سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
في 12 أبريل، قدم وزير الداخلية التركي سليمان صويلو استقالته، بعد يوم من الإعلان المفاجئ عن تطبيق عزل شامل في البلاد بسبب وباء “كوفيد-19″، في قرار أدى إلى احتشاد السكان المذعورين في المتاجر لشراء المؤن. الوزير نشر بيانًا قال فيه: “أرجو أن تعذرني أمتي التي لم أرد أن أسبب لها الضرر، ورئيسنا الذي سأكون وفيًا له طوال حياتي. أغادر منصب وزير الداخلية الذي كان لي شرف توليه”. ونقلت وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية عن الوزير قوله إن “مسؤولية تطبيق حظر التجول لمنع الوباء في هذه المرحلة التي تدار بجهد ودقة عائدة لي”.
وجاء إعلان حظر التجول قبل ساعتين فقط من منتصف ليل الجمعة 10 أبريل/ السبت 11 أبريل، ما دفع آلاف الأشخاص للاندفاع إلى متاجر الأغذية والبقالة، غير عابئين بإجراءات مكافحة الفيروس. ولا يتم السماح بالاستمرار في النشاط إلا للمخابز والصيدليات وبعض محطات التزود بالوقود، خلال فترة الحظر. واعترف “صويلو” بأنه لم يتوقع حالة الشراء المذعور، لكنه أضاف أنه لم يعتقد أن التجمعات ستشكل مساء الجمعة مشكلة.
ولم تمضِ ساعات حتى قالت الرئاسة التركية إن الرئيس رجب طيب أردوغان رفض قبول استقالة وزير الداخلية. وقال المكتب الإعلامي للرئاسة “الرئيس لم يقبل استقالة وزير داخليتنا وسيواصل القيام بمهامه”. وكانت المعارضة قد انتقدت الحكومة لقرارها المفاجئ بفرض الحظر على 31 مدينة بالبلاد، وقالت إنه أدى إلى مزيد من الارتباك.
التداعيات السياسية الناجمة عن استقالة “صويلو” ثم رفضها، أزاحت الستار عن توترات بين الطبقة العليا في حزب العدالة والتنمية الحاكم. باعتباره عضوًا بارزًا في حكومة أردوغان، ينظر بعض أعضاء الحزب إلى وزير الداخلية على أنه منافس محتمل لصهر الرئيس صاحب النفوذ الواسع، وزير المالية بيرات البيرق. وتتزايد التفسيرات حول الأسباب التي دفعت الوزير لتقديم استقالته، ففي الوقت الذي يعتبرها البعض مجرد مسرحية من الرئيس، يؤكد البعض أنها جزء من الصراع بين وزير الداخلية وصهر أردوغان ووزير المالية بيرات البيرق.
الصهر والوزير.. عن قرب
قبل الحديث عن الصراع الدائر بين صهر أردوغان ووزير داخليته، سنلقي الضوء على الرجلين عن قرب، لنعرف مدى قوتهما وتأثيرهما في نظام الرئيس التركي، وهو ما يؤكد أن الصراع الدائر الآن ليس على النفوذ – الموجود بالفعل – بل على خلافة الرجل الكبير.
حتى وقت قريب، كان كثير من المتابعين والمحللين يصنفون “البيرق” (42 عامًا) على أنه الرجل الثاني في تركيا، وخليفة أردوغان مستقبلاً، وأحد الأشخاص الأوسع نفوذًا في البلاد، وهو متزوج من إسراء أردوغان، الابنة البكر للرئيس التركي. ويعرف عن أردوغان قربه من عائلة البيرق، وبخاصة صادق، والد بيرات، وهو صحافي سابق وسياسي ينتمي إلى التيار الإسلامي، ومن الأصدقاء المقربين للرئيس التركي.
البيرق ليس صهر أردوغان فقط، بل واحد من أقرب الأشخاص إليه، ويحظى بثقة كبيرة جدًا من أردوغان، فهو يرافق الرئيس في تنقلاته المهمة، ويشارك في الاجتماعات الحساسة. وفي مؤشر يدل على مدى التقارب بين الرجلين، كان البيرق يمضي عطلة مع أردوغان في جنوب غربي تركيا عندما حدثت محاولة الانقلاب ليل 15 يوليو، ورافق أردوغان في الطائرة التي نقلت الرئيس إلى إسطنبول في رحلة محفوفة بالمخاطر، بالتزامن مع تحليق طائرات منفذي محاولة الانقلاب في الأجواء التركية. وكان البيرق، وزير الطاقة السابق، إلى جانب أردوغان، بعد أن حطت طائرته في مطار أتاتورك، حيث أعلن الرئيس في مؤتمر صحافي فشل الانقلاب.
وكان أردوغان يود لو أن أحد أبنائه الأربعة يخلفه في الحكم، لكنه لم يهيئ بعد لتوريث أو ترشيح أي منهم، لكنه – بالتأكيد – دعم شخصًا آخر وساعده على الوصول إلى مكانة عليا في السياسة التركية: بيرات البيرق، زوج إسراء.
كان هذا قبل بزوغ نجم سليمان صويلو (50 عامًا)، الذي على ما يبدو زاحم البيرق في المكانة لدى الرئيس، بل وفي مستقبل خلافته أيضًا. مع صعود نجمه وظهوره كشخصية سياسية بارزة في البلاد، انتقل “صويلو” إلى حزب العدالة والتنمية بدعوة من أردوغان، قبل أن يصبح عضوًا في البرلمان التركي عن الحزب عن ولاية طرابزون عام 2015 وفي الانتخابات الأخيرة انتخب عن الحزب أيضًا، ولكن في ولاية إسطنبول.
تولى “صويلو” منصب وزير الداخلية في أغسطس 2016، عقب شهر من محاولة الانقلاب التي كانت تهدف إلى إطاحة أردوغان. وأشرف الرجل المعروف بالصرامة على عمليات “التطهير الضخمة”، في أعقاب محاولة الانقلاب التي تمَّ خلالها اعتقال عشرات الآلاف، من بينهم صحفيون وشخصيات معارضة موالية للأكراد. كما أبدى “صويلو” قبضة حديدية في الحرب على تنظيم “غولن”، وأثبت ولاءً كبيرًا لأردوغان في تحقيق مطلبه بالقضاء على التنظيم في بنية الوزارة والبلاد بشكل عام، وهو ما جعله محل ثقة وتقدير من قبل أردوغان. ووصفت جماعات حقوق الإنسان عملية التطهير بأنها عشوائية وغير متناسبة وتستهدف خنق المعارضة، لكن حملة “صويلو” عززت مكانته داخل الحزب وبين قاعدته الداعمة.
كان الوزير “صويلو” قد اتخذ قراراتٍ مثيرةً للجدل، بدءًا من الممارسات المناقضة للدستور في أثناء حالة الطوارئ، والمتمثلة في إقالة رؤساء البلديات المنتخبة، وتعيين الأمناء بدلاً منهم، واتهام قادة أحزاب المعارضة الديمقراطية بالتعاون مع المنظمات الإرهابية، ومنع التبرعات للإدارات المحلية خلال الآونة الأخيرة في غضون أزمة كورونا.
أيضًا، لا ننسى التصريح الشهير لوزير الداخلية، قبل عام تقريبًا، عندما قال إن أجهزة الأمن تعتقل كل من ينتقد بلاده من خارجها وأنها ستقبض على السياح منهم فور قدومهم للمدن التركيا. وأضاف: “لا تفتكروا أن الأمر انتهى هكذا، الذين يعارضون تركيا في الخارج ثم يخططون لقضاء عطلاتهم في أنطاليا ومدن البحر المتوسط سيعتقلون في المطارات، في الوقت الذي تعد فيه الشرطة أكوام من الملفات ضدهم، أعتقد بعدها لن يكون في الدنيا من يعادينا أساسًا، لا يوجد الآن من يستطيع…اعلم هذا”.
خلاف الصهر والوزير
مع تزايد شعبيته وقوته داخل الدولة، تزايد نفوذ “صويلو” الذي يتمتع بكاريزما قيادية داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبات أحد أبرز ثلاثة أقطاب داخل الحزب تتنافس على النفوذ داخله، وهم جناح البيرق الذي يستغل علاقة المصاهرة والقوة الإعلامية والمصالح التي تربط عائلته بأردوغان، و”صويلو” المدعوم من التيار القومي، ووزير العدل عبدالحميد غل الذي يحظى برعاية أردوغان.
ووصل الأمر للحديث عن منافسة “صويلو” على رئاسة الحزب مستقبلاً في حال تخلى أردوغان عن رئاسته. وبات شائعًا في أروقة الحزب مصطلح “صويلو جولار” في إشارة إلى معسكر وزير الداخلية سليمان صويلو، و”بيرات شيلار” في إشارة إلى معسكر بيرات البيرق، حيث يقود الرجلان ولو بشكل غير معلن اصطفافًا كبيرًا داخل أروقة الحزب.
وتؤكد تقارير مختلفة من داخل الحزب، أن “صويلو” على خلاف كبير مع البيرق صهر الرئيس التركي، وكشفت وسائل إعلام تركية عام 2018 عن أن “صويلو” قدم استقالته لأردوغان على خلفية خلافه مع البيرق، لكن الأخير رفض الاستقالة وحاول السيطرة على الخلافات بينهما.
وبينما يتمتع البيرق بإمبراطورية اقتصادية تعود لعائلته الثرية يدعمها إمبراطورية إعلامية تعتبر الأكبر في البلاد حاليًا، إلى جانب نسبه مع الرئيس الذي يرفع من أسهمه داخل الحزب، كان يعول “صويلو” على مكانته الجماهيرية التي تصاعدت بشكل لافت بفعل نجاحه في قيادة وزارة الداخلية.
وفي حين يتفاخر “صويلو” بنجاحه في قيادة وزارة الداخلية، وبخطاب قومي عزز شعبيته بشكل لافت، يواجه البيرق صعوبات بالغة في إقناع الشارع التركي بنجاحه في قيادة وزارة الخزانة والمالية بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وما رافقها من انهيار كبير في قيمة العملة التركية، وارتفاع نسبة التضخم والبطالة والأسعار بشكل كبير.
الحزب الحاكم يتصدع
ليس من باب المبالغة القول إن الخلافات والصراع بين الصهر والوزير مثلت ضربة جديدة وقاصمة للحزب الحاكم الذي يعاني أصلاً من الضربات المتلاحقة. لا يخفى أنّ حزب العدالة والتنمية يرزح تحت صراعات الأجنحة والتيارات فيه، وكلُّ تيّار يسعى للهيمنة على القيادة فيه وإقصاء التيارات الأخرى، كتيّار سليمان صويلو الذي يبدو على خلاف معلن مع تيار البيرق، والذي يحاول اكتساب الأفضلية بحكم قرابته لأردوغان، ناهيك عن تململ في القاعدة، وأحاديث عن انشقاقات في صفوفها للانضمام إلى أحزاب جديدة خرجت من رحم العدالة والتنمية، وبدأت بمنافسته، كحزب الديمقراطية والتقدم الذي يتزعمه وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، وحزب المستقبل الذي يترأسه أحمد داود أوغلو.
وكشفت استقالة وزير الداخلية التركي التي رفضها أردوغان عن توترات في حزب العدالة والتنمية الحاكم، وعن تخبّط في إدارة الحكومة للأزمة التي تسبب بها فيروس كورونا، وما تنجم عنها من تداعيات وتأثيرات خطيرة من شأنها تعميق جراحها أكثر.
أظهرت استقالة “صويلو” التي وصفت بأنّها ضارة لحزب العدالة والتنمية، الارتباكَ الذي يمرّ به الحزب في هذه الفترة، والذعر الذي يعيشه جرّاء الفشل حتى الآن في مواجهة أزمة كورونا، وما يمكن أن ينجم عنها في المستقبل القريب، ولا سيما أنّ هناك سخطًا شعبيًا متزايدًا على سياسة إدارته للأزمة.
ومع تراجع قيمة الليرة التركية، وتفاقم العجز الاقتصادي، يبدو أن تصريحات البيرق ووعوده وتأكيداته أن تركيا ستتجاوز الأزمة، وأنّ الاقتصاد التركي قوي ويتعافى بسرعة، وأنّها لم تلجأ لأي مؤسسة أو منظمة دولية خلال إدارتها للمرحلة الحالية من وباء فيروس كورونا، لا تلقى أذنًا صاغية لدى الأسواق التي تئنُّ تحت وقع الضغوطات المتراكمة.
وبين معادلة الأمن والاقتصاد، وعلى وقع تسارع الأزمات، يترنّح حزب العدالة والتنمية الذي يمضي في سياسة ضبابية مشوّشة، ويتخبّط في أساليب المعالجة والمواجهة، ويحاول ترتيب بيته الداخليّ قبل أن يتعرّض لمزيد من الهزائم والانتكاسات.
أصبح من الجليّ أن حزب أردوغان بات في عين العاصفة، ومقبل على انهيار أكبر في المرحلة القادمة، وأنّ صراع التيارات المتباينة، ذات المصالح المتناقضة، قد تعجّل بتفتيه أكثر، بحسب ما يؤكّد محللون، ومن شأن ذلك أن يكون القشة التي تقصم ظهره، وتضع نقطة النهاية لرحلته في السلطة مدّة عقدين من الزمن.
لقد انفرط عقد حزب العدالة والتنمية الحاكم وبدأت حباته تتساقط، بعد تقديم قادة بارزين في الحزب استقالاتهم، واحدًا تلو الآخر، مثل بشير أتالاي، ونهاد أرقون، وسعد الله أرقين، ولا ننسى أيضًا الثلاثي الأهم: عبدالله غل، وأحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، الذين يعتبرون أبرز مؤسسي الحزب الحاكم.
حزب العدالة والتنمية تشكلت فيه 3 أجنحة: جناح البيرق، و”صويلو” المدعوم من التيار القومي، ووزير العدل عبدالحميد غل.
والملاحظ أن الأجنحة الثلاثة السابقة لا تملك مستقبلاً واضحًا، كما أن فرصها لا تقترب مطلقًا من نفس فرص حزب العدالة والتنمية خلال العقد الأول من وصوله للحكم. إن خسارة الحزب للعقول المفكرة التي صنعت شعبيته في تركيا، وعلى رأسهم الثلاثي: عبدالله غل، وداود أوغلو، وعلي باباجان، قلصت من فرص الحزب في المستقبل، وبالطبع لا يمكن المقارنة بين الثلاثي المذكور، وثلاثي الأجنحة: البيرق وصويلو وعبدالحميد غل.
البدائل المتاحة أمام حزب العدالة والتنمية لا يوجد بينها فوارق كبرى، وهي في مجملها ضعيفة وغير مقنعة، ولكل منها سلبيات متعددة حاضرة في ذهن الشعب التركي ولا يزال يعاني منها. فالبيرق صاحب تدمير الاقتصاد وانهيار الليرة وارتفاع التضخم. أمَّا صويلو فهو يمثل العصا الحديدة التي قمعت الأتراك وحولت تركيا لدولة استبدادية لا تقبل الرأي الآخر. في حين البديل الثالث لا يملك أي مؤهلات إلا دعم أردوغان له كمحاولة لوزن الأمور في الحزب وجمع الرافضين للجناحين السابقين.
وفيخطوة من المؤكد أنها ستزيد من تصدعات الحزب الحاكم في تركيا، وبعد أنباء عن توقع تعديل وزاري، عقب تصاعد خلافات البيرق، ووزير الداخلية، برز وجه واسم آخر.
الاسم الجديد هو سلجوق بيرقدار، صهر ثانٍ لأردوغان (زوج ابنته سمية)، انتشرت أخيرًا أنباء بشأنه مفادها أن هناك ضغوطًا مستميتة لتوليه حقيبة الصناعة والتكنولوجيا، بدلاً من الوزير الحالي مصطفى فارانك.
وكشف مسؤولون سابقون بالحزب عن نية أردوغان، تعيين صهره الثاني سلجوق بيرقدار وزيرًا في وقت لاحق، بعد احتواء أزمة فيروس كورونا المستجد في البلاد. وفي حال تولى بيرقدار المنصب يصبح زميلاً للصهر الأول البيرق الذي يتولى وزارة المالية منذ سنوات.
ويشغل بيرقدار الحاصل على شهادة من جامعة إسطنبول قبل أن ينال “دكتوراه” من معهد “جورجيا للتكنولوجيا” في الولايات المتحدة، منصب مسؤول تقني في شركة “بايكر ماكينا” التي أنشأها والده، لصنع الطائرات المسيرة.
وسبق لهذه الشركة أن تولت عدة مشاريع لتطوير الأنظمة الدفاعية لحساب الحكومة التركية وبتمويل منها، بناء على أوامر من أردوغان شخصيًا.
ويتشابه اسم بيرقدار مع أسرة ثرية عريقة في تركيا، لكنه لا يمت لها بأي صلة وتعود ثروة والده وشركاته إلى صلة الصداقة التي تربطه بالرئيس التركي شخصيًا، الذي يوجه وزارة الدفاع بالتعاقد مع شركته، التي تحوم شكوك بأن أردوغان شريك فيها أو يمتلكها ويديرها والد صهره لصالحه.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “بيرجون” التركية في وقت سابق تقريرًا تحت عنوان: “الحرب تصنع من الفقراء شهداء وتصنع من آخرين أثرياء”، تطرقت فيه إلى ضخ وزارة الدفاع التركية 36 مليون دولار في شركة صهر الرئيس. كما نقلت الصحيفة عن وزير الدفاع التركي السابق، فكري إيشيك، إقراره ضمنيًا بتحويل 36 مليونًا و77 ألف دولار إلى شركة “بيرقدار” التقنية لشراء 6 طائرات مسيرة.
فهل يحشد أردوغان أسلحته (عبر عائلته) لمواجهة نفوذ وزير الداخلية المتزايد؟ وهل الاستعانة بصهر آخر تمهد للإعلان عن تعيين الصهر الأول رئيسًا للحزب؟ إن أردوغان لن يسلّم “صويلو” رئاسة الحزب لوجود خلافات أيديولوجية بينهما، خاصة أنه مقرّب من زعيم حزب الحركة القومية “دولت بهجلي”.
أردوغان رفض استقالة “صويلو” بناءً على إرشادات مستشاريه التي تضمنت تعديلات وزارية سيجريها الرئيس التركي عقب الانتهاء من أزمة كورونا في البلاد. فهل سيطيح بوزير الداخلية من الحكومة في هذا التعديل الوزاري؟ خاصة أنه من المؤكد أن “صويلو” سيقدم استقالته من الحزب حال تسمية البيرق رئيسًا له!
استقالة أم مسرحية؟
المحاولات المتعددة لفهم تبعات واقعة استقالة “صويلو” ثم رفضها، تطرقت أيضًا إلى احتمال بالغ الأهمية، وهو أن الأمر برمته كان مخططًا له، وأن الاستقالة كانت شكلية، أو مسرحية أخرى على غرار محاولة الانقلاب الفاشل الذي مكن أردوغان من جميع مفاصل الدولة التي استعصت عليه خلال 14 عامًا.
لقد حاول “صويلو” التغطية على فشل أردوغان لأنه هو من أصدر تعليمات بفرض حظر تجول مفاجئ، ما تسبب في فوضى عارمة. نعم، الهدف الرئيسي من مسرحية الاستقالة هو التستر على أردوغان الذي أعطى قرار الجمعة السوداء. الاستقالة شكلية، هدفها أن يتحمل المسؤولية بدلاً من أردوغان الذي لم يقبل الاستقالة.
لقد ورط الحجر الفوضوي النظام السياسي، إن ارتفاع الحمى في أنحاء تركيا جعل المشهد يبدو دراميًا بسبب تفشي فيروس كورونا، ورغم كل ذلك، أردوغان رفض استقالة سليمان صويلو رغم تحمله مسؤولية قرار “الحجر الفوضوي”.. فهل كانت استقالة وزير الداخلية مسرحية هزلية للتغطية على الفشل في احتواء فيروس كورونا؟
الوزير يعود أقوى
استقالة وزير الداخلية تبلور الصراع بين ما يسمى في تركيا مجموعة البجع/ باليكان التابعة لصهر أردوغان، ووزير الداخلية الذي يتمتع بعلاقات وطيدة مع كل من حزب الحركة القومية وتنظيم أرجنكون/ الدولة العميقة، حليفي أردوغان. مجموعة البجع التابعة لصهر أردوغان تنشر الادعاء أن “صويلو” استقال من منصبه بعلم أردوغان، في حين تسوق اللجان الإلكترونية ووسائل الإعلام التابعة للوزير المزاعم القائلة إن أردوغان لم يقبل الاستقالة.. (وهذا ما تمَّ تداوله قبل إعلان الرفض الرسمي للاستقالة).
ولعل الأغرب من تلك الليلة ما نشره بعض الصحفيين على مواقع التواصل، لفيديو يظهر صهر أردوغان وهو يدفع بكتفه “صويلو”، وينظر في وجهه دون أن يوجه أي اعتذار، في حين لم يكن أمام “صويلو” سوى الابتسام. وفي حين لم يتضح تاريخ الفيديو، إلا أنه إشارة عابرة إلى وجود “نفور” واضح بين الرجلين.
في هذا الإطار، كشف مسؤول في حزب العدالة والتنمية أنه “ليس سرًا الآن أن هناك صراعًا وبعض الخلافات بين البيرق و”صويلو”. وكانت استقالة الأخير انفجارًا لهذه التراكمات”. وقال المسؤول إن عرضه تحمل اللوم بمفرده – على الرغم من أن أردوغان وافق على قرار الإغلاق المفاجئ – ومن ثم الفوز بتأييد عام وعلني من الرئيس، قد عزز من مكانة “صويلو”.
وأضاف مسؤول حزب العدالة والتنمية أنه “بغض النظر عما يقوله أي شخص، لديه السلطة وتمَّ تعزيز تلك السلطة بالفعل مع قضية الاستقالة”. وقال مسؤول آخر في الحزب إن خسارة “صويلو”، المشهور بحربه الشرسة ضد معارضي النظام، كانت ستوجه ضربة لحزب العدالة والتنمية. وأضاف أن “صويلو واحد من مراكز السلطة المهمة داخل الحزب… ومعركة السلطة داخل الحزب تغيرت منذ يوم الأحد (يوم الاستقالة). لكن هذه الخلافات أضرت بصورة حزب العدالة والتنمية الحاكم.
بات واضحًا أن “صويلو” يتسلح بشعبيته المتصاعدة في الشارع التركي وأنه حقق ما أراد من خلال تقديم استقالته وعدم قبولها، حيث نشرت قرابة مليون تغريدة على موقع “تويتر” خلال ساعة واحدة فقط تطالب الرئيس بعدم قبول الاستقالة، وخرج أنصاره للتصفيق على الشرفات في مناطق واسعة من عموم البلاد عقب رفض الرئيس للاستقالة، في مشهد مغاير تمامًا لوزير المواصلات والبنية التحتية التركي الذي أقاله أردوغان بصمت الشهر الماضي دون أي ضجيج رسمي أو شعبي.
هذه الشعبية المتزايدة لـ”صويلو” دفعت الرئيس التركي للخشية من أن تؤدي استقالته من الوزارة للتمهيد لاستقالته من حزب العدالة والتنمية الذي عانى في الأشهر الأخيرة من الانشقاقات بعد أن ابتعد عنه ثلاثة من أبرز القيادات السابقة، وإعلان رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو تشكيل حزب سياسي جديد، قبيل إعلان وزير الاقتصاد السابق علي باباجان أيضًا تأسيس حزب سياسي معارض للحزب الحاكم، وبالتالي فإن آخر ما يحتاجه أردوغان هو حصول انشقاق جديد يدفع “صويلو” لتشكيل حزب سياسي ثالث من رحم العدالة والتنمية، لكن الثمن كان إعادة “صويلو” ليكون أقوى بكثير من السابق في الشارع والحزب والحكومة.
“صويلو” حاول إظهار حسه الأخلاقي من خلال إعلانه الاستقالة الذي يتنافى مع الممارسات التي قام بها طيلة سنوات من وجوده على رأس وزارة الداخلية، وكان فيها بمثابة سيف أردوغان المسلطة على رقاب خصومه من مختلف التيارات السياسية. الاستقالة تعود إلى استشعار “صويلو” الخطر، وأنه قد يكون كبش الفداء القادم لأردوغان، بعد وزير النقل والاتصالات جاهد طورهان الذي عزله من منصبه أخيرًا، كي يتملص من مسؤولية الفشل في إدارة الأزمة المتفاقمة، ويلقي بها على كاهله، لإنقاذ نفسه من أي مساءلة في ظل ازدياد النقد والمعارضة والتململ في الشارع التركي، ووسط قاعدته الشعبية كذلك.
“صويلو” أوحى من خلال الاستقالة بأنه يضحي بنفسه من أجل إنقاذ أردوغان من ورطته مع تصاعد الأصوات المنددة بسياساته في التعامل مع أزمة كورونا، لكنه في الحقيقة قام بمناورة سياسية لابتزاز أردوغان بطريقة مختلفة، لدفعه لممارسة الضغط على صهره البيرق وإبعاده عن طريقه.
نظرًا لأن “صويلو” متحدر من اليمين المتشدد، فإنّه يبدو أقرب للحركة القومية من أي حزب آخر، ويظهر كنموذج للحكم الحالي، بجمعه بين التشدّد القومي والتشبّث بالسلطة، من خلال الطموح الشخصي الذي يقوده للاستمرار في القيادة، والمنافسة على الزعامة وفق استراتيجيته التي تبدو متغيرة في أزمة كورونا، ولذلك سارع “دولت بهجلي” رئيس حزب الحركة القومية، إلى الإشادة برفض أردوغان استقالة “صويلو”.
من يخلف أردوغان؟
ما حصل في وقعة استقالة وزير الداخلية ثم رفضها لم يستمر سوى ساعات، لكن دلالات وتأثيرات تلك الوقعة أعمق وأكبر مما يبدو. ويمثّل “صويلو” أحد مراكز السلطة الهامة داخل الحزب الحاكم، ويبدو أنه تمكّن من تعزيز مكانته، وتغيير مسار معركة السلطة داخل الحزب باستقالته، وأجبر أردوغان على الانحياز له علنًا وتفضيله على صهره البيرق في هذه المرحلة، على أمل أن يتمكّن من تحجيم البيرق أكثر لاحقًا، وإبعاده عن طريقه لزعامة الحزب.
وليس من المؤكّد ما إن كان أردوغان مستعدًا للتخلي عن البيرق، وجعله كبش فداء بدلاً من “صويلو”، أو أنه سيحتفظ به لمرحلة قادمة قد تشتدّ فيها الضغوطات عليه، ويمكن أن يضحّي به حينها لينقذ نفسه من الورطة التي تلوح في الأفق.
لقد أحدثت الاستقالة هزّة قوية في الحزب الحاكم، لكنّها في المقابل زادت من شعبية الرجل القوي في الدوائر اليمينية. وعلى الرغم من أنّ “صويلو” لم ينضم إلى صفوف حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم إلا في عام 2012، فإن أسهمه أخذت في الصعود منذ 2016 حتى بات على خلاف قوي مع صهر الرئيس الطامع بخلافة أردوغان.
ومن منصبه الأمني هذا، أدار “صويلو” الذي يتميّز بسطوته ونبرة خطاباته القاسية، عمليات التطهير الأمنية الواسعة ضد مؤيدين مفترضين للانقلابيين، وأوقف واعتقل عشرات الآلاف من الأشخاص بحجة المشاركة في الانقلاب، لتتوسع عمليات القمع تلك بعد ذلك لتطال معارضين مؤيدين للقضية الكردية، وناشطين في المجتمع المدني، وصحافيين أتراكًا وأجانب.
وزير الداخلية ومن خلال استقالته التي تحمّل فيها المسؤولية كاملة عمّا حصل من فوضى في أعقاب قرار حظر التجوّل الفجائي، قد عزّز من مكانته كخليفة مُحتمل للرئيس أردوغان، ومُنافس شرس لصهره وزير المالية بيرات البيرق، أحد أقوى الشخصيات التركية وأكثرها طموحًا، وهذا ما أصبحت تُشير إليه أيضًا استطلاعات الرأي. في أعقاب الهلع الذي أصاب الأتراك إثر إعلان حظر التجوّل قبل ساعتين فقط من موعد تطبيقه، إذ احتشد ما يزيد عن ربع مليون تركي في إسطنبول أمام محلات البقالة في مشهد فوضى لا مثيل له. وفي حين قال “صويلو” في البداية إنّ القرار جاء من أردوغان نفسه، إلا أنّه لاحقًا تحمّل المسؤولية كاملة وقدّم استقالته.
“صويلو” برز أقوى من أي وقت مضى في أعقاب استقالته المرفوضة، وأظهر أنه قادر على تحمّل المسؤولية، كما أنّ الرأي العام والناخبين اليمينيين حمّلوا أردوغان المسؤولية، وبذلك أصبح “صويلو” يتمتع اليوم بمزيد من القوة. وفيما قوبل قرار الوزير التركي بموجات متناقضة من الدعم والانتقادات، وفي حين اعتبر حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية استقالة سليمان صويلو مُجرّد مسرحية من ترتيب القصر الجمهوري وتحديدًا من أردوغان نفسه، فقد أشادت الأحزاب القومية بوزير الداخلية التركي ورحّبت برفض استقالته.
ويمكن القول إن أردوغان لم يتخلَّ عن “صويلو” الذي يتلقى دعمًا كبيرًا من حليف أردوغان القوي، رئيس حزب الحركة القومية التركي، “دولت بهجلي”، داخل الدولة العميقة، لأنه سيحتاج إليه في المستقبل. ومع ذلك، بدلاً من مواجهة الزلزال الذي سبّبته استقالة “صويلو”، فضّل أردوغان التعامل معه وإدارة الأزمة، وقد صار هذا الوزير “لا غنى عنه” في حزب العدالة والتنمية، ولكن كلاً منهما يعلم جيدًا أن الجروح التي سببها هذا التحدّي لن تلتئم بسهولة.
فهل تخلّى الرئيس التركي عن صهره بيرات البيرق واختار الانحياز لوزير داخليته؟ هل يضحّي أردوغان بالبيرق لينقذ نفسه، أم أنّه يبقي “صويلو” ليتلافى انشقاقات جديدة في حزبه، وسينتظر الفرصة المناسبة للتخلّص منه؟
هل كان “صويلو” يناور ويضغط لانتزاع مزيد من المكتسبات والدعم من أردوغان؟ هل أحرج أردوغان بتلك الاستقالة، أم تراه كان يحاول تخفيف الضغوطات عليه؟ أين موقع البيرق بين الاستقالة ورفضها من قبل الرئيس؟
على الجانب الآخر، هل ناور أردوغان بدوره واستوعب صدمة الاستقالة ليعيد ترتيب أوراقه على مهل لحين تجاوز الأزمة وتحيّن الفرصة للتضحية بـ”صويلو”؟
من المتوقع أن تعتمد خطة أردوغان للتخلص من “صويلو بعد تعاظم نفوذه داخل الحزب الحاكم وفي تركيا أيضًا على خطوتين: الأولى طرده من الحكومة عبر التعديل الوزاري المرتقب الذي سيعين فيه صهره الثاني كنوع من الحشد ضد منافسي الصهر الأول، والثانية عبر إجباره على الاستقالة من الحزب الحاكم.
فمن المتوقع – في حال تسمية البيرق رئيسًا للحزب الحاكم – أن يتقدّم وزير الداخلية باستقالته نهائيًا مرة أخرى، وحينها قد يلجأ “صويلو” لتشكيل حزبٍ آخر، ولن يعود إلى حزبه القديم “الحزب الديمقراطي” باعتبار أن لا تأثير كبيرًا لهذا الحزب الصغير، ما يعني مزيدًا من التفتيت للحزب الحاكم.
الصهر والوزير.. من يخلف الرئيس؟
– قبل سنوات، كان صهر أردوغان هو المرشح الأول لخلافته، وكان يتعامل على هذا الأساس.
– عقب محاولة انقلاب 2016، بدأت رحلة صعود وزير الداخلية، وتكرست ثقة أردوغان به.
– تهاوي الاقتصاد التركي وتراجع قيمة الليرة وتفاقم العجز الاقتصادي أجهز على آمال البيرق.
– استقالة وزير الداخلية أظهرت للعلن تفاقم الصراع والأزمات داخل الحزب الحاكم بين “صويلو” والبيرق.
– أحدثت الاستقالة هزّة قوية في الحزب الحاكم، لكنّها في المقابل زادت من شعبية الرجل القوي في الدوائر اليمينية.
– استقالة “صويلو” كانت مناورة سياسية لابتزاز أردوغان بطريقة مختلفة، ودفعه للضغط على صهره وإبعاده عن طريقه.
– “صويلو” متحدر من اليمين المتشدد، وأقرب للحركة القومية، ويظهر كنموذج للحكم الحالي، بجمعه بين التشدّد القومي والتشبّث بالسلطة.
– هل ضحّى أردوغان بالبيرق لينقذ نفسه، أم أنّه يبقي “صويلو” ليتلافى انشقاقات جديدة في حزبه؟
– هل ناور أردوغان واستوعب صدمة الاستقالة ليعيد ترتيب أوراقه لحين تجاوز الأزمة وتحيّن الفرصة للتضحية بـ”صويلو”؟
– ربما يتخلص أردوغان من “صويلو” عبر خطوتين: طرده من الحكومة بتعديل وزاري، ومن الحزب بتعيين البيرق رئيسًا.
– أردوغان يحشد عائلته لمواجهة منافسيها، ولهذا ينوي تعيين صهره الثاني وزيرًا وتصعيده داخل الحزب.
– المؤكد أن انحياز أردوغان لأي منهما، سيُقابل بحرب عنيفة من الطرف الآخر، ربما تنهي حكم العدالة والتنمية، الذي باتت نهايته وشيكة.
وحدة الدراسات التركية*
المراجع
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر