سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
خالد عكاشة
تبدو تركيا وقد دخلت مبكرًا إلى ماراثون انتخابات ٢٠٢٣، بالنظر إلى خرائط سياسية جديدة يجرى تشكيلها على نحو متسارع ربما منذ سنوات، لكن هذه الأيام يشهد الداخل التركي خطوات تسهم في تثبيت خطوط تلك الخريطة الجديدة، بالأقلام والأحداث الثقيلة التي يصعب محوها حين الوصول إلى لحظة النزال الفعلية، بل هناك مَن يذهب إلى أن النظام الحالي قد لا يتمكن من البقاء حتى هذا التاريخ، على خلفية حزمة المهددات والتعقيدات التي زُج بتركيا فيها، مما دفع البعض لتسارع خطواته بحثًا عن تبكير قسري لتاريخ ٢٠٢٣، أو قدري، رغبة في الرهان على أيهما أقرب.
يعتبر كل من “أحمد داوود أوغلو” و”على باباجان” ورئيس تركيا السابق “عبد الله جول”، أبرز القيادات السابقة لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، فهم من طليعة المؤسسين للحزب، وظلوا يمثلون قيادات الصف الأول بجانب الرئيس الحالي للحزب، الرئيس التركي رجب أردوغان. جميعهم تقريبًا خضعوا لسيناريو واحد، وإن اختلفت مراحل الشقاق، وبوادر الفرقة بين هذه القيادات مع رفيق دربهم الرئيس أردوغان، صاحب السبق في حساب السنين، يجيء “عبد الله جول” الذي اختفى من المشهد السياسي التركي، أو جرى إبعاده لأسباب غامضة تراوح الحديث عنها ما بين الفساد العميق والقرار التنظيمي الداخلي، الذي قرر انتهاء دور جول على المسرح السياسي بشكل نهائي. ثم لحقه كل من “أحمد داوود أوغلو” رئيس الوزراء الأسبق، والمنظر الكبير لاستراتيجية وسياسة الدولة التركية الخارجية المعروفة بسياسة “صفر مشاكل”. ووزير الاقتصاد ورجل الأعمال الشهير “على باباجان” المقرب من أوساط الاقتصاد الأوروبية والعالمية.
ربما تعكس مواقف الأخيرين على وجه التحديد، باعتبارهما حرصا على احتفاظهما بمواضع أقدامهما على المسرح السياسي، بل وذهبا إلى أن يناصبا أردوغان ودائرة حكمه الحالية العداء الصريح، الذي يتجلى هذه الأيام بشكل كبير وعلى مختلف أصعدة الملفات المثارة حول نظام الحكم التركي في الداخل والخارج أيضًا. أسباب الخلاف الفعلي بين الصديقين السابقين، «داوود أوغلو» والرئيس أردوغان ظلت لسنوات مثارًا للتساؤلات، فداخل طيات تلك العلاقة وصل أوغلو لتقلد منصب وزارة الخارجية، ومن ثَم رئاسة الحزب والحكومة لسنوات، قبل أن يصل الخلاف لمرحلة القطيعة، بل وتراشق الاتهامات العلنية. هناك من كان حاضرًا لكواليس هذه العلاقة وتحدث بأن قضية “أكادميو السلام” هي من أبرز أسباب الخلاف بين أوغلو والرئيس أردوغان، فإن “أكادميو السلام” هي مجموعة من الأكاديميين الأكراد والأتراك، كانوا قد وقعوا في العام ٢٠١٥ على عريضة، طالبوا فيها الحكومة التركية حينذاك- بزعامة حزب العدالة والتنمية وأردوغان- باستئناف مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني الذي يعده أردوغان والموقف الرسمي للدولة “كيانًا إرهابيًا” لتسوية الأزمة الكردية. لكن أوغلو وجد في هذا السياق؛ أن أردوغان أطاح بطاولة مفاوضات السلام الكردي الذي كان قابلًا للحياة، بعد أن اتجه المواطنون الأكراد إلى دعم حزب “الشعوب الديمقراطي” بدلًا من حزب “العدالة والتنمية”.
بالطبع هذه الواقعة التي قد تمثل شرارة الافتراق الأولى، لكن الخلاف الأعمق بين الرجلين يشمل غالبية التوجهات التركية الحالية، وفى ملفات انخراطها المباشر على وجه الخصوص. ففي الوقت الذي يؤمن فيه بالمنهج اللا صدامي مسئول الدبلوماسية السابق “داوود أوغلو”، صار منطقيًا ولزامًا أن ينتقد بشدة تحركات بلاده في الملفات الشائكة حاليًا، التي تأتى على رأسها أزمة شرق المتوسط، فهو يرى أن تركيا تجازف بشدة بالدخول في مواجهة عسكرية في شرق المتوسط، لأنها على هذا النحو تعطى للقوة أولوية على الدبلوماسية. هو لم يلغ مطلقًا دوافع وأسباب التحركات في “المتوسط”، على فرضية أن أنقرة لديها تظلمات حقيقية بشأن مطالب اليونان، بالأحقية في عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة في البحر، وصولًا إلى ساحل تركيا على البحر المتوسط. لكن يظل بالنسبة له النهج الذي يتبعه أردوغان وينطوي على مجازفات خطيرة. كما يجد رئيس الحكومة التركية الأسبق ميلًا واضحًا إلى الاستبداد، في ظل نظام الرئاسة التنفيذية الجديد في تركيا، حيث اتهم أكثر من مرة بصورة علنية حادة الحكومة بإساءة إدارة سلسلة من التحديات، من بينها الاقتصاد وتفشى فيروس كورونا والتوتر المتصاعد في شرق البحر المتوسط.
الأسبوع الماضي تناقلت كل وسائل الإعلام التركية والعالمية، الكلمة القاسية التي ألقاها “داوود أوغلو” في وجه أردوغان، عندما شن عليه هجومًا حادًا في مؤتمر الحزب الذي أسسه أوغلو «حزب مستقبل» في مدينة «مرسين»، قال فيها إن: “الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وعائلته، أكبر مصيبة حلت على تركيا”. حيث اعتبر أوغلو أن حرص أردوغان على البقاء في الحكم؛ جعله لا يتردد في عقد التحالفات السياسية غير الطبيعية، مبدئيًا كتحالفه مع حزب قومي وآخر يساري هما “الحركة القومية” بقيادة دولت بهجلي، و”حزب الوطن” بقيادة دوغو برينجك، فضلًا عما ذكر في مؤتمر الحزب من أن أردوغان أقام تحالفًا حتى مع انقلابيى نهاية تسعينيات القرن الماضي. أما عن دعوة أردوغان الأتراك للصبر على المصاعب التي يمرون بها، فيرى أوغلو وأعضاء حزبه أن الشعب التركي سيصبر. ولكنهم طرحوا عديدًا من الأسئلة؛ على أي مصيبة سيصبرون؟ ومن هم المتسببون في هذه المصيبة؟ إذا كان المقصود الصبر على الفقر والبطالة والتضخم والفساد والظلم، فمن كان سببًا في كل ذلك يا ترى؟ وهو ما دفع أوغلو للإجابة؛ بأنه: «أنتم أنفسكم المصيبة. أكبر مصيبة حلت على هذا الشعب هو ذلك النظام، الذي حول البلاد إلى شركة عائلية كارثية”.
أما السياسي والاقتصادي التركي والمسئول الحكومي السابق “على باباجان”، فقد ذهب لأبعد من ذلك كثيرًا، حيث اعتبر أن الحكومة الحالية في تركيا لن تتمكن من خلق البيئة الآمنة والمستقرة في البلاد، وأن النظام الحالي لن يستطيع الصمود حتى الانتخابات المقبلة في عام ٢٠٢٣، فالبنية الاقتصادية والمالية من وجهة نظره تدهورت كثيرًا، ولم يعد بحوزة السلطة الحاكمة أي موارد بالوقت الراهن. ففي حين أنفقت السلطة الحاكمة الصناديق الاحتياطية المخصصة للأزمات، لتجد دولة تركيا نفسها تواجه مشكلة كبيرة حقًا، عندما قامت هيئة الإحصاء التركية بذكر أن التضخم النقدي في تركيا سجل خلال شهر سبتمبر الماضي ١١.٧٥٪ فقط، شككت أوساط الأكاديميين وخبراء الجهاز المصرفي والمعارضة بالطبع في أرقام بياناتها، ووصفها الجميع بالمزيفة. البنك المركزي التركي برر أن معدلات التضخم المرتفعة في تركيا، نابعة من ارتفاع أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة التي فقدت ٢٥٪ من قيمتها، منذ مطلع العام الحالي ٢٠٢٠. حزب باباجان «ديمقراطية وتقدم» يرى أنه وحزب أوغلو «المستقبل» لم يحققا أي نسب حاسمة في الانتخابات التي جرت مؤخرًا، لكن ما حققه الحزبان من تقويض للدعم الذي يحظى به حزب «العدالة والتنمية» يجعل سعى أردوغان لكسب الأغلبية في الانتخابات المقررة عام ٢٠٢٣ أكثر صعوبة.
على جانب آخر ترى قواعد حزب “العدالة والتنمية”؛ أن نوابًا وقياديين من الحزب ما زالوا غير مقتنعين بجدوى التحالف، مع حزب “الحركة القومية” اليميني المتطرف بزعامة “دولت بهجلي”، حيث كثرت انتقادات قواعد الحزب لهذا التحالف سيئ السمعة، مع ظهور عديد من المشكلات والخلافات العميقة بين قواعد وقيادات الحزبين في أكثر من ولاية تركية. فرغم تجاوز هذا التحالف أكبر العقبات الانتخابية سابقًا عبر تعديل الدستور وقضية الانتخابات الرئاسية، فإنه تعثر سريعًا بعدها في جولة انتخابات البلدية، التي خسر فيها كبرى المدن رغم تقدمه في مدن أخرى، ما سبب نكسة قوية وتراجعًا ملحوظًا في شعبية تحالف السلطة، الذى صار اليوم محل تهديد كبير بعد انهيار سمعة قدرات مرشحيه على التفاعل مع القضايا الضاغطة، أهمها بالطبع الاقتصاد ومكافحة الفساد الحكومي والعائلي، فضلًا عن القصور الحاد في القدرة على مواجهة المشكلات الإقليمية، التي صارت تلقى بظلالها على نحو واسع داخل خريطة التحالفات الحزبية، لا سيما وهى محل انتقاد يتنامى باطراد ويطال الرئيس أردوغان ودائرة حكمه وحلفاءه المقربين.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر