اللامكان ومأزق المدينة المعاصرة | مركز سمت للدراسات

اللامكان ومأزق المدينة المعاصرة

التاريخ والوقت : السبت, 26 أكتوبر 2019

د. مشاري النعيم

 

التحوّل من المكان المحدد المعروف الذي يربط الناس ويمكنهم من توليد القيم المشتركة إلى اللامكان، الذي يعتمد على المصادفة والقيم العابرة، صاحبه تحوّل في أنماط العيش “المديني” الذي ساهم في تغيير أساليب الحياة وما تحتويها من قيم تميز البشر..

يبدو أن البشرية صارت تنتقل تدريجياً من العيش بالمكان إلى اللامكان، والمقصود هنا أن العلاقة التي كانت تجعل من المكان شيئاً محدداً ومحفوراً في الذاكرة، ويحمل معاني عميقة ومتراكمة زمنياً بدأت تتقلص وتتحول إلى “المكان المؤقت”، والذي أخشاه أن يصاحب هذا التحول تشكل “الهوية المؤقتة” و”الانتماء المؤقت” الذي يجعل ارتباط الإنسان بمرجعية مكانية وثقافية مسألة غير ضرورية. أنا هنا أحاول أن أصف الهوة الواسعة التي يتجه لها الإنسان المعاصر فيما بات يُعرف بالثقافة المؤقتة التي تقتلع الإنسان من جذوره التاريخية وتجعله يدور في فلك العولمة التي تلغي التباين والتمايز بين الأشكال والألوان الثقافية وتطبع الإنسان بطابع واحد ممل وباهت يفتقر للمعاني الحقيقية التي تغذي ذاكرته، وتربطه بسلسال زمني متجذر في المكان ومخزونه الثقافي. ما أقوله ليس ضرباً من التشاؤم، لكنه واقع بدأت تفرضه علينا المدينة المعاصرة التي تتنافس نحو الكونية الثقافية التي تتشابه في كل شيء.

يحكي ابن خلدون تصوره حول نشأة الثقافة وتشكلها ويربطها بالجغرافيا وبيئة المكان الطبيعية والتي تحمل داخلها موارد الحياة وكذلك البيئة المناخية وما تصنعه من طبائع وسلوكيات وطقوس وشعائر، ويقول إن المجتمع وثقافته هو وليد لهذين العاملين المولدين للثقافة، وأن المعارف الإنسانية تولد وتنمو وتتطور نتيجة لمحاولة الإنسان المستمرة كي يكتشف ويوظف الجغرافيا والمناخ. ويشير في مواربة أن التاريخ الإنساني هو عبارة عن سلسلة من محاولة السيطرة على الجغرافيا وتطويع المناخ والاستجابة له. المشكلة المعاصرة هي أن التباين الذي تصنعه الجغرافيا ويعمقه المناخ بدأ ينحسر في تحديد وتشكيل الثقافة الإنسانية والمساحة التي صار يقع فيها المشترك والمتشابه بدأت تتسع بصورة ملفتة، ويمكن أن تلتهم المساحات الضيقة والجزر المتقطعة للثقافات الإنسانية التاريخية الأصيلة.

المدينة المعاصرة التي تتسع فيها مساحات الأمكنة المؤقتة (الساحات العامة والأسواق والطرقات والمرافق العامة وغيرها) وتتقلص فيها الأمكنة الخاصة، بل وتذوب في داخل هذه الأمكنة العلاقات الاجتماعية التاريخية أصبحت تشكل الحالة التي تبشر بالثقافة الإنسانية الكونية الباهتة. مأزق المدينة المعاصرة يكمن في تفتيتها للذاكرة الخاصة والانتماء للمكان كما أنها تطمس الثقافات المحلية المتراكمة وتفصل الإنسان عن جذوره التاريخية، وفي اعتقادي أن العقدين القادمين سيحولان المدن، حتى المتوسطة منها، إلى فضاءات خالية من الثقافة المحلية الحقيقة التي ستحل مكانها الثقافة الكونية التكرارية القائمة على استهلاك منتجات معولمة عابرة للأمكنة. هذه الثقافة الشاملة والطاغية بدأت في الظهور منذ نهاية القرن التاسع عشر واتسعت ولكن ببطء يتزايد في السرعة مع نهاية القرن العشرين ثم تحولت إلى طوفان يكاد يلتهم كل ما هو محلي وأصيل في الألفية الثالثة.

التحول من المكان المحدد المعروف الذي يربط الناس ويمكنهم من توليد القيم المشتركة إلى اللامكان، الذي يعتمد على المصادفة والقيم العابرة، صاحبه تحول في أنماط العيش “المديني” الذي ساهم في تغير أساليب الحياة وما تحتويها من قيم تميز البشر في الجغرافيات المكانية المحلية وقلل من فرص ظهور وتطور العلاقة الطبيعية بين الناس والأمكنة التي يعيشون فيها. المدينة المعاصرة بصفتها حاضنة للا أمكنة المتسعة باستمرار هي الفضاء الأخطر على مفهوم الانتماء والهوية الثقافية لأنها تدمج كافة الانتماءات والهويات في وعاء واحد باسم “المدينة الكونية” التي تعني أن تتعايش كل الثقافات وكل اللغات وكل القيم في مكان واحد يصعب تعريفه وتحديد شخصيته. إنها نهاية الثقافة الإنسانية المعروفة منذ آلاف السنين وبداية لثقافة إنسانية جديدة تنمو باطراد لتحتل كل ما هو قديم وتاريخي.

ما يحدث هو ضد سنة “التنوع” وحصار للهوية الاجتماعية التعددية تساهم فيه المدينة المعاصرة بقيمها الاستهلاكية الكونية تقلص فيه المساحات التي تبني فيها المجموعات البشرية خصوصيتها وقيمها المشتركة التي صارت تزاحمها قيم العولمة. لكن مأزق المدينة الفعلي هو عدم قدرتها على التراجع والعودة للوراء، بل هي تندفع للأمام وتكرس قيمها “المدمرة” لكل ما هو تاريخي (حتى لو أنها تجمد هذا التاريخ وتحوله إلى سلع استهلاكية متحفية). إنه مأزق حقيقي تساهم فيه التقنية الفائقة التطور وما أفرزته من وسائل تواصل اجتماعي جعلت حتى من المكان الفزيائي المؤقت غير ضروري وبدلته بالمكان الافتراضي الذي يزيد من العزلة والتباعد الاجتماعي، ويقلل من فرص المصادفة الاجتماعية التي كان يحققها اللامكان أو “المكان المؤقت”.

 

المصدر: جريدة الرياض

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر