سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
راكيش سود
خضعت أقدم ديمقراطية لأقسى اختبارات للضغط؛ حيث وصلت إلى حافة الهاوية، وتمكنت من السيطرة عليها. وربَّما تكون الولايات المتحدة قد نجت من الاختبار، ولكن تمَّ وقوع أضرار كبيرة. ذلك أن مشهد انتشار 20 ألف جندي من الحرس الوطني المنتشرين في العاصمة وحولها، ومشهد الرئيس المنتهية ولايته الذي تعرض للعزل مرتين قبل أسبوع من مغادرة منصبه، كل ذلك أضر بالصورة الذاتية للولايات المتحدة، ومكانتها العالمية. إنه تذكير قاتم بأن الديمقراطية، مهما كانت متعمقة الجذور، لا يمكن اعتبارها أمرًا مفروغًا منه وأنها تحتاج إلى رعاية وحماية مستمرَّين لمنع انزلاقها إلى الشعبوية وحركة حكم الدهماء (الموبوقراطية) Mobocracy.
انتخابات ذات استقطاب
بدأ اختبار الضغط قبل شهرين عندما رفض الرئيس الحالي “دونالد ترمب” قبول نتيجة الانتخابات، زاعمًا أنه تمَّ سرقة فوزه بوسائل احتيالية. فقد كانت انتخابات 2020 هي الأكثر استقطابًا التي شهدتها الولايات المتحدة، إذ ما حدث في 6 يناير يمثل انعكاسًا لذلك. وبالتالي، لقد أخرجت المصادقة على نتائج الانتخابات من قِبَل الكونجرس السيد “ترمب” من البيت الأبيض، لكن “ترمب” سيمثل تحديًا يصعب التعامل معه. ففي الانتخابات التي شهدت أعلى نسبة مشاركة (ما يقرب من 67٪) منذ عام 1900. ففي حين فاز “جو بايدن” بأكثر من 81 مليون صوت، فإن “ترمب” قد فاز بحصيلة رائعة بلغت 74 مليونًا. وتكشف الخريطة الانتخابية للولايات المتحدة على مستوى المقاطعات أن “بايدن” فاز في 509 مقاطعات التي تسهم بأكثر من 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بينما فاز “ترمب” في 2547 مقاطعة تقدم الباقي.
ورغم أن القنوات الإعلامية بما في ذلك “فوكس نيوز”Fox News أعلنت النتائج بحلول 5 نوفمبر، رفض “ترمب” إلقاء خطاب التنازل التقليدي، وأصر على أن الانتخابات قد تمَّ تزويرها. وطعن مؤيدوه في كثير من الولايات على النتائج. وبحلول نهاية نوفمبر، كانت عمليات إعادة الفرز قد اكتملت وتمَّ الفصل في الطعون القانونية. وظلت نتيجة الانتخابات دون تغيير. كما أعلن المدعي العام “ويليام بار”، أحد مؤيدي “ترمب”، في 1 ديسمبر أن وزارة العدل لم تكشف عن أي تزوير كبير يمكن أن يكون قد أثَّر على نتيجة الانتخابات. وفي 14 ديسمبر، اجتمعت الهيئة الانتخابية في كل من عواصم الولايات لإضفاء الطابع الرسمي على فوز “بايدن” من خلال الإدلاء بـ306 أصوات لبايدن/ كامالا هاريس مقابل 232 لترمب/ مايك بنس.
لقد تمَّ نقل النتائج إلى الكونجرس للمصادقة عليها، لكن “ترمب” لم يستسلم بعدُ. فواصل حث نائب الرئيس “بنس”، الذي كان من المقرر أن يرأس جلسة الكونغرس في 6 يناير، على استخدام سلطته للتشكيك في الإقرارات المقدمة من المقاطعات المتأرجحة. لكن “بنس” اعترض على ذلك، مشيرًا إلى أنه ليست لديه “سلطة أحادية” لإلغاء الأصوات الانتخابية المقدمة.
لقد كان “ترمب” يحث أنصاره على الاحتجاج في واشنطن العاصمة ضد الشهادة، وأرسل تغريدات، قال فيها: “احتجاج كبير في العاصمة يوم 6 يناير. كونوا هناك، ستكون جامحة”، وفي ذلك اليوم، دعاهم للذهاب إلى الكابيتول، وحثَّهم قائلاً: “إذا لم تقاتلوا مثل الجحيم، فلن يكون لديكم بلد بعد الآن”. وبعد ساعات، اقتحم الغوغاء مبنى الكابيتول، وعرقلوا الإجراءات. وقد أثبتت قوة شرطة الكابيتول أنها غير كافية، فتمَّ استدعاء الحرس الوطني، وتوفي خمسة أشخاص. وبعد يوم سيُذكَر باعتباره أحد أحلك الأيام في تاريخ الولايات المتحدة، أقر الكونجرس فوز “بايدن”، مما مهَّد الطريق أمامه لأداء اليمين الدستورية كرئيس للولايات المتحدة رقم 46 في 20 يناير.
مع ذلك، أدَّت الصدمة في الأحداث ودور “ترمب” في تحريض مؤيديه إلى تزايد مطالبته بالتنحي. وكان بنس مترددًا في اللجوء إلى التعديل الخامس والعشرين (الذي تمَّ تحديده للتعامل مع رئيس يعاني من العجز) مما أدى إلى تمرير مجلس النواب اقتراح عزل في 13 يناير. وتضمنت التهم الموجهة “تهديد سلامة النظام الديمقراطي، والتدخل في الانتقال السلمي للسلطة، وتعريض تكافؤ الفروع الحكومية للخطر”. وفي حين حمَّل العديد من الجمهوريين “ترمب” المسؤولية، إلا أنهم كانوا مترددين في عزله. فقد أيَّد 10 منهم فقط الاقتراح الذي تمَّ قبوله بأغلبية 232 صوتًا مقابل 197.
إن مصير طلب الإقالة غير مؤكد في مجلس الشيوخ. إذ لم يشر الزعيم الجمهوري في مجلس الشيوخ “ميتش مكونيل”، رغم دعمه الشخصي لعزله، إلى الكيفية التي سيصوت بها. وبالنظر إلى شرط الحصول على أغلبية الثلثين للإدانة ومجلس الشيوخ بنسبة 50-50، فمن الصعب قياس ما إذا كان 17 عضوًا جمهوريًا في مجلس الشيوخ سيختلفون مع “ترمب”. وفي عام 2019، تعرض “ترمب” للعزل من قبل مجلس النواب على خلفية تعاملاته مع أوكرانيا، لكن مجلس الشيوخ قام بتبرئته. وبالنسبة للديمقراطيين، فإن المساءلة تتعلق “ترمب” بقدر ما تتعلق بتوجيه الاتهام إليه. لكن بالنسبة للحزب الجمهوري، فإن هذا يمثل لحظة استقطاب. فالسؤال الذي يحتاج قادته إلى التأمل فيه هو: لماذا سمحوا لـ”ترمب” بتولي الحزب الجمهوري؟ فقد أظهر استطلاع حديث أن 64٪ من الناخبين الجمهوريين ما زالوا مقتنعين بأن الانتخابات مسروقة. وبالتالي، فالتحدي الذي يواجهه الحزب الجمهوري هو كيفية رفض الترامبية مع الإبقاء على مؤيدي “ترمب”.
إن الحقيقة المريرة تكمن في أنه عام 2016، احتل الجمهوريون مجلس النواب ومجلس الشيوخ وفازوا بالبيت الأبيض، لكن في السنوات الأربع الماضية خسروا البيت لأول مرة، وخسروا الآن كلاً من البيت الأبيض وأغلبية مجلس الشيوخ، وذلك رغم الإقبال القياسي. وفي هذه العملية، كانت البلاد منقسمة بشدة، حيث لن يكون تطهير الحزب الجمهوري من الترامبية أمرًا سهلاً، خاصةً إذا كان “ترمب” يخطط للترشح مرة أخرى في عام 2024. ولهذا السبب هناك حديث عن استدعاء أحكام التعديل الرابع عشر التي بموجبها يمكن لأغلبية بسيطة في الكونجرس منع “ترمب” من الترشح.
الشعبوية ووسائل التواصل الاجتماعي
في وقت متأخر إلى حد ما، قام موقعا “تويتر” و”فيسبوك” بإزالة حسابات “ترمب”، إلى جانب عدد من المنصات الأخرى ذات الميول اليمينية. إذ قامت “آبل” و”جوجل” بالتوقف عن تحميل تطبيق “بارلير” Parler لمجموعة الدردشة اليمينية، بينما رفضت أمازون Amazon استضافة بياناته على خوادمها. وقد أدى ذلك إلى طرح أسئلة مشروعة حول حرية التعبير، واحتكار منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وجدوى نموذجها الاقتصادي ومن الذي يجب أن يحدد السياسة في المجال العام الرقمي. في حين يُسرِّع الاتحاد الأوروبي النظر في القواعد الجديدة لتوجيه سياسات تعديل المحتوى لشبكات التواصل الاجتماعي.
وفي كتابه “كيف تخسر بلدًا”،How to Lose A Country الصادر عام 2019 تحدث الكاتب التركي “إيجي تيميلكوران” Ece Temelkuran عن كيف تنحدر الديمقراطية إلى الشعبوية والأغلبية وأخيرًا الاستبداد. ففي حالة المعارضة منزوعة الشرعية، يدعي القائد أنه يمثل الأشخاص الحقيقيين، الذين يدعون حقهم في أن يكونوا ضحية، وبالتالي يدعون كرامتهم بقوة؛ وتصبح النخب إما غير ذات صلة، أو أسوأ أدوات للقمع. وقد شهدت مصطلحات الخطاب السياسي تحولاً، وأصبح الليبراليون العلمانيون “مغفلين”، إذ يتم التشكيك في الحقائق، وتتشكل حقيقة بديلة تثير حماس المؤيدين. إن ذلك الخطر ليس جديدًا، لكن وسائل التواصل الاجتماعي تعدُّ أداة تساعد في مثل هذا التلاعب.
إن الولايات المتحدة ليست أول مجتمع ديمقراطي يواجه هذا التهديد. فحتى في الوقت الذي يتصدى فيه السيد “بايدن” لتحديات” كوفيد ــ 19″ والانتعاش الاقتصادي، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجهه يكمن في إعادة بناء تقاليد الخطاب الديمقراطي الذي يهدف إلى توسيع الإجماع الوسطي. ومع قيام السيدة “هاريس” بفصل التعادل في مجلس الشيوخ، يسيطر الديمقراطيون على الكونجرس على الرغم من أن اللجوء إلى هذه الأغلبية الضئيلة لن يؤدي إلا إلى تفاقم الانقسامات والاتهامات المتبادلة. وهذا هو إرث “ترمب” الذي يجب التراجع عنه إذا كان على الديمقراطية الأميركية أن تخرج بنجاح من اختبار الضغط.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: The Hindu
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر