سياسة تركيا الخارجية | مركز سمت للدراسات

الموجِّهون المخفيون لسياسة أردوغان الخارجية

التاريخ والوقت : الجمعة, 12 مارس 2021

غالباً ما يتم ربط سياسة تركيا الخارجية النشطة جداً بإرادة شخص رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية (منذ 2014) والزعيم بلا منازع لحزب العدالة والتنمية، حزب المحافظين ذي النزعة الإسلاموية، منذ عام 2002. ومع ذلك، فلم يكن هذا هو حاله دائماً.

حتى منتصف عام 2010، بدا مصدرُ الإلهام للإستراتيجية الدبلوماسية التركية نابعاً جيداً من شخص أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية (20092014) ثم رئيس للوزراء (20142016 ). كان نفوذه من القوة ما جعل الناس يتحدثون عن “عقيدة داود أوغلو”، الدليل العالمي للسياسة الخارجية التركية.

لم يفسح تهميشُ أحمد داود أوغلو في عام 2016 المجالَ أمام شخصيات فكرية ذات تأثير مماثل. ففيما تواصِل تركيا إظهار نشاطٍ خارجي مثير ولافت، أصبح من الصعب للغاية تحديد أهدافها ومبادئ عملها. ومع استجابتها أيضاً لمحددات السياسة الداخلية، يبدو أنّ سياسة أردوغان الخارجية لم تعد تعكس رؤية إستراتيجية طويلة المدى. غير أنه بالإمكان فهم دوافع هذه السياسة بشكل أفضل، من خلال النظر إلى العديد من المستشارين المحيطين برئيس الدولة. إن قدرتهم على العمل محدودة بالتأكيد، لكنهم يزودون السلطة التنفيذية التركية بأدوات أيديولوجية لتعزيز خياراتها الدبلوماسية والاستراتيجية.

تطوّر مؤسّسي

أدى الإصلاح الدستوري لعام 2017 إلى تغيير عميق في التوازنات المؤسّسية التركية. وكان المستفيد الرئيسي هو رئيس الجمهورية: لقد استعاد صلاحيات رئيس الوزراء – الذي ألغي منصبه – لكنه، على عكس هذا الأخير، فهو غير مسؤول أمام البرلمان. وهكذا انتقلت تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي متضخّم، وعلى هذا النحو أصبح أردوغان السيد المطلق للسلطة التنفيذية، ووضع جميع الوزارات تحت إشرافه المباشر. في الوقت نفسه، شهدت حملة الاستفتاء لصالح هذا الإصلاح اقترابَ حزب العدالة والتنمية الرئاسي من حزب العمل القومي، حزب الحركة القومية (Milliyetçi Hareket Partisi)، الذي كان حتى ذلك الحين ناشطاً في المعارضة، والذي تَشكل معه تحالفٌ في البرلمان في عام 2018. هكذا وضع الرئيس التركي نفسه في موقف متناقض: رئيس بلا منازع، وملزم بمراعاة تطلعات حلفائه الجدد للحفاظ على أغلبيته.

على عكس سلفه البعيد، أحمد داود أوغلو، لا يتمتع وزير الخارجية الحالي – منذ عام 2015 – مولود تشاووش أوغلو، بسمعة بارزة. يُنظر إليه كمدير وضابط اتصالات، في حين يظل السلك الدبلوماسي الموضوع تحت إشرافه يطبِّق فعلياً الخيارات التي تحدّدها رئاسة الجمهورية. فضلاً عن ذلك، أدى تصاعد التوترات الإقليمية واستئناف الاشتباكات مع حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى إعادة تقييم مساهمة المؤسسات الأمنية: وزارة الدفاع، التي يرأسها رئيس الأركان السابق خلوصي أكار منذ عام 2018، ووزارة الداخلية التي يرأسها سليمان صويلو منذ عام 2016، وأجهزة المخابرات تحت قيادة هاكان فيدان منذ عام 2010.

في ما وراء هذا الهيكل المؤسّسي، أحاط أردوغان نفسه بمستشارين من خلفيات متنوعة لتحديد سياسته الإستراتيجية والدبلوماسية. وهكذا فهو يعتمد على أكاديميين يجتمعون بشكل دوري في مجلس الأمن والسياسة الخارجية (CSPE)، التابع مباشرة لرئاسة الجمهورية. كما توفر الأحزاب السياسية المتحالفة مجموعة من المستشارين أيضاً. أخيراً، هناك المزيد من العلاقات الشخصية التي تلعب دوراً، حيث يعتمد أردوغان، على سبيل المثال، على جماعة ناكشيبندي التي هو عضوٌ فيها، وهي المنافِسة التاريخية لجماعة فتح الله غولن، التي انفصل عنها بين عامي 2009 و2013، أو أيضاً على محيطه العائلي. يَنتج عن عدم تجانس الملامح هذا تنوّعاً أيديولوجياً وعقائدياً معيناً. انضم إلى أتباع الرؤية داودوغلية، الذين يوصَفون في كثير من الأحيان بـ “العثمانيين الجدد”، قوميّون، وبعضٌ من أصحاب الميول الإسلامية المحافظة، وآخرون أكثر علمانية، ممن يزعمون أحياناً أنهم كماليون، وأيضاً نزعة أوراسية أكثر تحفظاً.

أيتام أحمد داود أوغلو

تم تنفيذ العقيدة التي صاغها وزير الخارجية السابق في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت تهدف إلى ازدهار تركيا، وتهدئة بيئتها الإقليمية، وظهورها كقوة عالمية، من خلال الخروج من المنظور الأمني، ومن خلال دبلوماسية استباقية ومتعددة الاتجاهات والأبعاد، تجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة. بعد الثورات العربية عام 2011 ، حاول أحمد داود أوغلو أن يدمج في هذه الرؤية دعمَ المجتمعات المدنية المطالِبة بالديمقراطية، والاستناد على جماعة الإخوان المسلمين. لكن فشلَ هؤلاء الإخوان في مصر وسوريا ما لبث أن أضعف تدريجياً مصداقية هذا الخيار وأدى إلى تهميش أحمد داود أوغلو.

على الرغم من أنه انتقل الآن رسمياً إلى المعارضة، إلا أنّ العديد من الأكاديميين المقربين منه أيديولوجياً أو شخصياً يواصلون تقديم المشورة لأردوغان. وأهمهم إبراهيم كالين، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة ونائب رئيس  CSPE. فهذا الأخير، – وهو الرئيس المؤسس لـ  SETA( 2009-2005)، وهو مركز أبحاث إستراتيجي مشهور، قريب من حزب العدالة والتنمية – مهتمٌّ كثيراً بالعالم العربي، إذ يدافع بشكل خاص عن جماعة الإخوان المسلمين ضد القوة العسكرية المصرية. يسمح له دوره كمتحدث رسمي، بالتعبير عن أفكاره انتظام في وسائل الإعلام.

هناك مستشارون آخرون يعملون على إدامة نفوذ داود أوغلو. توجهاته الشرق أوسطية متجسّدة في ياسين أكتاي، وهو من أتباع الرئيس أردوغان، فهذا الأخير يتحدث اللغة العربية، ويروِّج لسياسة استباقية تجاه العالم العربي. وهناك أحمد كافاس، السفير لدى تشاد في الفترة من 2013 إلى 2015 ، الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة، ويدافع عن نهج متعدد الأبعاد لأفريقيا جنوب الصحراء، ومنطقة الساحل على وجه الخصوص. ويشهد تعيينه في عام 2019 سفيراً في السنغال، وهي دولة تعتبرها أنقرة فضاء إستراتيجياً، على مكانة خبرته. وفيما يتعلق بالقضايا الأوروبية، نجد ليبراليين يؤيدون العضوية التركية، بما يتماشى مع العقيدة الجارية في سنوات 2010. هذا هو حال غولنور أيبيت، أستاذة العلاقات الدولية والعضو في SPE، أو فولكان بوزكير، الوزير السابق للشؤون الأوروبية (20142015 ، 20152016).

حالة المدير الحالي لمؤسسة SETA ، برهان الدين دوران، وهو أيضاً عضو في CSPE، أكثرُ تعقيداً. ففي البداية، وباتباع الخط الداودوغلي، تبنى هذا الباحث خطاباً أكثر قومية بعد محاولة الانقلاب عام 2016، مبرِزاً التأثيرات الجديدة السارية على الرؤية الاستراتيجية للنخب التركية.

تأثير القوميين داخل الهياكل الأمنية

أعطت نهاية عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني (2015)، والهجمات المرتبطة بالصراع السوري على الأراضي التركية (منذ 2013)، والتدخلات العسكرية التركية (في سوريا منذ عام 2016، وفي ليبيا منذ عام 2020 …) وتزايد التوترات مع اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، وزناً مُهِمّاً جديداً للمؤسسات المرتبطة بالأمن، والتي تضاءل دورها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. اقترب أردوغان من المؤسسة العسكرية، الحامية التاريخية للقومية التركية. وقد عيّن رئيس الأركان السابق خلوصي أكار وزيراً للدفاع في عام 2018. وقد أثرت هذه الشخصية الكتومة، التي تتسم سمعتُها بعدم التدخل في السياسة الداخلية، على الإستراتيجية السورية، وقد جعل من مكافحة دستور الدولة الكردية المستقلة، أولويته الرئيسية.

مع 289 نائباً من أصل 600 لا يتمتع حزب العدالة والتنمية بأغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية، وهو وضع يخدم إلى حد كبير حليفه القومي، حزب الحركة القومية الذي أصبح أعضاؤه الخمسون أو نحو ذلك، مفتاحَ أغلبية أردوغان البرلمانية. وبذلك، زاد حزبُ دولت بهجلي تأثيرَه على الأجندة الإستراتيجية عشرة أضعاف. إن التحول القومي ملموس في حاشية رئيس الدولة. أصبح وزير الداخلية سليمان صويلو الليبرالي (الذي كان زعيم الحزب الديمقراطي) مؤيداً قوياً للتحالف مع حزب الحركة القومية، وداعماً لسياسة هجومية تجاه حزب العمال الكردستاني. وقد اتبع منافسه السابق في الحزب الديمقراطي، جاغري إرهان، مساراً مشابهاً: كعضو في CSPE، أكد أنه قومي للغاية وأظهر دعمه الثابت لأذربيجان خلال الحرب ضد أرمينيا في خريف عام 2020.

مع ذلك، حرص رجب طيب أردوغان على عدم اختيار مُلهميه في المجالات القومية فقط: فهو يعتمد أيضاً على شخصيات ذات نزعة إسلامية أكثر وضوحاً، مثل مستشاره المقرب عدنان تانريفيردي، مؤسس شركة “سادات” شبه العسكرية، الملتزم جداً بدعم متمردي سوريا. يعتمد الرئيس التركي أيضاً على عائلته: فالطائرات التكتيكية بدون طيار TB-2 التابعة لشركة Baykar، التي يديرها صهره سلجوق بيرقدار، يفضلها الجيش التركي لأسباب عديدة على طائرات Anka-S التي طورتها شركة الدولة TAI. فإذا كانت المواصفات الفنية تبرر هذا الاختيار، فهي تؤكد مع ذلك رغبة رئيس الدولة في الحفاظ على سيطيرته الشخصية على الشؤون الإستراتيجية.

النفوذ الأوراسي الخفي

بإيحاء من الأوراسية الروسية (1) طور المفكرون الأتراك رؤية سياسية أصلية تدافع عن التعاون مع دول آسيا الوسطى، وروسيا، وإيران، وحتى الصين، ضمن كتلة أوراسية يُعتقد أنها ثِقلٌ موازنٌ للقوى الغربية. هذه الأيديولوجية الأوروبية الآسيوية المتوافقة مع القومية التركية، التي تدعو إلى الاتحاد السياسي والثقافي للشعوب الناطقة بالتركية، تتطابق مع حزب الوطن الذي ينتمي إليه دوغو بيرينجيك. لقد طور هذا الأخير وهو ناشط ماركسي سابق، قريب من حزب العمال الكردستاني في شبابه خلال العقد الأول من القرن الحالي، خطاباً قومياً داعياً للتقارب مع الصين وروسيا وإيران.

من الصعب وصف طبيعة الروابط بين دوغو بيرينجيك، الذي تتميز حركته ببعض الغموض، وبين أردوغان. من ناحية أخرى، من المؤكد أنه بفضل تطهير كوادر غولن، تمكن الناشطون الأوروسيون من شغل مناصب، داخل المؤسسات التركية. لقد برزت بعض الشخصيات، أمثال يغيت بولوت، الصحفي ومستشار الرئيس أردوغان منذ عام 2013، الذي يدافع عن التقارب مع موسكو وبكين. لكن وقع الاهتمام أيضاً على حقان فيدان، رئيس أجهزة المخابرات ، الذي أعرب منذ فترة طويلة عن اهتمامه بالفكرة الأوروبية الآسيوية، والذي يُعرف بتأييده للتقارب مع إيران. كان مقرباً سابقاً لأحمد داود أوغلو، وهو الآن جزء من الدائرة المقربة من أردوغان، والتي كان رجل الثقة فيها خلال محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني. فهو غامض للغاية، ويبدو أنه الشخصية الأوراسية الأكثر نفوذاً في القصر.

حاشية منفتحة على الأفكار الجديدة: مافي فاتان نموذجاً

يشكل مستشارو الرئيس التركي في الشؤون الإستراتيجية والدبلوماسية أخيراً، مجموعةً من دون الكثير من التماسك بين أعضائها. وبالتالي قد يلجأ أردوغان إلى عناصر أيديولوجية متناثرة، يقوم بحشدها بطريقة براغماتية للغاية، وفقاً للفرص المتاحة. إنّ الطريقة التي تبنّى بها أردوغان أيديولوجية مافي فاتان (الوطن الأزرق)، وهي أساس المطالبات التركية الإقليمية في البحر المتوسط​​، خير دليل على هذه المرونة. إنّ الأدميرالات الذين طوروا هذه العقيدة ليسوا قريبين في الواقع من أردوغان: إذ يصف جيم غوردينيز نفسَه بأنه كمالي، وهو يفنّد أيَّ صلة له بالحكومة التركية أو الإسلام السياسي. أما جيهات يايجي، رئيس الأركان البحرية (20172020)، فقد أُجبِر على الاستقالة في أيار (مايو) 2020. فإذا كان الرئيس التركي قد استولى على أفكارهم فذلك أساساً لأنّ لديهم أتباعاً ضمن مجموعته الغنية من المستشارين، سيما ضمن الدوائر القومية، والأوروبية الآسيوية، أكثر من اعتماده على إبراهيم كالين والأقارب السابقين لأحمد داود أوغلو. لكن تصديق أردوغان، الذي لا يزال صانع القرار الوحيد، على مافي فاتان، هو الذي يعزز مكانته القيادية، وفقاً لمنطق نظام شخصاني متنامٍ بلا انقطاع.

المصدر: حفريات

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر