سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
15 تموز/يوليو 2016م دخلت تركيا في ليلة طويلة على أثر المحاولة الانقلابية التي قامت بها عناصر من الجيش التركي.
المحاولة وفشلها كانا إيذانا ببداية حقبة جديدة في تركيا، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تجاوز الانقلاب بصعوبة، ليس بالرجل الذي يمرر حدثا كهذا مرور الكرام، وهو ما دعى البعض أن يقول عن الوضع التركي أن (دولة الرجل الواحد قد بدأت)، والبعض قال بأن الكيان الموازي آن أوان نهايته، وعلى أي حال كان صدامه سريعا ومباشرا مع رجل الدين التركي والخصم اللدود فتح الله غولن وجماعته (الخدمة).
وهو ما ترتب عليه اعتقال وتوقيف وفصل الآلاف من مختلف أجهزة الدولة التركية بدعوى أنهم ينتمون إلى التنظيم الموازي أو (جماعة الخدمة)، ومطالبة الدولة التركية من الولايات المتحدة الأمريكية أن تسلمها قائد الجماعة ومؤسسها فتح الله غولن المستقر في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
أردوغان وغولن حلفاء الأمس
مثّل رجل الدين التركي سعيد النورسي صاحب رسائل النور البوتقة التي خرجت منها معظم جماعات التجديد والإصلاح الدين في تركيا، من نجم الدين أربكان وتلامذته رجب طيب أردوغان وعبد الله جل، إلى فتح الله غولن وجماعته الخدمة، وإن كان لكل منهم مشاربه وسبله المختلفة، وهو ما دعى إلى شيء من التقارب بين تلك المدارس وهو تقارب لا تخلو منه نزعة صراع بين الحين والآخر، وفتح الله غولن نفسه دخل في معارك متعددة ضد نجم الدين أربكان، ثم رجال حزب العدالة والتنمية.
وقد استطاع أردوغان أن يصل إلى منصب رئيس الوزراء التركي في 14 آذار/مارس 2003 ليصبح رئيس الوزراء الخامس والعشرين في الجمهورية التركية، ولا يخفى على أحد أن أعضاء جماعة الخدمة دعموا أردوغان وحزبه في تلك الانتخابات بقوة، وأصبحوا حلفاء اليوم، ونتاج لغنائم المعركة الانتخابية فقد سهل لهم النظام التركي الجديد ليدخلوا إلى أجهزة الدولة المختلفة في القضاء والشرطة والجيش وجهاز الاستخبارات، وكانوا من قبل متواجدين أيضا، ولكن جسور العبور اليوم باتت أسهل من ذي قبل، فدخل أبناء غولن إلى كل تلك المؤسسات، كحلفاء لأردوغان. بل تطور الأمر إلى دخولهم إلى بنية حزب العدالة والتنمية نفسه، وتقلدهم لمناصب وكوادر حزبية غاية في الأهمية، مرورا إلى استلامهم لمناصب وزارية ونيابية في البرلمان التركي.
إلا أن شهر العسل بين الجماعة والنظام لم يدم طويلا، وبدأت جذور الخلاف تشتعل، ويسير الأمر إلى صدام حتمي رويدا رويدا.
هاكان فيدان بداية الشقاق
رئيس جهاز الاستخبارات التركية، ورجل أردوغان القوي وكاتم سره كما صرح من قبل الرئيس التركي، استلم منصبه في أيار/مايو 2010م.
فيدان لم يرقَ إلى توقعات أعضاء الجماعة، وخيب آمالهم في استمرار توغلهم في مؤسسات الدولة، وسرعان ما بدأ التذمر منه ومحاولة إقصائه من المشهد.
شباط/فبراير2012م وعقب إجراء أردوغان لعملية جراحية، تم تسريب خبر بأن هاكان فيدان عقد سلسلة من اللقاءات في العاصمة النرويجية أوسلو مع قيادات من حزب العمال الكردستاني، وهو الأمر الذي أثار الرأي العام في البلاد، وتم اعتباره تهديدا للأمن القومي التركي، وبناء عليه استدعى المدعي العام الجمهوري رئيس جهاز الاستخبارات للتحقيق في المسألة.
رفض فيدان المثول للتحقيق، وأصدرت الحكومة التركية قانون يحصن رئيس جهاز الاستخبارات من التحقيق معه إلا بموافقة خطية من رئيس الوزراء (رجب طيب أردوغان).
لم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد، حتى صعدت جماعة الخدمة إعلاميا، بل واتهمتها الحكومة بأنها وراء حملة الصحف الغربية التي استهدفت فيدان واتهمته بالتعاون والتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني.
جيزي بارك وانفجار البركان
في 28 أيار/ مايو 2013م، كانت هناك احتجاجات في ميدان تقسيم في قلب العاصمة التركية اسطنبول ضد إزالة بعض الأشجار، وإعادة إحياء ثكنة عسكرية عثمانية كان قد تم هدمها عام 1940م.
ككرة الثلج تفاقمت الاحتجاجات وتحولت إلى مواجهة عنيفة مع قوات الشرطة، وانضمت إليها مختلف الأحزاب التركية، بالإضافة إلى اشتعال المظاهرات في مدن أخرى كـ أنقرة، وأنطاليا، وإزمير.
مع تأزم الموقف شُنت هجمات إلكترونية على مواقع الحكومة، واختُرق الموقع الرسمي لوزارة الداخلية التركية ووضعت عليه عبارة “التصعيد ضد ظلم استبداد أردوغان”.
استطاع النظام أن يتجاوز تلك الأحداث العصيبة، ولكن بعد انتهاء المظاهرات، أعلن الإعلامي التركي عبد الرحمن ديليباق عن امتلاكه لتسجيلات تؤكد اتفاق جماعة الخدمة مع حزبي المعارضة الرئيسين في البلاد: حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، للتآمر على الحزب الحاكم وإثارة أعمال الشغب للنيل من شعبيته، تمهيدا لإسقاطه في انتخابات البلدية. لتبدأ الحرب العلنية والتراشق الإعلامي والسياسي بين رجب طيب أردوغان وفتح الله غولن، ويدخل الصدام إلى مراحل أكثر شراسة.
تصفية الحسابات تبدأ سريعا
أعلن النظام التركي تغيير نظام الامتحانات في البلاد، وتحويل معاهد التحضير للامتحانات إلى مدارس خاصة ضمن مشروع تطوير النظام التعليمي.
ولا شك أن هذا الأمر يمس جماعة الخدمة مسا مباشرا خاصة أنها تمتلك ما يقارب الـ 25% من هذه المعاهد، وأنها المسار الذي تجتذب من خلاله الشباب، بالإضافة إلى البعد الاقتصادي من وراء هذه المعاهد، وهو ما دعاها إلى أخذ الأمر بحساسية ورفض تسليم المقرات، لتدخل في صدام مباشر مع الحكومة.
١٥ تموز حرب تكسير العظام
الانقلاب الخامس في تاريخ الجمهورية التركية، محاولة حثيثة لإسقاط حكم أردوغان، فرق من الجيش تسيطر على مفارق البلاد وتغلق جسر البسفور الحيوي في إسطنبول، وتقتحم مقر التليفزيون التركي (تي آر تي) وتجبر المذيعة على إذاعة بيان الانقلاب باسم مجلس السلام في البلاد، والطائرات الحربية تسيطر على سماء المدن وتقصف المدنيين، وكل شيء يتجه لانهيار النظام، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان الذي نجا قبل من محاولة اغتيال، ظهر على إحدى الفضائيات الخاصة وطالب الشعب بالنزول، ومع رفض شعبي ومواجهات بين القوات الانقلابية من جهة والقوات الخاصة والشرطة من جهة أخرى، ومع تصريحات متواترة من مسؤولين أتراك بأن الحكومة ورأس السلطة المنتخبين ديمقراطيا هم من يمثلون الشرعية في البلاد، كان الانقلاب العسكري في طريقه إلى الفشل. دقائق معدودة وتم الإعلان أن جماعة الخدمة بقيادة فتح الله غولن وراء تلك العملية الانقلابية، وبدا أن حرب تكسير عظام ستبدأ بين الجماعة والنظام.
وقت تصفية الحسابات
في أول ثلاثة أيام عقب المحاولة الانقلابية أعلن وزير الخارجية التركي أفكان آلا، أن عدد الذين اعتقلوا على خلفية الحدث قد بلغوا ١٨ ألف معتقل.ومع توالي التحقيقات والأيام، ارتفع عدد المعتقلين والموقوفين والمفصولين من أعمالهم إلى قرابة الـ ٥٠ ألف، وهو ما بدا أن النظام الحاكم قد أحدث عمليات تطهير واسعة في الجهاز الإداري للدولة، وراح ضحيتها عدد كبير من أعضاء جماعة الخدمة، وأكد باحثين أن هناك من لا ينتمون إلى الخدمة دفعوا ضريبة تلك العملية، والتي شملت:-
• اعتقال 6038 عسكريا برتب مختلفة
• اعتقال 118 جنرالا وأدميرالا في الجيش التركي
• إدراج 2745 قاضيا ومدعيا عاما على قائمة المطلوبين للاعتقال ولكن من غير الواضح ما إذا اعتُقل جميعهم
• اعتقال 650 مدنيا
• عزل 8777 مسؤولا في وزارة الداخلية التركية من مناصبهم
• إقالة 30 حاكما إقليميا من مناصبهم
• إقالة 52 مفتشا مدنيا من مناصبهم
• إلغاء رخصة 21 ألف مدرس في مؤسسات تعليمية خاصة
• إيقاف 15200 من الموظفين في وزارة التعليم عن العمل وإخضاعهم للتحقيق
• إيقاف 370 موظفا عن العمل في هيئة “TRT” للإذاعة والتلفزيون
• مطالبة 1577 عميدا بمؤسسات تعليمية عليا بالاستقالة
ورغم أن فتح الله غولن قد نفى ضلوعه وضلوع جماعته في الانقلاب العسكري، بل إنه قد هاجم الانقلاب في بدايته، إلا انه عاد وأكد أن جماعته باقية وستصمد ضد تلك العملية التي تقوم بها السلطات، وأنها لن تستطيع القضاء عليهم، بل وصرح أن أردوغان ونظامه هم من وراء الانقلاب العسكري، من أجل أن يتخلصوا من معارضيهم.
لينتهي فصل من فصول الصراع بين أردوغان وغولن، وتنتهي معركة وتبقى الحرب مستمرة، والتي يبدو أنها ستبقى ما بقي الرجلين على قيد الحياة.
وحدة الدراسات السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر