سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
سامح إسماعيل
في العشرينيات من القرن الماضي، انتبه عالم الاجتماع الأميركي كولين، إلى خطورة تنامي مفهوم الأمة الأميركية الواحدة، مندداً بمبدأ الشخصية الأميركية، الذي بات يتردّد بقوة في المجال العام، بدعوى صهر الجميع في بوتقة واحدة، كمخرج وحيد لضمان وحدة دولة المهاجرين، طارحاً، في المقابل، أهمية الاعتراف بالتنوع واحترام التعددية الثقافية والدينية داخل المجتمع الواحد، والإفادة من هذا التنوع كدعامة لتأسيس أميركا القوية، في ضوء الأهداف الاجتماعية المشتركة؛ مؤسساً لمفهوم المواطنة على قاعدة التعددية.
تجاوز مفهوم الجماعة الواحدة
يعد كولين الأب الروحي لحركات التعددية الثقافية “Multiculturalism” التي ظهرت في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبشر بها كلايد كلوخهوهن “Kluckhohn”، وسترود بيك “Strodtbeck” في دراسة لهما، اهتمت بتحليل التنوع الثقافي بين الأفراد، عام 1961، وأشارا فيها إلى إمكانية التمييز بين الثقافات المختلفة؛ بتحليل أبعاد العناصر التي لها طبيعة ثقافية ما، وهو ما يساعد على فهم التنويعات ذات الصلة.
وعليه، يمكن الوصول إلى تحقيق مبدأ التنوع، من خلال الهدف المشترك لجماعة بشرية تجمعها بنية جغرافية ومكانية واحدة، ومصالح مشتركة ترسخت عبر تاريخ ممتد، بحيث نصبح أمام حالة من التراتبية الاعتمادية، وهي حالة تتحقق بشكل أكثر وضوحاً من خلال الدولة الدستورية الحديثة، التي تكرّس نوعاً من الوحدة، في إطار قانوني يحمي الاختلاف، ويسمو فوق سلطة المركزية الثقافية وهيمنة الأغلبية، لصالح دولة المواطنة.
ويتمدّد المفهوم بحيث يتجاوز حيز الجماعة الواحدة (دينية /عرقية) إلى مفهوم (الأنا) المتمايز عن مفهوم الذات الواحدة المهيمنة، بالتالي، استيعاب الفروق الفردية واحترامها، وقبول هذا التنوع في: القدرات، والإدراك، والمعتقدات، والتوجهات الاجتماعية والجنسية والدينية والأيديولوجية، في ظلّ الاحترام المتبادل للأطر القانونية الحاكمة، والحامية لسلامة المجتمع وحرية الآخرين.
ولأهمية الأمر، جاء الإعلان العالمي لحماية التنوع الثقافي، الصادر عن هيئة اليونسكو في الدورة الـ31 للمؤتمر العام، سنة 2001، ليضع قاعدة قانونية دولية تلزم الدول الأعضاء باحترام التنوع الثقافي بكل أشكاله، وعرفت وثيقة اليونسكو “التنوع الثقافي” بأنّه: تراث مشترك للإنسانية يتجلى في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات، التي تتألف منها الإنسانية. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدراً للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري، ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة إلى الكائنات الحية.
وأكد الإعلان أنّ السياسات التي تشجع على دمج كلّ المواطنين، ومشاركتهم، تضمن التماسك الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني وتحقيق السلام، وبهذا المعنى تكون التعددية الثقافية هي الردّ السياسي على واقع التنوع الثقافي، كما أنّ التعددية الثقافية التي لا يمكن فصلها عن الإطار الديمقراطي، مواتية للتبادل الثقافي ولازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة السياسية.
التنوع ودلالاته في العالم العربي
يمكن رصد ملامح التنوع في العالم العربي، من حيث أبعاده؛ الثقافية والعرقية والأيديولوجية، فإذا كانت القومية العربية كمشروع سياسي له أسبابه المنطقية، ولأصحابه الحق في طرحه كحائط صدٍّ في مواجهة التحديات المشتركة، إلّا أنّ العقل الجمعي سقط في مغالطة بافتراض وجود شخصية واحدة تجمع أفراد شعب واحد من المحيط إلى الخليج، في ظلّ ثقافة مركزية نواتها الإسلام السني، والعرق العربي، يعززها التاريخ المشترك، واللغة العربية، في مساحة جغرافية شاسعة لا يفصل بين أجزائها أيّ موانع جغرافية.
وعليه فإنّ الجميع بات مطالباً بالانصهار في بوتقة واحدة، كدلالة على مفهوم الشعب العربي الواحد، وهو الأمر الذي يتجاهل ذلك التنوع الذي يحفل به العالم العربي، وتتعدد دلالاته ومعطياته خارج منطقة المركز الثقافي الوهمي، وخارج نطاق الدول المركزية الكلاسيكية، التي تحفل هي الأخرى بتنوع شديد الاتساع والاتساق في الوقت نفسه، من حيث قدرته على التنوع القادر على التماهي مع طبيعة الثقافة المركزية الأحادية رغم الصعوبات الموجودة.
وبتفكيك بنية النواة المركزية الافتراضية، نستطيع استشراف معالم ذلك التنوع: الديني/ الطائفي، النقاء العرقي، اللغة.
التنوع الديني
يمكن أن نرصد على اتساع خريطة العالم العربي قدراً من التنوع الديني، رغم ما يدعيه الخطاب الرسمي من وحدة دينية تجمع كلّ العرب تحت لوائها؛ ففي مصر التي يشكل فيها الأقباط عدة ملايين، فضلاً عن بقايا الطائفة اليهودية، يتناسى الجميع البهائيين، وكان إحصاء العام 1960 قدّرهم بنحو 5 آلاف مواطن، وبعد جولات من النضال القضائي حصل البهائيون على الحكم النهائي، الذي أصدرته المحكمة الإدارية العليا بحقّهم في الحصول على بطاقات الرقم القومي وشهادات الميلاد، دون ذكر أيّة ديانة، وهو ما عدّوه انتصاراً لهم، رغم عدم اعتراف الدولة بديانتهم، وكانت تجبرهم على وضع الإسلام أو المسيحية في خانة الديان، لكنّ تنفيذ الحكم اقتصر على غير المتزوجين؛ إذ لا تعترف القوانين المصرية بزواج البهائيين، وهو ما نتج عنه عدم تمكن جميع المتزوجين البهائيين من استخراج بطاقات الرقم القومي، إلّا إذا وافقوا على أن يدوّنوا في بياناتها إقراراً بعدم الزواج.
ومع عدم اعتراف الدولة بوجود قرابة مليون مواطن ينتمون إلى المذهب الشيعي، جرت في 23 حزيران (يونيو) العام 2013، أسوأ جريمة قتل طائفي سني/ شيعي في تاريخ مصر الحديث؛ ففي إحدى قرى محافظة الجيزة (جنوب القاهرة)، تم سحل أربعة من الشيعة، من بينهم: الشيخ حسن شحاتة وأخويه، والتمثيل بهم على يد مجموعة من الأهالي الغاضبين، وهو الأمر نفسه الذي قد يواجه أقليات أخرى مثل: القاديانية، والقرآنيين، والطوائف المسيحية الصغيرة.
وفي المملكة المغربية، وبحسب تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأميركية العام 2014، يقدر عدد الشيعة بحوالي 3000-8000 نسمة، وتشير تقديرات أخرى إلى أنّ أعدادهم تصل إلى 7000 مواطن لا تعترف بهم المملكة، ولا تسمح لهم ببناء مساجد أو حسينيات، كما تشير تقارير دولية إلى أنّ عدد المسيحيين بالمغرب يبلغ حوالي 20 ألف نسمة، إضافة إلى عدة آلاف من اليهود يقدرون بحوالي 3000-4000 مواطن، وعدة مئات من البهائيين يتركزون في المناطق الحضرية.
تتكرر تلك الحالة بنسب وأعداد متفاوتة في كل دول الوطن العربي، بحيث نلحظ هذا التنوع حتى داخل المذهب الواحد، بين سنة سلفية وصوفية، وشيعة إمامية وزيدية، ومسيحية أرثوذكسية وإنجيلية، …إلخ.
أسطورة النقاء العرقي
تبدو نظرية النقاء العرقي غير ذات موضوع؛ فالعالم العربي يزخر بالتنوع العرقي؛ فهناك الأكراد، والعرب، والأمازيغ وذوي البشرة السمراء، ومع عدم الشفافية، ووضوح مفاهيم المواطنة للمجموعات العرقية المهمَّشة، ظهرت الأزمات، وتمثل مشكلة الطوارق نموذجاً لافتقاد الهوية، وتصدير الأزمة لدول الجوار، فعلى امتداد الهامش الصحراوي، وبعيداً عن تعقيدات الساحل وصراعاته، واتساقاً مع البنية المكانية ومعطياتها الجغرافية والبشرية، عاش الطوارق، وما يزالون، في هذا النطاق الممتد من جنوبي ليبيا والجزائر حتى شمال مالي والنيجر، إضافة إلى مجموعات محدودة في بوركينا فاسو، يمارسون طقوسهم الاجتماعية ذات الصبغة الأمازيغية، ويحلمون بمستقبل يضعون فيه رحال اللجوء إلى دول الجوار، بحثاً عن اعتراف بات أمنية مستحيلة.
يعيش الطوارق على الهامش، هامش الجغرافيا؛ حيث الصحراء المترامية بلا نهاية، وهامش الحدود؛ حيث التقسيمات البشرية التي شتّتتهم بين دول مختلفة، وربما كان الهامش الأخير هو هامش الحلم، حلم الاستقلال والحكم الذاتي.
تنوع اللهجات واللغات
جعل اللغة العربية لغة رسمية، لا ينفي هذا التنوع في اللهجات واللغات داخل العالم العربي، فلكل دولة لكنتها الشعبية التي تتباين على امتداد القطر الواحد، كما أنّ هناك ألسنة متداولة تصل إلى حدّ كونها لغات خاصة؛ كالكردية والقبطية والنوبية والأمازيغية، وهو ما ينفي سطوة لغة واحدة مركزية؛ بل إنّ الذين يتحدثون العربية بلسانها الفصيح أقلية، في مواجهة هذا القدر الهائل من اللهجات واللكنات الشعبية والمحلية.
وما يزال العالم العربي في حال إنكار لوجود هذا التنوع، ويفشل في تحقيق المرحلة الأولى وهي المساواة، وحقوق المواطنة، فمصر لا تعترف بغير المسلمين السنة والأقباط وبقايا اليهود، والعراق تحاول رتق نسيج الطائفية السنية الشيعية، والأمر نفسه في سوريا ولبنان، وفي المغرب العربي وليبيا يتجاهل الجميع مسألة الطوارق.
هذا الإنكار أدّى إلى الانفجار الدائم للصراعات، نتيجة رغبة الدولة المركزية دوماً في تصدير صورة المجتمع المستقر الواحد، غير مدركة أنّ هذا الاستقرار لا يتحقق سوى بإدراك التنوع وحسن إدارته، فالإصرار الدائم على عدم الاعتراف بوجود مشكلات تتعلق بحقوق المواطنة لأقباط مصر، تسبب في خلق صراعات طائفية بلغت ذروتها في أحداث ماسبيرو 2011، وكذلك فإنّ الإصرار على عدم الاعتراف بالتنوع الطائفي عند المسلمين، ساعد على تكرار أزمات المواجهة المجتمعية مع الشيعة، التي مثلت حادثة مقتل الشيخ حسن شحاته وأتباعه في قرية أبو مسلم طابعها المأساوي، مع اضطهاد القاديانيين والبهائيين، وتظهر مسألة الطوارق في المغرب العربي كجرس إنذار، لازمة تم تصديرها لدول الجوار الإفريقي.
الاعتراف بالذوات المتباينة
ولا يمكن أن يتناقض مبدأ الاعتراف بالتنوع مع مفهوم الدولة الوطنية، أو حتى الدولة القومية أو الأممية العابرة للحدود، طالما ظلت المصالح العليا لهذا الكيان السياسي تتحقق في ظل إدارة واعية للتنوع تعترف بالذوات المتباينة في مواجهة الذات العصبوية المركزية.
وتظل الهوية هي البيئة الحاضنة، التي تتشكل بمرور الوقت في مجتمع من المجتمعات، وتتغذى من روافد تاريخ العيش المشترك والأهداف الحيوية التي يتقاسمها المجموع، وفي ظلّ ثقافة شعبية تأخذ معطياتها من مجموع الثقافات الموجودة داخل المجتمع، وبالتالي تتحقق الهوية من خلال شعور سائد وقوي بالانتماء الوطني، في ظلّ مجتمع يراعي التنوع والاختلاف، ويقوم على المساواة بين ثقافة المركز والهامش، وهو ما يساعد على دمج المجتمعات المحلية دون أن يفقدها سماتها الخاصة.
ويبقى سؤال الهوية يواجه في المجتمعات العربية إشكاليات التمثيل النوعي للطوائف، فمن ناحية يضمن التمييز الإيجابي من خلال (الكوتا)، تمثيلاً للطوائف والأقليات، لكنّه في الوقت نفسه يكرس للبعد الطائفي، ويعيق تجاوز الخطوط الإثنية والدينية، وهو ما يفجّر إشكاليات أخرى فيما يتعلق بالمجتمعات المحلية شديدة التعقيد فيما يتعلق بالآخر.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر