سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
جو هنريك
تخيل نفسك واحدا من أفراد عينة محدودة العدد، تخضع لتجربة تُجرى في أحد مختبرات علم النفس. وأنك أُعْطيت في إطار هذه التجربة خيطا، وطُلِبَ منك تحديد الخيط المساوي له في الطول، من بين ثلاثة خيوط أخرى.
السيناريو المتخيل يطلب منك والأفراد الآخرين المشاركين في التجربة الإفصاح عن آرائكم في هذا الشأن، واحدا تلو الآخر، بصوت مسموع.
السؤال هنا: هل عندما يأتي دورك، ستفصح عن تقييمك الحقيقي، أم ستنزع للموافقة على الرأي الذي اتفق عليه غالبية من كشفوا عن تقييماتهم قبلك؟ هل تعلم بالمناسبة أن موقفك في هذه الحالة، ربما يرتبط بشكل كبير بالمكان الذي وُلِدت ونشأت فيه؟.
في حقيقة الأمر، تكشف هذه التجربة، التي خلبت لب خبراء علم النفس وأساتذته وطلابه على حد سواء منذ منتصف القرن العشرين، عن أن جانبا لا يستهان به من أفراد العينة، سيتوافقون مع ما سيقوله من سبقوهم، حتى وإن كان ذلك غير دقيق في واقع الأمر.
بل إن التجارب تشير إلى أن الناس ينزعون للإجابة بدقة، بنسبة تفوق 98 في المئة، عندما يكونون بمفردهم، أو حينما يُطلب منهم أن يكونوا أول من يجيب على السؤال المطروح، ما يعني بالتبعية عدم تأثرهم بأي آراء جماعية أخرى، قد لا تتسم بالدقة.
وتثير هذه النتائج سؤالين؛ أولهما يرتبط بالسبب الذي يجعل هذه النتائج مذهلة للغاية لعلماء النفس ودارسيه. أما الثاني فيتعلق بسبب كون الغالبية الساحقة من الدراسات التي تناولت ظاهرة مثل هذه التي تحدثنا عنها في السطور السابقة، أُجريت على الطلاب الأميركيين، رغم حقيقة أن كثيرا من خبراء الاجتماع يقولون – ومنذ أمد بعيد كذلك – إن مواطني الولايات المتحدة تحديدا، يتسمون بأنهم ذوو نزعة فردية واستقلالية. ففي ضوء ذلك، يتساءل البعض عما إذا كان أبناء هذا البلد، يشكلون أفضل نموذج يمكن أن يُمثل طبيعة التركيبة النفسية للإنسان العاقل؟
للإجابة على السؤال الثاني، عكف الباحثون خلال تسعينيات القرن الماضي، على تحليل دراسات أُجريت في 17 دولة مختلفة، واستخدمت الأسلوب التجريبي الذي تناولناه سابقا، لاختبار مدى توافق المرء مع توجهات المحيطين به.
وأظهرت هذه الدراسات أن المشاركين من الولايات المتحدة، كانوا الأقل توائما مع أقرانهم. وأشارت إلى أن المبحوثين من دول مثل فرنسا توافقوا مع نظرائهم بنسبة 20 في المئة، بينما بلغت نسبة التوافق هذه قرابة 50 في المئة في بلدان مثل غانا وفيجي. وبين هاتين النسبتين، اندرجت التجارب التي أُجريت في دول مثل اليابان ولبنان، وكذلك في منطقة هونغ كونغ.
أما السؤال الأول المتعلق بسبب اندهاش الخبراء والطلاب من نتائج التجربة التي أشرنا إليها في بداية هذه السطور، فقد كان موضوعا لدراسة أجرتها كريستين ليغاريه، الخبيرة في علم الإدراك المعرفي في جامعة تكساس في أوستن. وشملت الدراسة مجموعتيْن من البالغين؛ أولاهما تتألف من الأميركيين، بينما تضم الأخرى مواطنين من دولة فانواتو، وهي جزيرة تقع في المحيط الهادي.
وعُرِضَ على أفراد المجموعتين، مقطعان مصوران يُظهر كل منهما طفلا يُجمِّع أجزاء قلادة. وفي كلا المقطعيْن، يشاهد الطفل شخصا يُعلمه طريقة التجميع، قبل أن تُتاح له الفرصة للقيام بذلك بنفسه.
الاختلاف بين المقطعين تمثل في أن الطفل في أحدهما، عكف على تجميع حبات الخرز المُؤلِف للقلادة، بترتيب الألوان نفسه الذي اتبعه الشخص الذي علّمه كيفية القيام بذلك، في حين غيّر الطفل الثاني ترتيب الألوان.
وعندما سُئِلَ المشاركون أي الطفليْن أكثر ذكاء، قال 88 في المئة من أفراد العينة التي تألفت من مواطني فانواتو، إنه ذاك الذي “امتثل للتعليمات”، مقارنة بـ 19 في المئة فقط تبنوا الرأي نفسه من الأميركيين.
وعندما سُئِل الأميركيون، عن أسباب اعتبارهم أن الطفل “غير الممتثل للتعليمات” هو “الأكثر ذكاءً”، قالوا إن ذلك يعود لكونه “مُبْتَكِرا”.
وعندما سئلت المجموعتان، عن أي الطفليْن تصرف على نحو أكثر تهذيبا، رأى 78 في المئة من أفراد المجموعة المُشكلَّة من أبناء فانواتو، أنه ذاك المستجيب للتعليمات، بينما تبنى 44 في المئة فقط من الأميركيين هذه الرؤية.
في الوقت ذاته، اعتبر 56 في المئة من الأميركيين أن الطفليْن تصرفا بقدر متساوٍ من التهذيب. ويؤكد ذلك حقيقة أن وصف شخص ما بأنه “يمتثل للتعليمات ويلتزم بالعادات والتقاليد” يبدو بمثابة إطراء في العديد من بقاع العالم، لكن ليس في الولايات المتحدة.
ومع أن مسألة الامتثال للتعليمات والالتزام بالعادات والتقاليد، لا تشكل أبرز السمات المُمَيّزة للاختلافات القائمة بين الثقافات في العالم، فإنها تمثل ما يمكن أن يُوصف بقمة جبل الجليد في هذا الشأن، بنظر خبراء التحليل النفسي.
اللافت أن قاعدة البيانات التي تهيمن على نظرتنا وفهمنا لعلم النفس الإنساني، مُستمدة بشكل أساسي (بنسبة تناهز 95 في المئة تقريبا) من دراسات أُجريت على مواطني دول غربية، يتسمون بأنهم متعلمون وأثرياء وذوو توجهات ديمقراطية ومن دول صناعية. وتبين أن لهؤلاء الأشخاص سمات مختلفة ومتميزة في نواحٍ عدة، عن نظرائهم في دول أخرى في العالم.
وقد بات معروفا أن المنتمين لهذه المجموعة، يتسمون بأنهم ذوو نزعات فردية مُفرطة، ومهووسون بأنفسهم، وذلك بعكس الكثير من قاطني دول العالم في الوقت الحاضر، وبخلاف غالبية من عاشوا على كوكب الأرض من قبل. لكن هؤلاء الأشخاص – ممن ينزعون للتفكير التحليلي – دائما ما يشعرون بالذنب يثقل كواهلهم. كما أنهم يركزون تفكيرهم على أنفسهم، وصفاتهم وإنجازاتهم وطموحاتهم، أكثر ما يولون اهتمامهم لعلاقاتهم بمن حولهم، أو للأدوار التي يضطلعون بها في مجتمعهم.
بجانب ذلك، ينزع أولئك الأشخاص عند التفكير في شيء ما، إلى بلورة فئات مُجرّدة في أذهانهم، يُنظمون عالمهم في إطارها. كما أنهم يُبسِّطون الظواهر المعقدة، عبر تفكيكها إلى عناصر منفصلة، وأجزاء يعتبرون أن لكل منها سمة تميزه عن غيره، سواء كان الأمر يتعلق بأنماط لجسيمات، أو لشخصيات أو حتى لفيروسات مُسببة لبعض الأمراض.
ورغم مما يبدو من هوس هؤلاء الأشخاص بأنفسهم، فإنهم يميلون في الوقت ذاته إلى الالتزام بقواعد الموضوعية والإنصاف. كما أن بمقدورهم إبداء الثقة في من هم غرباء عنهم، بل والتعاون معهم، ومعاملتهم بشكل نزيه وعادل أيضا. من جهة أخرى، يتسم من يندرجون على هذه القائمة بالصفاقة بعض الشيء، ولا يميلون للتصرف بتحفظ، حتى إذا كانت أنظار الآخرين مسلطة عليهم. لكنهم غالبا يسقطون فريسة للشعور بالذنب، عندما يعجزون عن الارتقاء للمعايير التي يفرضون على أنفسهم الالتزام بها.
فما منشأ هذه الاختلافات في التركيبة النفسية للبشر؟ ولماذا يتسم الأوروبيون و”أحفادهم من الوجهة الثقافية”، ممن يعيشون في بقاع مثل أميركا الشمالية، بأنهم أقل امتثالا للتعليمات والتزاما بالعادات والتقاليد، من سواهم في باقي أنحاء العالم؟
تشير دراسات، يتزايد عددها بمرور الوقت، إلى أن هذه التباينات في التركيبة النفسية للبشر تعود إلى البنى الأُسَرية، التي يسميها خبراء علم الأنثروبولوجيا، “المؤسسات القائمة على صلة القرابة”، والتي كانت غالبية المجتمعات تقوم عليها حتى وقت قريب.
وتتمثل ركائز تلك المؤسسات، في العشائر والأُسَر كبيرة العدد، وكذلك أنماط علاقات اجتماعية، من قبيل المصاهرات بين أبناء العمومة، والزيجات المتعددة، وهي كلها أعراف تنظم الحياة الاجتماعية، وتجعلها أكثر تماسكا. ولا تزال هذه الأشكال من العلاقات الاجتماعية قائمة في عالمنا اليوم، خاصة في المناطق الريفية.
في المقابل، كانت المجتمعات الأوروبية – منذ نهاية العصور الوسطى على الأقل – مؤلفة في الأساس، مما يُعرف بـ “الأُسَرة النواة” أو “الأُسَرة الأولية”، التي تتألف من أبوين وأطفالهما، وهو نمط يتزوج فيه الرجل من امرأة واحدة، ويصفه المؤرخون بـ “نمط الزواج الأوروبي”.
وأفادت الدراسات التحليلية، بأن الأشخاص القادمين من مجتمعات تُبنى على المؤسسات القائمة على صلات القرابة الوثيقة بين المنتمين لها، يُظهرون قدرا أكبر من الامتثال للتعليمات والالتزام بالعادات والتقاليد. ويكونون أقل ميلا للنزعة الفردية، ويحجمون بشكل أكبر عن الثقة بالآخرين.
فضلا عن ذلك، يتبنى هؤلاء في تفكيرهم نظرة كلية للأمور على نحو أكبر، ولا تساورهم مشاعر الذنب كثيرا. وتظهر هذه الأنماط من السلوك، سواء كنا نُجري دراساتنا للمقارنة بين سكان دول مختلفة، أو بين القاطنين في مناطق شتى من الدولة نفسها، أو حتى بين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، ذوي الخلفيات المتنوعة ممن يعيشون في المكان ذاته.
ويلعب الهيكل الأُسري الذي ينشأ البشر في إطاره، دورا رئيسيا في توضيح أسباب تنوع التركيبة النفسية للشعوب المختلفة، في ضوء أن الأسرة تمثل غالبا، أول وأهم مؤسسة يمر بها كل منّا، وهو يمضي في طريقه للتعرف على طبيعة العالم من حوله.
لكن لماذا تتخذ الأُسَر أشكالا مختلفة من مجتمع لآخر. وما السبب الذي جعل للأسر الأوروبية طابعا خاصا في هذا الشأن بحلول أواخر العصور الوسطى؟
للإجابة على هذا السؤال، تتعين الإشارة أولا، إلى أنه بينما كانت هناك عوامل مختلفة تقف وراء التنوع الذي يشهده العالم في أشكال المؤسسات الاجتماعية القائمة فيه على أساس صلة القرابة، تأثر “نمط الزواج الأوروبي” بشكل أساسي بتحولات ذات طابع ديني. فبداية من أواخر حقبة العصور الوسطى، شرع هذا الفرع من الديانة المسيحية الذي تبلور بعد ذلك في شكل المذهب الكاثوليكي، في الإعلان تدريجيا، عن مجموعة من الأوامر والمحظورات المتعلقة بالزواج وتكوين الأسرة.
ففي هذا الإطار، حُظِر مثلا الزواج بين أبناء العمومة وتعدد الزيجات. بل إن الكنيسة الكاثوليكية، اختلفت عن باقي المذاهب المسيحية، في أنها وسعت ببطء نطاق ما تراه بمثابة “سفاح قربى” ليشمل زواج أبناء العمومة من الدرجة السادسة، وذلك بحلول القرن الحادي عشر.
ورغم أن هذه الأوامر والنواهي قوبلت غالبا بمقاومة عنيفة، فقد أدت بوتيرة بطيئة، إلى تفكك المؤسسات الاجتماعية القائمة على علاقات القرابة المعقدة في أوروبا العصور الوسطى ذات الطابع العشائري والقبلي، ليُفسح المجال أمام “الأسر الأولية” لتصبح نموذجا ثقافيا مثاليا ونمطا شائعا في القارة.
وإذا أردت التحقق من صحة فكرة اضطلاع الكنيسة في العصور الوسطى، بدور في حدوث هذا التنوع الذي نراه في عالمنا المعاصر في التركيبة النفسية للبشر، فمن الممكن أن تتبع مدى انتشار الأسقفيات في أوروبا في الفترة ما بين عاميْ 500 إلى 1500 ميلادية، ودراسة نزعات وميول ونمط تصرفات القاطنين في هذه البقاع حاليا. فالدراسات التحليلية التي أُجريت في هذا الصدد، تُظهر أن الأوروبيين الذين ينتمون إلى مناطق تأثرت لوقت أطول بدور الكنيسة الكاثوليكية، ينزعون اليوم لأن يكونوا أقل امتثالا للتعليمات والتزاما بالتقاليد، ويتبنون في وقتنا الحالي نزعة فردية بشكل أكبر، ويُبدون ثقة أكبر في الغرباء عنهم، ويعاملونهم بشكل منصف كذلك.
ويتكرر الأمر نفسه على مستوى العالم، إذ يضعف تأثير المؤسسات الاجتماعية القائمة على صلة القرابة، في المجتمعات التي كانت عرضة لتأثير الكنيسة لفترة أطول. كما يتسم أبناء هذه المجتمعات في الوقت الحاضر، بأنهم متعلمون وأثرياء وذوو توجهات ديمقراطية، ولديهم خصال متميزة من عدة أوجه، وهي الصفات نفسها التي يُعرف بها الغربيون عادة.
وفي الوقت الذي يفضل فيه معظمنا، أن يرون أنهم قادرون على التفكير بعقلانية واستقلالية، فربما لا يدرك الكثيرون منهم أن الطريقة التي نفكر بها ونشعر من خلالها، بما يشمل نزوعنا نحو الامتثال للأوامر أو تفضيلنا للتفسيرات التحليلية، تشكلت بفعل أحداث تاريخية وإرث ثقافي، ومحظورات ومحرمات، تعود إلى قرون مضت أو حتى ألف عام كاملة.
في نهاية المطاف، يمثل فهمنا للكيفية التي شكّل بها التاريخ عقولنا وطريقة تفكيرنا، جانبا من استكشافنا لطبيعة التنوع القائم بيننا، والاحتفاء به كذلك.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر