التكنولوجيا الرقمية غافام | مركز سمت للدراسات

عمالقة التكنولوجيا الرقمية.. في مواجهة الهجوم المضاد

التاريخ والوقت : الإثنين, 8 مارس 2021

باسكال بونيفاس

 

بات عمالقة التكنولوجيا الرقمية – الـ«غافام» (جوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، مايكروسوفت) الأميركية، و«باتكس» (بايدو، علي بابا، تنسنت، شياومي) الصينية — الذين وُلدو في معظمهم مع بداية هذا القرن، في طريقهم إلى أن يصبحوا قوى عظمى قادرة على منافسة الدول. فسواء من ناحية عدد السكان، أو الوزن الاقتصادي، أو الخدمات المقدمة، بل وحتى الوظائف الخاصة بالدول، باتت هذه الشركات تزاحم حتى الهياكل الهرمية الأكثر ثباتاً وقدماً. ويبدو أن الدول أدركت هذا التهديد، وإن متأخرة، وبدأت تبدي رد فعل. وقد آن أوان ذلك.

ففي الولايات المتحدة، وبعد 16 شهراً من التحقيق، نشرت «لجنة مكافحة الاحتكار» التابعة لمجلس النواب في أكتوبر 2020 تقريراً يتألف من 449 صفحة، عبارة عن لائحة اتهام حقيقية ضد الـ«غافام»، تتهم فيه هذه الشركات بانتهاج تكتيكات مناوئة للمنافسة وبالقيام بعمليات استحواذ افتراسية من أجل القضاء على المنافسة، وهو ما يؤدي، وفق النواب الأميركيين، إلى قدر أقل من الابتكار، وقدر أقل من الاختيار بالنسبة للمستهلكين، وتقويض للديمقراطية. وعلى سبيل المثال، فخلال الفترة ما بين 2011 و2019، استحوذت الـ«غافام» على 667 شركة، أي بواقع شركة واحدة في كل 10 أيام، أغلبيتها الساحقة من الشركات الناشئة. وقد اتهمت وزارة العدل «جوجل» بأنه يسعى لحماية احتكاره. وبعد شهرين على ذلك، اتهمت «لجنة التجارة الفيدرالية» والـ46 ولاية المعبأة بخصوص هذا الملف «فيسبوك» باستغلال احتكاره من أجل سحق منافسيه على حساب المستهلكين. وحينها أُطلقت فكرة تفكيك «فيسبوك».

وبعيدا عن أسطورة مجموعة الأصدقاء الذين أنشأوا شركة صغيرة في مرآب منزل بدون مساعدة سوى عبقريتهم، فإن الامبراطوريات الرقمية تشكّلت في الحقيقة بمساعدة من الدولة الفدرالية الأميركية وتواطئها. ذلك أن وزارة الدفاع الأميركية – من بين آخرين – موّلت برامجها إلى حد كبير. كما تركت واشنطن تهرباً ضريبياً ضخماً نمى ثروتها. ومن هنا، بدأ المواطنون والمنتخَبون يدركون أنه لا بد من التقنين والرقابة إن كانوا لا يريدون أن يتسبب السوق في قتل السوق.

وفي أوروبا، فرضت المفوضية الأوروبية غرامات على العمالقة الرقميين. ففي 2018، حُكم على «ألفابيت» (الشركة الأم لـ«غوغل») بدفع غرامة 4,3 مليار دولار بتهمة ممارسة منافية للمنافسة، وكان قد حُكم على الشركة نفسها قبل عام على ذلك بدفع غرامة قدرها 2,4 مليار يورو بتهمة استغلال وضع الهيمنة. وفي شهر نوفمبر، ضُبط «ساندر بيشاي»، الرئيس التنفيذي لـ«جوجل»، في حالة تلبس من قبل المفوض الأوروبي «تيري بروتون». فخلال مؤتمر عبر الفيديو، أراه هذا الأخير وثيقة داخلية سرية لـ«جوجل» تطوِّر استراتيجية من أجل التصدي لتشريع رقمي جديد يوجد قيد التحضير في بروكسل، «قانون الخدمات الرقمية» و«قانون الأسواق الرقمية»، اللذين يمثلان جانبين من تقنين الفضاء الرقمي الأوروبي.

فالمفوضية وعدة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تريد وضع حد لحالة الفراغ القانوني إزاء التهرب الضريبي الكبير الذي تنخرط فيه منذ مدة طويلة الشركات الرقمية الكبرى. وعجز الميزانيات العامة الذي فاقمته أزمة كوفيد 19 يجعل تملص هذه الشركات الغنية من الضرائب أمراً غير مقبول وغير شرعي أكثر من أي وقت مضى. ويُعد عدم السماح للـ«غافام» واللوبيات المدافعة عنها بفرض إرادتها اختبار مصداقية حقيقياً بالنسبة للمفوضية الأوروبية، التي تعرّف نفسها بأنها مفوضية جيوسياسية.

وفي الصين، ذُكّر «جاك ما»، مؤسس شركة «علي بابا»، بطريقة قاسية بضرورة مراعاة السلطة السياسية، التي كان انتقدها خلال أوج المواجهة مع الولايات المتحدة. ذلك أن «جاك»، وعلى غرار نظرائه الأميركيين، كان يرغب في تقديم العلاقات الجيدة بين البلدين وإيلائها الأولوية. ولكنه لم يستطع إدخال شركته إلى البورصة، واختفى عن الأنظار لفترة قبل أن يظهر من جديد ولكن مع حرص على الابتعاد عن الأضواء وعدم لفت الانتباه. والواقع أن هذه القضية يكتنفها بعض الغموض، غير أن ما حدث على ما يبدو أن «جاك» ذُكِّر بضرورة مراعاة النظام، وأنه إذا كان الحزب هو الذي كان «يتحكم في السلاح» في عهد ماو تسي تونغ، فإن الدولة هي التي تقرر اليوم وليس شركة خاصة.

وهكذا، قامت واشنطن وبروكسل وبكين بردة فعل، كل واحدة بطريقتها، على ما ينظر إليه على أنه تنام مفرط في قوة الامبراطورات الرقمية التي أخذت تستحوذ على الوظائف الخاصة بالدول.

والواقع أن المشهد الدولي بصدد إعادة التشكل؛ إذ فقدت الدول احتكار صفة الفاعل الدولي التي لطالما امتلكتها. غير أنها تظل مع ذلك الفاعل الرئيس والوحيد، حيث يمكن تحديد المصلحة العامة. ذلك أن رؤساء الدول مسؤولون بطريقة أو بأخرى أمام شعوبهم، في حين أن مليارديرات الفضاء الرقمي ليسوا مسؤولين سوى أمام أنفسهم.

 

المصدر: صحيفة الاتحاد

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر