درجت الكثير من التحليلات على الإشارة إلى تجربة تونس في الديمقراطية باعتبارها الدولة العربية الأولى التي استطاعت الإطاحة بنظام حكم زين العابدين بن علي الاستبدادي والانتقال إلى آخر ديمقراطي، بينما يشير الواقع إلى صعوبة الجزم كليًّا بأن تجربة تونس رائدة في الديمقراطية مقارنة بدول أخرى في المنطقة، لأن هناك العديد من المعطيات على أرض الواقع في الداخل التونسي تؤشر لعدم اكتمال الديمقراطية بعد.
تونس في مؤشر الديمقراطية 2019
وفقًا لمؤشر الديمقراطية 2019 الصادر عن الوحدة الاستخباراتية لمجموعة الإيكونيميست، تأتي تونس في الترتيب رقم 53 عالميًا والثانية إقليميًا، وتصنف من الديمقراطيات المنقوصة. يعتمد المؤشر على 60 سؤالًا تندرج تحت خمس فئات هي: التعددية والعملية الانتخابية، الحريات المدنية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، الثقافة السياسية. ويتم تقسيم الدرجات من 0-10، وتعتبر 10 أعلى درجات الديمقراطية والعكس، ويتم حساب تلك الدرجات بقياس الوسط الحسابي لمجموع الفئات الخمس.
ويوضح الشكل التالي نسب تونس في مؤشر الديمقراطية 2019:
ووفقًا للمؤشر تحصل الديمقراطية الكاملة 8-10 درجات، والديمقراطية المنقوصة من 6-8 درجات، والأنظمة المختلطة من 4-6 درجات، والأنظمة الاستبدادية تحصل على أقل من 4 درجات.
وتُعد الديمقراطيات الكاملة هي الدول التي تحترم ليس فقط الحريات السياسية والمدنية، بل تميل إلى أن تكون مدعومة بثقافة سياسية تُفضي إلى ازدهار ديمقراطي، كما أن أداء الحكومة مُرْضٍ، وتتمتع وسائل الإعلام بالاستقلالية والتنوع، ويتمتع القضاء بالاستقلال والأحكام القضائية النافذة، ولا توجد سوى مشاكل محدودة في أداء الديمقراطيات.
أما الديمقراطيات المنقوصة فهي الدول التي لديها انتخابات حرة ونزيهة، ويتم احترام الحريات المدنية الأساسية بها، حتى إذا كانت لديها بعض المشاكل بالنسبة لوسائل الإعلام، وبعض نقاط الضعف فيما يتعلق بالحكم، وانخفاض في مستوى الثقافة السياسية، ومستويات المشاركة السياسية.
وفيما يخص الأنظمة المختلطة هناك مخالفات كبيرة في الانتخابات، وضغط من الحكومة على أحزاب المعارضة والمرشحين، إضافة إلى ضعف مستوى الثقافة السياسية وأداء الحكومة والمشاركة السياسة، بالإضافة إلى انتشار الفساد، وضعف في تطبيق القانون، إضافة إلى مضايقات وضغوط على الصحفيين، والسلطة القضائية ليست مستقلة.
وبالنسبة للأنظمة الاستبدادية، فالتعددية السياسية بها غائبة أو مقيدة بشدة، والانتخابات ليست حرة ونزيهة، بالإضافة إلى أن هناك تجاهلًا وتعديًا على الحريات المدنية، كما تسيطر على وسائل الإعلام مجموعات مرتبطة بنظام الحكم، وهناك قمع لكل من ينتقد الحكومة، والقضاء غير مستقل.
يصنف مؤشر الديمقراطية تونس في الفترة من 2006-2010 ضمن الأنظمة التسلطية، حيث حصلت على 2.79 في عام 2010، بينما تم اعتبارها من الأنظمة المختلطة في الفترة من 2011-2013، وحصلت على 5.53 في عام 2011، وتم تصنيفها من الديمقراطيات المنقوصة في الفترة من 2014-2019، وحصلت على 6.72 في عام 2019.
السياق العام في تونس
١. نظام الحكم:بالنظر إلى تعاقب الأنظمة المختلفة في تونس، بدءًا بالحبيب بورقيبة الذي قاد الدولة التونسية منذ 1957 حتى الإطاحة به في1987 على يد زين العابدين بن علي، فخلال فترة بورقيبة أسس الحزب الاشتراكي، وكانت فترة تضييق الخناق على الحريات، وفي عام 1975 أعلن نفسه رئيسًا لتونس مدى الحياة. ثم فترة الرئيس زين العابدين بن علي من 1987 حتى إسقاط النظام في ديسمبر 2010، ولم يختلف بن علي كثيرًا عن بورقيبة، بل سار على النهج ذاته. وفي 2002 قام بتعديل الدستور، وحذف عدد الفترات التي يشغلها رئيس الجمهورية.
لكن بقيام الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010 استطاع الشباب والمجتمع المدني في تونس لعب دور قوي في الإطاحة بنظام زين العابدين كنظام ديكتاتوري، وبدأت مرحلة جديدة في تونس من خلال إجراء انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، والموافقة على دستور الجمهورية الثانية في 27 يناير 2014، وإجراء الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014، والرئاسية في 23 نوفمبر و21 ديسمبر 2014.
ونجحت اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس (المكونة من: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ووسام المحامين التونسيين) في التفاوض ومحاولة التوصل إلى حل وسط يُرضي الأطراف السياسية الليبرالية والإسلامية، وأن يشارك كل منهما في النظام السياسي الجديد. لكن بالنظر إلى الواقع، فرغم هذا النجاح إلا أن المعطيات على أرض الواقع تدلل على عدم القدرة على التوافق بين التيارات المختلفة بل وبين رؤساء السلطات، وهو ما يرتب نتائج سلبية بالطبع على مستوى الاستقرار السياسي والاقتصادي في الداخل التونسي، وبدأت تتجدد الدعوات من قبل القوى السياسية في تونس بضرورة تغيير النظام السياسي والانتخابي.
٢. عدم الاستقرار الحكومي: وفقًا لدستور 2014فإن النظام السياسي في تونس يُعد نظام برلمانيًا، حيث يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الحاصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس النواب بتكوين الحكومة، ويمنح البرلمان الثقة للحكومة بالأغلبية المطلقة. وقد تعاقب على تونس ما يقرب من 8 حكومات منذ قيام الثورة، وذلك يرجع إلى عدم التوافق على شكل هذه الحكومة أو الخلاف على نسبة تمثيل التيارات السياسية بها.
بعد فشل مرشح حركة النهضة الحبيب الجملي لتشكيل الحكومة في الحصول على ثقة البرلمان، تم تكليف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة في فبراير 2020 من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد، ونتيجة لخلافه مع النهضة ورغبتها في إقناع الفخفاخ بضم قلب تونس وتوسيع التحالف البرلماني الداعم للحكومة ورفضه لذلك، استقال الفخفاخ في يوليو 2020 بعد توجيه اتهامات له بالفساد وتضارب المصالح.
ودفعت حالة الانقسام في البرلمان الرئيس قيس سعيد إلى تكليف هشام المشيشي بتشكيل الحكومة في أغسطس 2020، وهو وزير داخلية سابق والمستشار الأول للرئيس للشئون القانونية. ولم يكن المشيشي من الأسماء التي اقترحتها الأحزاب على الرئيس، ورأت بعض الكتل أن الرئيس تجاوز الكتل السياسية، سواء في اختيار رئيس الحكومة أو تشكيل الحكومة، وأن ذلك التشكيل يتعارض مع طبيعة الديمقراطية البرلمانية، وعلى رأسها حركة النهضة؛ لكن دعا مجلس شورى الحركة كتلته النيابية للتصويت لمنح الثقة لحكومة “المشيشي”، وربما يرجع ذلك إلى انخفاض شعبيتها والتخوف من خوض انتخابات برلمانية جديدة. وحصلت بالفعل حكومة المشيشي في 2 سبتمبر على ثقة البرلمان بأغلبية 134 صوتًا من إجمالي 217.
3. صراع الرئاسيات: توجد إشكالية أخرى تكمن في تشرذم مجلس النواب، وعدم توافق الكتل بداخله، والصراع بين التيارات الإسلامية والليبرالية، إضافة إلى رفض سياسات رئيس البرلمان راشد الغنوشي.
منذ الانتخابات البرلمانية والرئاسية 2019 دخلت تونس في حالة من الصراع السياسي بين الأحزاب، ورغبت بعض الكتل البرلمانية في سحب الثقة من الغنوشي وعلى رأسها الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسى، لكن باءت جلسة سحب الثقة من الغنوشي بالفشل في 30 يوليو 2020 نتيجة تأييد 97 نائبًا لسحب الثقة، بينما رفض ما يقرب من 16 نائبًا، ويشترط لسحب الثقة موافقة 109 نواب، لكن التصويت يشير إلى وجود عدد كبير داخل البرلمان غير راضٍ عن الرئيس راشد الغنوشي. وتتجدد حاليًا الدعوات مرة أخرى لسحب الثقة من الغنوشي.
ومن الجدير بالملاحظة أن السياق العام لمجلس النواب، وما يحدث من خلافات باستمرار وحالات العنف اللفظي والبدني في بعض الأحيان يشير إلى محدودية الديمقراطية في فكر التيارات والأحزاب السياسية. وقد بلغ الأمر مداه خلال إحدى الجلسات البرلمانية للجنة المرأة في 7 ديسمبر 2020، حيث شهدت معركة بين ائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي، وتعرض النائب عن الكتلة الديمقراطية أنور الشاهد للضرب بواسطة قارورة مما تسبب في جرحه، وتعرض النائبة سامية عبو النائبة عن الكتلة الديمقراطية أيضًا للإغماء، وذلك نتيجة تصريحات مسيئة عن المرأة للنائب عن ائتلاف الكرامة محمد العفاس.
وهناك إشكالية أخرى تتمثل في عدم التوافق بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة، وربما التوتر في العلاقة بين رئيس الحكومة الحالية هشام المشيشي والرئيس قيس سعيد يتضح في تراشق التصريحات الإعلامية بينهما، وقد زاد الخلاف خلال مباحثات تشكيل حكومة المشيشي ورفض الرئيس قيس سعيد المصادقة على تعيينات في الديوان الاستشاري للمشيشي. ومن ناحية أخرى وجود بعض المؤشرات التي توضح حالة التقارب بين رئيس الحكومة المشيشي والكتل ممثلة في النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، والتي تحاول الضغط باتجاه إجراء تعديلات وزارية واستبعاد الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيد، حيث تمت إقالة ثلاثة وزراء؛ وزير الثقافة وليد الزيدي، ووزير البيئة مصطفى العروي، ووزير الداخلية توفيق شرف الدين. وربما يقود الأمر في حال استمرار الصراع الثلاثي بين الرئاسيات المختلفة، إلى حالة من الفوضى السياسية في تونس.
4. أداء الحكومة: تصاعدت الاحتجاجات اعتراضًا على أداء الحكومة في مدينة تطاوين الجنوبية يونيو 2020 نتيجة ارتفاع معدل البطالة إلى 16.2%، إضافة إلى الإضراب عن العمل في ولاية قفصة جنوب غرب تونس وكذلك في مدينة باجة الريفية، بالإضافة إلى الاحتجاجات في قابس والقصرين، واحتجاجات الأطباء نتيجة نقص المواد الطبية، واعتراضًا على ظروف العمل والمطالبة بزيادة الأجور، بالإضافة إلى الاحتجاجات في بلدة سبيطلة في 13 أكتوبر 2020 اعتراضًا على وفاة شاب تحت أنقاض كشك لبيع الصحف والسجائر قامت الشرطة بهدمه فوق رأسه، وهو ما يمثل عبء المواجهة على الحكومة في تونس.
5. المشاركة السياسية: بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 2019، 48.9% وهي منخفضة مقارنة بنسب المشاركة في انتخابات 2011 و2014 التي بلغت 67.7%، وبلغت نسبة الشباب من هم دون سن الرابعة والعشرين 38%، إلا أن استطلاع رأي أُجري في ديسمبر 2020 لمؤسسة سيجما كونساي يشير إلى عزوف 71.1% من التونسيين عن الإفصاح عن نوايا تصويتهم، مما يدلل على حالة من العزوف الكبيرة عن المشاركة في الحياة السياسية. في هذا السياق، يمكن القول إن تونس استطاعت تغيير النظام الاستبدادي بها الذي استمر لأعوام كثيرة لتحقيق الديمقراطية؛ إلا أن المعطيات السابقة تقود إلى ضرورة ترتيب الأولويات، وتوافق الكتل المختلفة في سبيل المصلحة الوطنية للدولة التونسية، وألا يتم الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة من تغيير الحكومات وصراع المصالح وكذلك صراع المؤسسات ومن ثم عودة تونس إلى مربع الصفر.