”. وتعليقًا على ذلك، قال “جونسون” إنه “بينما واجه “تشرشل” و”روزفلت” مسألة كيفية مساعدة العالم على التعافي بعد حرب مدمرة، علينا اليوم أن نفكر في تحدٍ مختلف تمامًا ولكن ليس أقل ترويعًا – كيفية إعادة البناء بشكل أفضل، من جائحة فيروس كورونا”. لذا، ركزت النسخة الجديدة على “أزمة المناخ” والحاجة إلى “حماية التنوع البيولوجي” وكذا “التقنيات الناشئة” و”الفضاء السيبراني” و”التنمية العالمية المستدامة”، بجانب التعافي من “الجائحة”.
على الرغم من عدم ذكر الصين في الميثاق، إلا أنه الهدف الأهم غير المعلن يكمن في تعزيز الجبهة الغربية، انطلاقًا من الاعتقاد بأن العالم بات منقسم بشكل متزايد لنظامين متنافسين للحكم – ديمقراطي وسلطوي – ما يستدعي قيام واشنطن وحلفائها وشركائها بالاتحاد حول أجندة مشتركة للتنافس بقوة أكبر. وكاستنكار للسلوك الصيني والروسي، يدعو الاتفاق الجديد الحلفاء الغربيين إلى مجابهة التهديدات السيبرانية والتدخل في الانتخابات وعمليات التضليل.
ويبدو الجانب الأكثر أهمية في هذا الصدد هو إدراك اللحظة الفارقة التي يمر بها العالم سيما نتيجة التأثيرات الكبرى التي أحدثتها الجائحة بطريقة تزيد من فرص تجاوز القواعد التي وضعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والدخول في حقبة جديدة. لذا، يبدو أن العالم بات بحاجة إلى مبادئ جديدة لمعالجة القضايا الأعمق التي أدت إلى تراجع التعاون الدولي، والتحول في ميزان القوى بعيدًا عن الديمقراطيات.
ونظرًا لأن وباء كورونا (كوفيد – 19) لا يزال يمثل تهديدًا عالميًا على الرغم من انحسار وتيرته، ذكر “بايدن” عقب لقائه بـــ”جونسون” أن إدارته تنوي منح 500 مليون جرعة من لقاح فايزر/بايونتيك للدول التي تحتاجها؛ إذ ستوزع على “92 ” دولة نامية عبر آلية “كوفاكس” لتوزيع اللقاحات بإنصاف، على أن يبدأ ذلك في أغسطس، مع تسليم 200 مليون جرعة بحلول نهاية العام؛ أما الجرعات الـ300 المتبقية، فستسلم بحلول يونيو 2022.
ما يعني أن واشنطن تسعى لأن تصبح رائدة عالميًا في جهود مكافحة الجائحة. إلا أن هذا التحرك لا يعكس ملمحًا انسانيًا فقط، لكنه يحمل أيضًا رسالة سياسية في صميم الميثاق الجديد مفادها أن الديمقراطيات – وليس الصين أو روسيا – هى القادرة على التعاطي مع أزمات العالم. ويدلل على ذلك، تصريح بعض المسؤولين الأميركيين الذين أكدوا على واشنطن تستعيد دورها الذي سعت للعبه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن جهته، سعى “جونسون” إلى الاستعراض أيضًا، إذ يبدو أن هذه القمة وفرت له الفرصة المناسبة لعرض صورة بريطانيا الجديدة خارج الاتحاد الأوروبي ذات الطابع العالمي. وارتباطًا بذلك، فقد حدد هو الآخر خططًا طموحة للمساعدة في مجابهة الوباء، داعيًا قادة العالم إلى توفير اللقاح لكل شخص في العالم بحلول نهاية عام 2022.
وفي خضم هذه الأجواء، من المتوقع أن يساهم المثياق في توقيع عدد من الاتفاقيات بشأن استئناف السفر بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتعزيز التجارة، وإقامة شراكة تكنولوجية بينهما. وعليه، سوف تتجه واشنطن ولندن لإنشاء فريق عمل جديد للسفر معني بتقديم توصيات حول إعادة فتح السفر الدولي بأمان. وكذلك سيبحثان طرق لتعزيز العلاقة الاقتصادية بينهما، بما في ذلك العمل على حل نزاع “الطائرات المدنية”، الأمر الذي قد يساهم في إنهاء النزاع طويل الأمد بين الولايات المتحدة وأوروبا حول صناعة الطائرات “بوينج” و”إيرباص”.
كما يبدو أن علاقتهما على مشارف حقبة جديدة من التعاون التكنولوجي تشهد دراجات متقدمة من تبادل الخبرات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكمية، من خلال تقليل الحواجز التي تواجهها شركات التكنولوجيا البريطانية عند محاولتها العمل مع نظيراتها الأميركية؛ ومن المتوقع، أيضًا أن يتجها إلى توقيع “اتفاقية تكنولوجية ثنائية” تاريخية في عام 2022.
على الرغم من أن توقيع الميثاق الجديد يدلل على ميلاد حقبة جديدة أكثر تقاربًا وتحالف أكثر ترابطًا بين واشنطن ولندن؛ إلا أن الطريق السلس للعلاقات قد يشهد محطتين رئيستين للخلاف، وهما (مسألة أيرلندا الشمالية) و(الاتفاق التجاري)؛ ويمكن توضيح الإشكالية المتعلقة بهما على النحو التالي:
أولًا: مسألة أيرلندا الشمالية:
لم تكن مسألة أيرلندا الشمالية قضية خلاف داخلي أو خلاف مع الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما امتدت لتصبح عامل مؤثر على مسار العلاقات البريطانية الأميركية. فقد دقت رئيسة مجلس النواب الأميركي “نانسي بيلوسي” ناقوس الخطر لأول مرة في أبريل 2019عندما قامت بجولة في لندن ودبلن وبلفاست لتحذير الكونجرس من دعم أي اتفاقية تجارية تضر بعملية السلام؛ وهو التعهد الذي كرره كل من النائب “ريتشارد إي نيل”، رئيس لجنة الطرق والمواصلات في مجلس النواب، والنائب “بيتر كينج”، الرئيسان المشاركان لمجموعة أصدقاء أيرلندا. كما أثارت مجموعة من 40 من القادة الأيرلنديين الأميركيين مخاوف ذات صلة في رسالة موجهة الحكومة البريطانية في أعقاب فوز “جونسون”.
كما حذر “بايدن” – الأيرلندي الأصل – خلال حملته الانتخابية من أنه “لا يمكن السماح لاتفاقية الجمعة العظيمة التي جلبت السلام إلى أيرلندا الشمالية بأن تصبح ضحية البريكسيت”. ومن النقاط الإشكالية أيضًا في هذا الصدد، أن “بايدن” لم يكن مؤيدًا لخروج بريطانيا من الاتحاد ووصفه بـــ”الخطأ”، ما يعني أن هذه المسألة في أساسها تمثل مجالًا للخلاف كون “جونسون” ليس فقط من مؤيدي البريكسيت، وإنما من مهندسيه أيضًا.
وقبيل اللقاء الأخير الذي جرى مع “بايدن”، ذكرت رئاسة الحكومة البريطانية قبل اللقاء أن مسألة إيرلندا الشمالية لا تزال تثير توترًا بين الجانبين. كما تحدث “جونسون” بنبرة حادة مع قادة الاتحاد الأوروبي بشأن هذا الملف، مهددًا باستخدام المادة 16 من بروتوكول أيرلندا الشمالية، وهي خطوة من شأنها مخالفة بريطانيا من جانب واحد اتفاق البريكسيت.
ثانيًا: الإتفاق التجاري:
بالنسبة للندن، تعد واشنطن أكبر شريك تجاري ثنائي منفرد بقيمة وصلت إلى 318 مليار دولار، وبنسبة تمثل 20 % من حجم صادراتها، وفقًا للمراجعة المتكاملة التي نشرتها المملكة المتحدة بمارس الماضي. وتعتبر كذلك أكبر مصدر منفرد للاستثمار الأجنبي المباشر بالمملكة عام 2019. أما بالنسبة لواشنطن، فوفقًا لمكتب الممثل التجاري الأميركي، تُعد لندن حاليًا سابع أكبر شريك في تجارة السلع، وخامس أكبر سوق لتصدير البضائع، وثامن أكبر مورد لواردات السلع في عام 2019. وعلى الرغم من ذلك، لا يوجد اتفاق تجارة حرة بينهما حتى الآن، لكنهما شرعا في جولات التفاوض منذ مايو 2020، التي بدا أنها تواجه بعض النقاط الخلافية التي قد تصعب من مهمة التوصل إليه، أبرزها:
بند تحرير التبادلات الزراعية: إذ يعد تحسين الوصول إلى الأسواق البريطانية بالنسبة للصادرات الزراعية الأميركية مصلحة مهمة من وجهة نظر الحزبين؛ وحتى بالنسبة لــ”بايدن”، فإن ولاية ديلاوير، موطنه هي واحدة من أكبر منتجي الدجاج في الولايات المتحدة، لذا من الصعب التخلي عن التفاوض على تحرير هذا البند. وبالمثل، هناك مقاومة سياسية كبيرة لتحرير الزراعة في المملكة، كون السوق البريطاني غير متقبل للحوم الأبقار المعالجة بالهرمونات والدجاج المغسول بالكلور.
سوق الأدوية البريطاني: يحمل الإتفاق تأثير متوقع على هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية NHS؛ فبالرغم من أن توقيعه لن يؤدي مباشرة إلى خصخصة الهيئة، أو بيعها لواشنطن كما زعم المعارضون، ولكن مطالبة واشنطن بوضح إصلاحات على تسعير الأدوية، سيجعل النظام أكثر كلفة على المواطنين البريطانيين.
وفي سياق موازٍ، يبدو أن أي اتفاق للتجارة الحرة مع واشنطن سيواجه مستقبًلا صعوبات عن ذي قبل، بسبب انتهاء صلاحية المفاوضات التجارية ذات المسار السريع التي فوضها الكونجرس للرئيس في يوليو القادم؛ ما يعني أن الكونجرس سيتدخل في كل بند من بنود الاتفاق، بعدما كان التفويض يجعله يقوم فقط إما بالموافقة أو بالرفض على الاتفاق التجاري ككل. وأخيرًا، فإن نشر الحكومة البريطانية تقييم مفاده أنه من المتوقع أن يعزز الاتفاق الناتج المحلي الإجمالي طويل الأجل بنسبة 0.16٪ فقط، وهذا بشرط أن يكون هناك تحرير كامل للرسوم الجمركية، وخفض بنسبة 50٪ في الإجراءات غير الجمركية. الأمر الذي يعني تواضع جدوى وتضاؤل مزايا الوصول إلى إتفاق.
وفي المقابل، يمكن القول بشكل عام، إنه من غير المتوقع أن تضع مثل هذه القضايا الخلافية قيود ضخمة على مسار العلاقات بين البلدين، إذ لا تزال العلاقات بينهما تمثل تحالفًا استثنائيًا، إن جاز التعبير؛ ويمكن التدليل على ذلك من خلال أمرين، يتعلق الأول باستمرار كثافة العلاقات الدفاعية والأمنية، ويستند الثاني إلى رؤية البلدين السياسية تجاه آسيا؛ ويمكن بلورة ذلك على النحو التالي:
أولًا: العلاقات الدفاعية والأمنية:
تُعد الدعامة الأكثر محورية في رسوخ ومتانة وتفرد العلاقة بين البلدين، على الرغم من تفاوت القدرات بينهما. إذ تعتبر لندن الشريك العسكري الأقرب لواشنطن؛ وهو ما يرجع لوجود مزايا لكل طرف تساعده على إكمال ما يحتاجه الأخر. فبالنسبة لواشنطن، تمثل القدرات البريطانية رقمًا مهمًا في قدرات جمع المعلومات الاستخبارية، بما في ذلك مواقع الاستماع الإلكترونية بالمواقع الاستراتيجية في أقاليم ما وراء البحار البريطانية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وجنوب المحيط الأطلسي. أما بالنسبة للندن، تعتبر علاقتها بواشنطن مفيدة على كافة المستويات، ولكنها تبرز بقوة في مجال المساعدة الفنية الأميركية لبرنامج الأسلحة النووية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة بداية إلى عدم وجود معاهدة دفاع ثنائية بينهما، وبدلاً من ذلك، فإن الأساس القانوني لعلاقاتهم هو ميثاق الناتو، بجانب عدد من الاتفاقيات الأخرى، أبرزها:
اتفاقية استخبارات الاتصالات البريطانية الأميركية (1946): تعد الاتفاقية الأصلية المؤسسة لتحالف “العيون الخمس” التي تحكم تبادل المعلومات الاستخبارية بينهما بالإضافة إلى كندا (1948) وإستراليا ونيوزيلندا (1956)؛ وتعتبر شبكة التخابر الإلكتروني الأوسع حول العالم.
اتفاقية الدفاع المتبادل (1958) الوحيدة من نوعها بين أي دولتين: والتي تسمح لواشنطن ولندن بتبادل المعلومات المهمة والعتاد المطلوب لتصنيع الأسلحة النووية وأنظمة إيصالها، ويتم تجديدها كل 10 سنوات، كان أخرها عام 2014. وكذلك وقعتا على اتفاقية مبيعات Polaris ((1963 التي تعد كعمود أخر في التعاون النووي بينهما، وقد تم تحديثها عام 1982 لتشمل الجيل القادم من نظام الصواريخ(Trident) ، ولا تزال سارية المفعول.
معاهدة التعاون التجاري الدفاعي (2007): التي ألغت الحاجة إلى تفويض محدد لمبيعات العديد من المعدات الدفاعية بين البلدين، وتسمح بنقل بعض التقنيات الحساسة لتسهيل التطوير المشترك لأسلحة جديدة. وتعتبر لندن الشريك الوحيد من “المستوى 1” لواشنطن في برنامج Joint Strike Fighter، وهو أحد أكبر برامج المعدات الدفاعية.
إتفاقية (BDAA) بشأن الوصول إلى البيانات الثنائية (2019): تعد أول اتفاقية ثنائية على الإطلاق للسماح بوصول أكبر وأسرع إلى بيانات بعضهما البعض فيما يتعلق بجرائم مثل الإرهاب.
ثانيًا: الإتجاه نحو منطقة المحيط الهادي – الهندي (الإندو-باسيفيك):
مع تحول التركيز الجيوسياسي العالمي نحو آسيا، حاز نظام (المحيط الهندي – الهادي) بأهمية أكبر من أي وقت مضى. إذ بدأ تركيز واشنطن على بكين كمنافس محتمل بعد نهاية الحرب الباردة. لذا، فإن الاهتمام الاستراتيجي الأميركي بشرق آسيا سابق على التوجه السياسي لإدارة “أوباما”؛ إلا أن واشنطن لم تتبنى إلى الآن نهج سياسي واضح واستراتيجية عملية تجاه المنطقة. الأمر الذي دفع بكين لأن تواصل توسيع سيطرتها على المناطق الاستراتيجية، والشروع في إعادة رسم وتخطيط الخرائط الجيوسياسية بهذه المنطقة. الأمر الذي يعني أن واشنطن باتت في حاجة لبناء جبهة من الحلفاء لمواجهة بكين؛ وتأتي بريطانيا كأهم حليف لديه القدرة على مساعدة الولايات المتحدة في هذا الصدد.
فكما سبق الإشارة، فإن أهمية لندن بالنسبة لواشنطن تكمن في حجم ما يمكن أن تقدمه كشريك وحليف فاعل. لذا، فإن انخراط لندن المتعاظم والمُلاحظ لتوسيع نفوذها بمنطقة الإندو- باسيفيك، يوضح اتجاهها لتعظيم دورها وأهميتها في إطار التحالف الثنائي مع واشنطن. ويمكن ملاحظة هذا التوجه في عدد من التحركات، أبرزها: إفراد المملكة قسم كامل بمراجعتها المتكاملة لتوجهها نحو الإندو- باسيفيك؛ مع وضع خطط لزيادة الوجود العسكري في عدد من القواعد والموانئ في استراليا واليابان وسنغافورة. وكان آخر ملامح التعاون بينهما بشأن هذه المنطقة، قيام لندن في مايو الماضي بإرسال أحدث وأكبر حاملة طائرات بريطانية “إتش إم إس كوين إليزابيث” والأسطول المرافق لها في أول رحلة إلى المحيط الهندي بالتنسيق مع واشنطن.
وارتباطًا بذلك، يبدو أن لندن – التي بدأت عملية الإنضمام الفعلي – تأمل أن يدفع هذا التعاون واشنطن للانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)؛ والتي تمثل ثالث أكبر كتلة للتجارة الحرة في العالم، إذ سيضاعف انضمام واشنطن من قوة هذا التجمع في مواجهة الصين، ويدفع به إلى أن يتجاوز أكثر من 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
استنادًا إلى العرض السابق، يتضح أن العلاقة بين واشنطن ولندن تحمل ملامح فريدة تعزز مسألة استمرار “العلاقة الخاصة” بينهما. وعلى الرغم من الحديث على وجود ملفات خلافية قد تمثل عراقيل في الطريق السلس للعلاقات ، إلا أن هذا الأمر يمكن النظر إليه وفق عدة محددات، أبرزها: إن التحالف الوثيق لا يعني بالضرورة تطابق وجهات النظر في كافة القضايا والملفات، وهو ما دلل عليه مسار العلاقات التاريخية بينهما التي شهدت مراحل أكثر تقارب ومراحل أقل تقارب. علاوة على ذلك، لم تصل الملفات الخلافية الجارية إلى منطقة صدام حقيقي، إذ أن الأمر لا يزال في طور الاحتواء؛ فمسألة أيرلندا الشمالية يمكن أن تشهد ما يشبه حالة من توفيق الأوضاع في إطار رغبة لندن في إحتواء التداعيات السلبية للبريكسيت؛ أما فيما يتعلق بالخلاف حول الإتفاق التجاري، فيبدو أن الطرفين لديهم رغبة في معالجته حتى ولو بشكل ظاهري، إذ يبدو “بايدن” ساعيًا في بلورة صورته بشأن تعزيز تقاربه مع الحلفاء عبر الأطلسي لا سيما بريطانيا، في حين يبدو “جونسون” متطلعًا إلى استعراض الشخصية الجديدة لبريطانيا ما بعد البريكسيت.
أما عن استمرار الحالة المتميزة من التعاون الدفاعي والعسكري، يتضح أن الطرفين مازالت لديهما رغبة قوية في استمرار وتعزيزه والدفع به قدمًا. إذ تدرك واشنطن أنه بالرغم من حلفائها الكثيرين، لكن تظل بريطانيا كحليف يصعب الاستغناء عنه. على سبيل المثال، تدخل استراليا مع واشنطن بالعديد من المعاهدات مثل لندن، إلا أنها تملك جيشًا صغير وقدرات أقل؛ وبالنسبة لكندا فلديها نفس مشكلة الجيش الصغير، بالإضافة إلى تضاؤل التعاون الصناعي الدفاعي بين البلدين؛ أما فرنسا بالرغم من امتلاكها قدرات مشابهة للمملكة المتحدة سواء بامتلاكها أقاليم وراء البحار وقدرات نووية، إلا أن قدراتها الاستخبارية أقل بكثير من قدرات لندن، إضافة لإيمانها “بالحكم الذاتي الاستراتيجي” الذي يؤمن بدور أقل لواشنطن بالقارة الأوروبية؛ أما بالنسبة لكوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، بالرغم من كبر حجم جيوشهم، إلا أن العوائق الداخلية لبلادهم تقف عائقًا أمام تطوير قدراتهم الدفاعية بشكل كبير؛ وأخيرًا فإن كلا من تركيا وإسرائيل فإنهما حليفين ذو طابع إقليمي أكبر، وأكثر اهتمامًا بمحيطهم.
الأمر الذي يعني أن بريطانيا قد تستمر – على الأقل على مدار السنوات القادمة – كحليف رئيس للولايات المتحدة، وبالأخص مع اتجاه الأخيرة إلى مواجهة الصين وروسيا من خلال أبعاد متعددة ليس عسكرية فقط، وإنما سياسية واقتصادية وسيبرانية وغيرها. ولكن قد يشهد مستقبل العلاقات تصاعد إشكالية جديدة تتعلق بـــ”استقلال اسكتلندا” حال وقوعه. فقد صوتت اسكتلندا على الاستمرار في المملكة خلال استفتاء 2014، إلا أنه في أعقاب البريكسيت خيمت فكرة (التصويت على الاستقلال) من جديد. إذ قالت الوزيرة الأولى “نيكولا ستيرجن” إنها ستنظم حملة في انتخابات البرلمان الاسكتلندي مايو 2021 للحصول على تفويض بإجراء تصويت على الاستقلال.
لذا، قد تمثل اسكتلندا قضية محتملة للتأثير على مسار العلاقات المستقبلي بين واشنطن ولندن، كونها تتصل بثلاثة أمور؛ يتصل أولها بالكارثة الجيوسياسية التي ستضرب لندن وواشنطن، جراء تحييد القوة العسكرية والدبلوماسية للندن على الساحة العالمية، كونها ستفقد القاعدة البحرية الملكية “فاسلين” التي تضم الغواصات النووية “ترايدنت”. كما سينغمس النظام السياسي البريطاني في أزمة دستورية طويلة الأمد، ستضعف قدرة بريطانيا على التصرف بفعالية بشكل كبير على الساحة الدولية. ويستند ثانيها إلى الاضطراب الذي سيشهده الاتفاق التجاري – حال توقيعه – بين واشنطن ولندن، بسبب عدم استمرار اسكتلندا كجزء منه، الأمر الذي قد يحمل تضرر واضح لمصالح واشنطن بموجب الاتفاق، سيما وأن الولايات المتحدة هى أكبر دولة مصدرة لاسكتلندا، بقيمة تصل إلى حوالي 5.5 مليار جنيه إسترليني سنويًا. أما عن ثالثها فيتصل بالموقف السياسي لواشنطن من الأزمة، والذي قد يتسبب في مزيد من الصدع بين الحليفين؛ فعلى الرغم من الأضرار التي ستقع على واشنطن في حالة استقلال اسكتلندا، إلا أنها قد تضطر إلى تبني لغة سياسية تدعو فيها بريطانيا إلى الاستجابة لمطالب اسكتلندا واحترام قرار الشعب الاسكتلندي كنوع من إعادة التأكيد على القيم الأميركية وبالأخص مع تصدر رموز التيار التقدمي للمشهد على الساحة الأميركية. بالإضافة لذلك، قد تضطر واشنطن لتجاهل الأضرار التي ستلحق بحليفتها بريطانيا، وتتجه لتعزيز تقاربها مع اسكتلندا حفاظًا على المصالح الأميركية.
وفي الأخير، يمكن القول بشكل عام إن “العلاقة الخاصة” ستستمر وفق معادلة الصعود والهبوط، التي لن تتسبب في كسر التحالف التاريخي لكنها ستظل متأثرة بعدد من العوامل؛ أبرزها: السياق والمؤامة وشخصيات القادة في كلا البلدين. ويرتبط بذلك حجم الدور الذي تقوم به بريطانيا على الساحة الدولية، وكذا حجم القدرات التي تسطيع تسخيرها في هذا الصدد؛ بينما ستشهد العلاقات حالة من التراجع مع انحسار دور بريطانيا واتجاهها للانكفاء على الذات. وعليه، يمثل الميثاق الأطلسي الجديد بادرة إيجابية انطلاقًا من كونه تأكيدًا جديدًا على روح التحالف التاريخي الممتد، ودفعة جديدة في اتجاه تعزيز العلاقات.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر