شهد عام 2020 عددًا من التحولات على مختلف الأصعدة، وبمراجعة التحركات التركية الخارجية والسياسات الداخلية لحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي “أردوغان” يمكن الوصول لنتيجة فحواها أن عام 2020 كان مليئًا بالإخفاقات على مستوى الداخل التركي، والعسكرة المتزايدة على مستوى السياسة الخارجية. وفي هذا الصدد يمكننا استعراض أبرز الملامح العامة لمواقف تركيا وتحركاتها خلال 2020 كمحاولة لفهم كيف أثرت هذه التحركات على التفاعلات الإقليمية والدولية، وذلك فيما يلي:
عام مضطرب
كان عام 2020 عامًا مضطربًا بالنسبة للسياسة الخارجية لتركيا، حيث يمكن وصف مجمل تحركات تركيا خارجيًا بالتوجه نحو استعراض القوة وعسكرة مجمل التفاعلات الخارجية. ويمكن تفسير هذا النمط من منظورين: الأول يتعلق بنمط القيادة وطموحات وتوجهات الرئيس التركي “أردوغان” لاستعادة وإحياء الإرث العثماني، انطلاقًا من فكرة تركيا الكبرى التي تتجاوز حدودها ما هي عليه الآن. فيما يرتبط المنظور الثاني، بالعمل على توظيف تحركات الخارج في تجاوز إخفاقات الداخل وتعبئة الرأي العام عبر تبني نمط الإلهاء، بحيث يتم لفت انتباه المواطن بعيدًا عن تحديات ومشاكل الداخل.
في هذا الإطار، يمكن تقييم سياسة تركيا الخارجية خلال 2020 عبر عدد من الأنماط أو الملامح، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
أولًا- الانغماس الحاد في ليبيا: كانت ليبيا خلال عام 2020 إحدى الساحات الإقليمية التي توغلت فيها تركيا عسكريًا، حيث بدأ العام بموافقة البرلمان التركي رسميًا (2 يناير) على التدخل العسكري المباشر، وذلك بعد نحو شهر من توقيع الاتفاق البحري بين الرئيس التركي ورئيس حكومة الوفاق (نوفمبر 2019). ومنذ ذلك الحين عملت تركيا على تعزيز وبسط نفوذها في ليبيا، كما سعت تركيا إلى إفشال كافة الجهود الرامية للتسوية، وذلك من خلال تقديم الدعم العسكري للميليشيات المسلحة غرب ليبيا، فضلًا عن نقل أكثر من 17 ألف مرتزق سوري لساحات القتال، علاوة على الاستمرار في انتهاك عملية حظر توريد ونقل السلاح إلى ليبيا، وكان آخرها ما حدث في ديسمبر 2020 عندما اعترض الجيش الليبي سفينة تركية محملة بالعتاد الحربي كانت في طريقها لميناء مصراتة. من ناحية أخرى، حاولت تركيا خلال عام 2020 شرعنة وجودها في ليبيا عبر توقيع عدد من الاتفاقيات، ومحاولة فرض أمر واقع عبر التحشيد العسكري والانتشار المكثف عبر قاعدتي الوطية الجوية وقاعدة مصراتة البحرية؛ إلا أن محاولات تركيا لتغيير موازين القوى العسكرية والتقدم تجاه سرت قد اصطدمت بالخط الأحمر الذي رسمته القاهرة في يونيو 2020 والذي وقف حائلًا دون تمدد تركيا تجاه سرت – الجفرة.
ثانيًا- استباحة سلامة الجوار الإقليمي: كان شمال العراق مسرحًا للضربات العسكرية التركية، ففي يونيو 2020 أطلقت تركيا عملية عسكرية موسعة ضد حزب العمال الكردستاني، وتعتبر هذه الهجمات الأكثر شراسة منذ أكثر من 5 سنوات، استخدمت خلالها طائرات إف 16، وطائرات بدون طيار وراجمات صواريخ، فضلًا عن التوغل البري والذي وصل في بعض المناطق لعمق 40 كيلو داخل الأراضي العراقية. وقد اتخذت تركيا من تهديدات العناصر الكردية ذريعة للتمدد وتثبيت الأقدام في شمال العراق، على غرار ما يحدث في الشمال السوري، إذ نشرت الرئاسة التركية في يوليو 2020 خريطة تبرز الانتشار العسكري التركي في نحو 37 نقطة انتشار مختلفة ضمن حدود إقليم كردستان شمال شرق العراق.
من ناحية أخرى، ورغم حالة الهدوء النسبي شمال سوريا في أعقاب إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في مارس 2020، إلا أن وتيرة التصعيد العسكري التركي ارتفعت بشكل غير مسبوق خلال شهر ديسمبر 2020 تجاه عين عيسى، ويحمل هذا التصعيد عددًا من الإشارات من بينها رغبة تركيا في إحكام السيطرة على الطريق الدولي إم 4 ومن ثم سيطرتها على شمال وشرق سوريا، علاوة على ما تمثله عين عيسى من رمزية لدى قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها المعقل الأساسي لهم، وعليه تأتي مساعي تركيا كمحاولة لتضييق الخناق على العناصر الكردية، كما تعمل تركيا -في الوقت ذاته- على توظيف الأداة العسكرية لتوسيع نفوذها قبل وصول الإدارة الأمريكية الجديدة والتي قد تتبنى نهجًا أكثر حزمًا وصلابة تجاه العمليات العسكرية التركية تجاه الأكراد.
ثالثًا- تمدد إضافي جنوب القوقاز: وجدت أنقرة من حرب ناجورنو كاراباخ التي استمرت نحو 44 يومًا قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار (10 نوفمبر 2020) مجالًا للتمدد في ساحة جديدة من العالم، فمنذ اندلاع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان (27 سبتمبر 2020) قدمت تركيا دعمًا عسكريًّا ودبلوماسيًا لأذربيجان، ويعود الدعم المطلق الذي قدمته تركيا لأذربيجان لعدد من الأسباب، من بينها: العداء التاريخي لأرمينيا، علاوة على النعرة القومية التركية، إذ تتحرك تجاه أذربيجان تحت شعار “دولتان وأمة واحدة”، بالإضافة إلى مساعي تركيا لتأمين احتياجاتها من الطاقة، حيث توفر أذربيجان نحو 23.5% من احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي. في سبيل تلك الأهداف انخرطت تركيا عسكريًا في الصراع عبر تزويد أذربيجان بالأسلحة والطائرات المسيرة، ونقل المرتزقة السوريين إلى ساحات القتال. وقد سمح هذا الدعم العسكري بقلب موازين الأمور، إذ تمكنت أذربيجان من استعادة نحو 80% من إجمالي المساحة التي فقدتها خلال هدنة عام 1994، حيث عادت سبع مناطق لسيادة أذربيجان كانت تقع ضمن النفوذ والسيطرة الأرمينية. وقد حقق الدعم العسكري عددًا من المكاسب بالنسبة لتركيا من بينها: أولًا، إيجاد مساحة أوسع للتأثير التركي وإيصال رسالة لدول المجلس التركي الناطقة بالتركية بأن أنقرة حليف موثوق فيه، ولا تتردد في تقديم الدعم الكامل لهذه الدول. ثانيًا، ضمان تواجد عسكري لأنقرة في جنوب القوقاز من خلال نشر قوات لمراقبة عملية وقف إطلاق النار بالاشتراك مع الجانب الروسي. ثالثًا، النفاذ لمنطقة آسيا الصغرى وذلك من خلال إنشاء ممر بري بين أذربيجان وناختشيفان، وهو ما يسمح لتركيا بتعزيز نفوذها الاقتصادي والتجاري والعسكري في المنطقة، خاصة أن هذا الممر ربط بين أذربيجان وتركيا من ناحية، كما أنه يسمح بإنشاء طريق مباشر إلى آسيا الوسطى ومن ثم تحقيق الغاية التركية الكبرى الممثلة في توحيد القومية التركية. ويدل حضور الرئيس التركي “أردوغان” احتفالات النصر التي أقامتها أذربيجان (10 ديسمبر) على حجم المكاسب والعوائد التي حققتها تركيا من الانخراط المباشر في هذا الصراع.
رابعًا- تفعيل لغة البوارج الحربية: تبنت تركيا خلال عام 2020 نهجًا قائمًا على تغليب لغة البوارج الحربية والعسكرية على حساب الحوار، وذلك من خلال استمرار ومواصلة الأعمال العدائية شرق المتوسط من خلال التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لقبرص واليونان. وقد اتضح السلوك التركي الصدامي شرق المتوسط عبر عدد من الملامح من بينها: تكثيف المناورات العسكرية، ورفض اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية كاتفاق ترسيم الحدود بين إيطاليا واليونان (يونيو 2020) أو الاتفاق الموقع بين مصر واليونان (أغسطس 2020)، كما عملت تركيا على مواصلة التحرش بالسفن كقيامها بالتحرش بسفينة فرنسية كانت في إحدى المهام التابعة لحلف الناتو (يونيو 2020)، بالإضافة للاحتكاك البحري مع سفينة يونانية (أغسطس 2020) والذي كاد أن يتحول لحرب بين البلدين لولا التدخل الألماني. كما شهد العام نفسه تأكيد الرغبة التركية في عدم تخليها عن مشروع الوطن الأزرق، وقد اتضح ذلك من خلال نشر الخارجية التركية (يونيو 2020) خريطة تظهر الحقوق الجديدة والمناطق التي تستهدف تركيا مواصلة التنقيب فيها عن الغاز شرق المتوسط. كما اتبعت تركيا نمطًا يقوم على التكتيك والمراوغة من خلال الإعلان عن سحب سفن التنقيب ومن ثم عودتها مرة أخرى، وقد تكرر هذا الأمر في أكثر من مناسبة، خاصة قبل انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي في أكتوبر وديسمبر والتي كانت تستهدف فرض عقوبات على تركيا.
خامسًا- اتساع الفجوة مع الحلفاء: لم تنعكس تحركات تركيا العسكرية على جيرانها فحسب، بل امتد تأثيرها لحلفاء أنقرة، إذ استمرت تركيا خلال عام 2020 بتوسيع الفجوة مع حلفائها في حلف الناتو وداخل أروقة الاتحاد الأوروبي، وقد تسبب خروج تركيا عن المظلة الجماعية لحلف الناتو وشرائها منظومة S400 في وقوع أنقرة تحت طائلة العقوبات الأمريكية (11 ديسمبر) عبر تفعيل إدارة “ترامب” لقانون مكافحة أعداء أمريكا “كاتسا”، ويأتي هذا التصعيد بعد تجميد مشاركة تركيا في إنتاج المقاتلة F35، ويتوقع أن تؤثر هذه العقوبات على الصناعات العسكرية والدفاعية لتركيا، كما قد تؤدي إلى تراجع هذه الصناعات ومن ثم تأخير وصول تركيا لهدفها الأكبر المتمثل في تحقيق الاستقلال وعدم استيراد السلاح بحلول 2023 كما أعلن “أردوغان” من قبل، كما قد تؤثر هذه العقوبات على الوضع الاقتصادي التركي المتأزم، خاصة مع زيادة مبيعات السلاح التركي في السنوات الماضي والتي حققت إيرادات بلغت نحو 3 مليارات دولار عام 2019. من ناحية أخرى، تسببت الخلافات التركية الأوروبية حول عدد من الملفات من بينها التنقيب شرق المتوسط، والتدخل العسكري في ليبيا ناجورنو كاراباخ، وقضية اللاجئين، في توتر العلاقات بين الجانبين، وعليه بدأ عدد من الدول -وفي مقدمتهم فرنسا- في تبني موقف يرمي إلى فرض عقوبات على تركيا لتغيير سلوكها، ورغم أن العقوبات التي أقرتها القمة الأوروبية (10 ديسمبر) على عدد من الشركات العاملة في التنقيب عن الغاز لم تكن على قدر الحدث، إلا أن استمرار تركيا في التصعيد يؤدي إلى عقوبات أكثر حزمًا خلال القمة الأوروبية المقررة في مارس 2021.
سادسًا- التماهي مع الحليف القطري: كانت الدوحة محورًا للسياسة الخارجية والتحركات التركية خلال عام 2020، حيث قام الرئيس التركي بزيارة الدوحة مرتين خلال العام، حيث جاءت الزيارة الخارجية الأولى لأردوغان بعد حالة الإغلاق بسبب جائحة كورونا إلى قطر (يوليو 2020)، قبل أن يعاود الزيارة في أكتوبر من العام ذاته. في الوقت نفسه عقد الطرفان الدورة السادسة للجنة الاستراتيجية العليا بين البلدين (نوفمبر 2020) والتي نتج عنها توقيع نحو 10 اتفاقيات، لتصل بذلك إجمالي الاتفاقيات الموقعة بين البلدين لنحو 62 اتفاقًا. ويمكن تفسير التقارب بين أنقرة والدوحة في إطار مساعي تركيا للإيحاء بوجود تحالف إقليمي تتزعمه في ظل العزلة المفروضة عليها، الأمر ذاته بالنسبة لقطر التي تعاني بفعل المقاطعة العربية. من ناحية أخرى، يحفز المال القطري وحاجة تركيا لإنعاش اقتصادها المتراجع وتمويل مغامرات “أردوغان” الحربية في الخارج لهذا التقارب.
سابعًا- الازدواجية تجاه إسرائيل: في أعقاب توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل والإمارات، حاولت تركيا اللعب على وتر المشاعر والترويج لكونها المدافع الأول وحامي الحقوق الفلسطينية، حيث وصفت الاتفاق بالخيانة، كما أعلن الرئيس التركي أن بلاده تفكر في تعليق العلاقات الدبلوماسية وإغلاق سفارتها في أبو ظبي. إلا أن التطورات اللاحقة كشفت حجم الازدواجية التركية، ففي أعقاب فوز “بايدن” بالانتخابات الأمريكية، بدأت تركيا بمغازلة الجانب الإسرائيلي، وقد تجلى ذلك في عدد من التصريحات التي أعلنها مستشار الشئون الخارجية للرئيس التركي حول الاستعداد للتقارب مع إسرائيل بشكل علني، كما قامت أنقرة بتعيين سفير لها في إسرائيل (ديسمبر 2020) بعد أن قامت بسحبه في مايو 2018 على خلفية واقعة نقل السفارة الأمريكية. تأتي هذه المواقف ضمن مساعي تركيا لتحييد وتجنب ردة الفعل المحتملة والسياسة الحازمة التي قد يتبناها “بايدن” تجاه تركيا. كما أنها تشير إلى مبدأ النفعية والبراجماتية التي تتعامل بها تركيا مع عدد من القضايا.
باختصار، تشكلت السياسة الخارجية والتفاعلات التركية مع محيطها والعالم خلال عام 2020 عبر افتعال الأزمات وإثارة التوترات مع جيرانها وحلفائها، كما عملت على توظيف الأداة العسكرية وتفعيل القوة الصلبة في عدد من الساحات والميادين، لينتهي بها العام في مربع الدول المارقة التي تمثل خطرًا وتهديدًا على الأمن الإقليمي. ونحن على مشارف عام جديد فلا نتوقع أن تغير تركيا من نهجها بشكل جذري، خاصة أن تحركاتها الخارجية تدور في فلك ما يُعرف بمحاولة إحياء واستعادة العثمانية الجديدة، والتمدد في عدد من الساحات بهدف امتلاك مزيد من أوراق المساومة، ومن ثم لعب دور في أغلب القضايا الإقليمية والدولية المثارة.