سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مختار الدبابي
فجأة بدا الجميع متحمّسا لفكرة الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن الانتخابات المبكرة، ولا يعرف بعد ماذا يقصد الاتحاد بمبادرته، هل ستشمل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهل هي مبادرة مدروسة أم هي ردة فعل غاضبة على كلام للرئيس قيس سعيد انتقد فيه حوار 2013 والمشاركين فيه!
وبقطع النظر عما يحفّ بهذه المبادرة من تفاصيل وحسابات بعضها يتعلق بالصراعات داخل الاتحاد نفسه حول التمديد للقيادة الحالية من عدمه، فإن المبادرة في حد ذاتها تؤشر إلى وعي بحقيقة الأزمة، وهي الحل الذي لا مفر منه، وسبق أن قلنا في السابق إن حلول المغالبة بين الرؤوس الثلاثة والانحياز لهذا أو ذاك بمثابة خسارة للوقت والجهد، وأن الحل في السير مباشرة نحو الانتخابات المبكرة بوجهيها البرلماني والرئاسي.
وفيما يدافع البعض عن الاكتفاء بانتخابات برلمانية مبكرة كون الأزمة أساسها البرلمان الذي يسيطر عليه التشظي والحسابات الحزبية، وأنه زاد من كراهية الناس للانتقال الديمقراطي الذي تشوه لدى الناس وباتوا يحنون لزمن ما قبل الثورة، لكن الأمر لا يختلف كثيرا في ملعب الرئيس سعيد، الذي يرفض التعامل مع الحكومة التي أفرزها الحزام البرلماني صاحب الأغلبية المريحة، ويعتبر أن الهدف الأول بالنسبة إليه هو تغيير النظام السياسي من برلماني معدّل إلى رئاسي.
وفي سبيل تحقيق هدفه تمسّك الرئيس سعيد بتعطيل المؤسسات، وخاصة المحكمة الدستورية، كما منع القسم على ثلث الوزراء في الحكومة، ويعمل ما في وسعه على حرف المعركة نحو خططه بقطع النظر عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وعلى العكس فهو يتعامل معها وكأنه خارج الحكم وبلا صلاحيات في تحريك القضايا ضد الفساد أو محاولات الانقلاب التي يتحدث عنها باستمرار.
بقاء الرئيس سيعني شللا لأي برلمان أو حكومة قادمين إذا لم يكونا من حزامه. وليس مهمّا هنا من على حق ومن على باطل، المهمّ هو أن تسيّر الدولة الدواليب وتركز على الاقتصاد وجلب التمويلات والاستثمارات واستعادة ثقة الجهات المانحة، ولذلك فإن مصلحة تونس تقتضي أولا أن ينتهي هذا الصراع من خلال انتخابات مبكرة أفضل من أن نحافظ على حالة الصراع والعرقلة والضرب تحت الحزام لسنتين أخريين ونصف السنة.
لكن هناك محاذير من أن تعيد الانتخابات نفس المشهد، وربما تعود النهضة كشريك رئيسي في أي حكومة قادمة، وفق ما تقوله المؤشرات، وأيضا من المرجح بالموازنات الحالية أن يعود قيس سعيد إلى الرئاسة. والحل يكمن بالأساس في استفتاء يتم من خلاله حل النقاط الخلافية، ونزع ألغام القانون الانتخابي وأقفال الدستور وحسم النظام الرئاسي أو البرلماني.
لكن الاستفتاء ليس إجراء سهلا يمكن لأي جهة بمن في ذلك رئيس الجمهورية أن يدعو إليه، فهناك تعقيدات داخل الدستور تجعل مروره بالبرلمان أمرا لا غنى عنه. ولأجل هذا يحتاج الجميع إلى توافق وطني حول النقاط التي سيتم عرضها على الاستفتاء، هل نكتفي باستفتاء التونسيين على نظام الحكم، أم العتبة أم على النظام النسبي ومعضلة أكبر البقايا التي تفرز آليا برلمانا هدفه الوحيد هو الصراع.
ومثلما أن الرئيس سعيد يعتبر أن الحل في نظام رئاسي يطلق يديه ويراكم صلاحياته، فإن من حق الآخرين أن يدافعوا عن نظام برلماني غير ملغوم بقانون انتخابي وضع بالأساس لمنع انفراد حزب معيّن بالحكم لوحده، وهذه النقاط يحسمها الاستفتاء الذي يتم وفق شراكة وطنية تسهل على الناس الاختيار وتبعد عنهم الخلافات القانونية.
وهنا تأتي قوة اتحاد الشغل ودوره كراعٍ للحوار الوطني. فليس المهم أن نلوّح بالانتخابات المبكرة، ولكن الأهم هو وضع أسس سليمة تجعل من هذه الانتخابات فرصة فعلية لخروج تونس من نفق الصراع الدستوري على أن يراعى في ذلك البعد المستقبلي، وألا توضع بمقياس مناكفة هذا الحزب أو الشخص أو مساندته.
ويمتلك الاتحاد قدرة حقيقية على التأثير والاقتراح في مقابل طبقة سياسية منهكة ومتعبة بسبب الصراعات ومعارك التشويه المتبادلة، وهو يقدر بهذا على أن يدفع باتجاه حل للأزمة السياسية العميقة، ولكن أيضا، وهذا مهمّ جدا، الدفع باتجاه أرضية وطنية للانتخابات القادمة تتركز على مقاربة لحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكن القبول بنتائج انتخابات تعيد المشهد إلى نقطة الصفر.
الدنيا تغيّرت، وإذا كان التكتل السياسي على قاعدة الهوية قد أفلح في تصعيد أشخاص وكتل إلى المشهد، فإن البلاد لم تعد تحتاج تحالفا ضد الإسلاميين بقدر حاجتها إلى تحالف بعمق إصلاحي اجتماعي يقطع مع تراخي الدولة وامتهانها وإذلال رموزها وفي نفس الوقت يؤسس لنمط حكم وطني يعيد الاعتبار للإنتاج وقيمة العمل ويستنهض كل الإمكانيات والقوى للخروج بالأزمة، وليس الاتكاء على القروض من المؤسسات المانحة.
من مصلحة الاتحاد أن يقوى الاقتصاد التونسي ويستعيد عافيته، فمثلما هو شريك في المكاسب والمنافع فهو أيضا شريك في جهد البناء، وخاصة بفعل قدرته على فرض التوازنات مع أرباب العمل، ومع التوظيف السياسي لدور المنظمة الشغيلة.
ويمكن أن يعيد الاتحاد الاشتغال على تسويق مبادرته كمبادرة للفرز بين المشاريع، وألا يضعها تحت رحمة الصراع السياسي، فلا تكون ورقة في يد هذا أو ضده، ويتجاوز ما علق بها من غموض وتشابك مع أجندات تبدو متناقضة.
بداية لم ترق المبادرة للرئيس سعيد لاعتبارات من بينها أن نتائجها ستعيد إنتاج الوضع الحالي، فهي تقترح حلولا بالمحافظة على مكونات الأزمة الحالية. والرئيس سعيد يريد مبادرة تعالج أساس الأزمة، وهي تغيير النظام السياسي كليا، من خلال إلغاء الديمقراطية القائمة على البرلمان إلى ديمقراطية شعبية تعيد إنتاج تجربة اللجان الثورية.
وكان الاتحاد يجاري مزاد الرئيس سعيد في الإيحاء تارة بأنه مع الحوار وأخرى ضده، إلى حدود الأيام الماضية حين أعلن الأمين العام نورالدين الطبوبي لفرقاء متعددين أن الرئيس موافق على الحوار ثم بان لاحقا أن الأمر سوء تأويل ليقرر الطبوبي سحب المبادرة من رعاية رئيس الجمهورية، ثم عاد وأعلن أنه لم يسحبها، وذلك ضمن سياق هدفه الحفاظ على التوازنات وألا يصب الموقف من رئيس الجمهورية في صالح خصومه.
وقال الطبوبي في تصريحات صحافية “لم نسحب مبادرة الحوار الوطني من رئيس الجمهورية وندعوه إلى المضي فيها وإن تواصلت الأزمة يجب إعادة الأمانة إلى الشعب بتنظيم انتخابات مبكرة”.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر