النظرية الاجتماعية في عصر العولمة | مركز سمت للدراسات

النظرية الاجتماعية في عصر العولمة

التاريخ والوقت : الخميس, 17 أكتوبر 2019

في خِضَم حالةِ الجدل التي تجتاح الأوساط الأكاديمية العربية في كافة الميادين والمجالات العالمية، تبرز علينا بين الحين والآخر محاولات تفرض نفسها، داعية الآخرين إلى انتهاج دربها فيما يمثل محاولات عربية جادة لمواكبة التطورات التي تشهدها العلوم والمعارف الإنسانية.

في هذا السياق، يشهد علم الاجتماعي في العالم العربي طفرة ملحوظة عبرت عنها سلسلةً من الكتابات النابعة من المؤسسات الأكاديمية والبحثية إما في شكل دراسات ميدانية أو تحليلية أو حتى كتب علمية مرجعية رصينة.

يرتبط ذلك بالمسيرة الطويلة التي شهدتها النظرية الاجتماعية منذ العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين حيث شهدت حوارا لم ينقطع وجدلا لم ينته. حول مدى كفائتها التفسيرية والوظيفية، وشكك في قدرتها على إدراك الواقع الاجتماعي الجديد.

في هذا السياق يأتي كتاب “النظرية الاجتماعية في عصر العولمة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة” للأكاديمي المصري، الدكتور محمد سيد أحمد بيومي، والصادر عن مكتبة الأنجلو المصرية، والذي يتضمن محاولة علمية لمراجعة نشأة وتطور النظرية الجتماعية، وذلك لمعرفة موقفها في عصر العولمة، يسعى للإجابة على تساؤل: هل قدمت نموذجا نظريا جديا أم لا؟

يقول الأستاذ الدكتور علي ليلية، عالم الاجتماع المعروف، في تقديه لهذا الكتاب عند تأمل التحولات العالمية على مستوى النسق المحلي والعالمي نجد أنها أدت في نهاية الأمر إلى تفكك النسق المرجعي القومي للنظرية الاجتماعية، ومن ثم وقعت في أزمة حديد إطار مرجعي لها في عصر العولمة، خاصة بعد التنظيرات والتحولات التي حدثت بفعل العولمة وما بعد العولمة، تلك الأنساق التي لم يكتمل تشكلها بعد. لذلك أجمع الباحثون في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعي على أن هناك عالما جديدا يتخلق أمام أنظارنا أي واقع اجتماعي جديد ومن ثم نحن بحاجة إلى نموذج نظري جديد ملائم لدراسة وتحليل قضايا هذا الواقع.

لقد خضعت النظرية الاجتماعية، التي بدأت مع انطلاق عصر التنوير، لنقد شامل، لأنها جسدت مضامينها واقعيا من خلال الثورة الصناعية في انجلترا والثورة السياسية في فرنسا، بحيث شكلت هذه الثورات تحولا جذريا غير انساق هذه المجتمعات تغييرات جوهريا حيث حلت الانساق الحديثة محل الانساق التقليدية، وتفجر صراع حينئذ يمكن أن نسميه صراع الانساق، حيث برز سان سيمون وأوجست كونت ودوركايهم وماكس فيبر باعتبارهم أنصار الانساق الحديثة، التي ولدت من رحم الانساق التقليدية، غير أن الولادة كانت متعثرة بسبب مشكلات كثيرة سواء في المجتمع السياسي لفرنسا، أو المجتمع الصناعي لانجلترا.

ومن ثم نجد أن هذا المجتمع أصبح موضوعا لحوارات متعددة، فبعض النماذج النظرية تناولت النسق الرأسمالي بموجهة نظر متشائمة، مؤكدة أن هذا النسق ذاهب حتما إلى الفناء وذلك حسب قوانين جديدة لا ترحم. حيث كان كارل ماركس هو صاحب وجهة النظر هذه، باعتبار أن من رحم المجتمع الرأسمالي الذي رسخ الظلم في الفضاء الأوروبي سوف ينبثق المجتمع الشيوعي الذي من خلاله سوق تشرق على أوروبا شمس الرمة والعدل، بنيما رأى اميل دوركايهم أنه يمكن تأسيس العدل ليصبح آلية للقضاء على الظلم.

وفي مقابل وجهات النظر التي أكدت النسق الرأسمالي، برغم انتقاده من البعض، باعتباره نسقا حديثا تخلص من جمهود التقاليد والحياة الرتيبة وشرع يتحرك متسارعا تجاه المستقبل، نجد وجهة نظر أخرى قدمها فلاسفة وعلماء كانت لهم مكانتهم على الساحة الفكرية رأو أن النسق التقليدي، مازال هو النسق القاعدي الذي يلائم حياة إنسانية تليق بالإنسان، من هؤلاء العالمان الفرنسيان “دي بولاند” و “دي ميستر” وأيضا المفكر الإنجليزي “أرموند بورك” حيث رأي “دي بونالد” و”دي مستر” أن المجتمع التقليدي تحكمه الثقافة التقليدية التي تستند إلى قاعدة الدين والعواطف الاخلاقية، والتي تنشر الرحمة والعدل بين البشر، ويتراحم بعضهم مع البعض الآخر، حيث يسود الانسجاح والتسامح محل الصراع والاقتتال، وتسود الزراعة ووفرة الغذاء التي تقضي على احتمالات الفقر والجوع التي تشعل الرغبة في الاعتداء، وبالتالي فنحن مطالبين بان نرجع ثانية من هذه الثورة السياسية والصناعية إلى حيث الزراعة فنحن والجماعة العائلية التي تستوعب البشر وتستكمل عزوتهم في مواجهة الفقر والعوز أو في مواجهة حالة عدم الأمان، وقد حسم الأمر الفيلسوف الإنجليزي “ألموند مورك” الذي رفض الفرنسية قائلا، من اعطى الحق لخمسة وعشرين مليونا من البشر ــ تعداد فرنسا حينئذ ــ أن يقوموا بثورة، ويغيرو وجهة المجتمع تغييرا جذريا، وهل فوضتكم أجيال المستقبل للقيام بالثورة.

بيد أنه برغم تشبث الفلاسفة الرجعيون بالماضي ومطالبتهم بإلحاح، بضرورة العودة إلى المادي، إلا أن النسق الرأسمالي واصل تطوره وتقدمه برغم الانتقادات التي وجهت إليه من قبل فلاسفة كثيرين من أبرزهم الفيلسوف “فردريك نيتشه”، وعالم الاجتماع والحضارة ماكس فايبر.

وقد أصبح هذا النسق يشكل قاعدة للوجود الاجتماعي بحيث بدأت الأجيال من علماء الاجتماع يطورون تنظيرا يدافع عن هذا النسق، باعتبار أن وجوده شكل مرجعية. من هؤلاء العلماء على سبيل المثال “تالكوت بارسونز” و “روبرت ميرتون” و كنجزلي ديفيز” و “روبرت نسبت”، حيث قدموا نظرياتهم على قاعدة النسق الاجتماعي، فقد بارسونز نظريته الشامل لتي تشكل إطاره التصوري المرجعي، وبالنظر إلى هذا النسق الواقعي، نجده تجلى في كتابه (النسق الاجتماعي) أو كتابه العمدة (بناء الفعل الاجتماعي) حيث أصبح النسق الواقعي مرجعية واقعية لنظرية بارسونز التي استند إليها في تسفير كل الظواهر والمشكلات التي قد تظهر على ساحة النسق الواقعي، كظواهر التغير الاجتماعي وظهور حركات الاحتجاج الاجتماعي وكذلك الانحراف الاجتماعي.

ثم جاء عالم الاجتماع روبرت ميرتون ليجعل الأمر أكثر تبلورا من خلال مؤلفه (البناء الاجتماعي والنظرية الاجتماعية)، وإذا فسوف نجد لهذه التسمية دلالتها، البناء الاجتماعي، الذي يشكل النسق الواقعي، وهو مرجعية للنظرية الاجتماعية عند روبرت ميرتون.

غير أن نظرية روبرت ميرتون تناولت نسقا اجتماعيا يملك اليات للدفاع عن وجوده، حيث قدم النسق الاجتماعي مزودا بآليات البدائل الوظيفية والتيسير الوظيفي والمعوقات الوظيفية، بحيث نجد أن هذه الآليات ضمنت وجود أكثر مرونة وأكثر تكيفا وقدرة على الاستمرار مقارنة بنسق تالكوت بارسونز، حيث نجد أن نسق روبرت ثابت وقادر على المراوغة تأكيد لذلك إذا تأملنا النسق الاجتماعي الذي جدت عنه نرية روبرت ميرتون، ويتضح لنا أنه نسق يقف شامخا أمام كل حركات المقاومة والخروج عليه، حيث صنف روبرت ميرتون جماعات الخروج على النسق، وذكر منهم “المجددون” أو بالأصح “الانتهازيون ثم “الطقوسيون” ثم “المنسحبون”، ثم “المتمردون” ولم يقل الثوريون، باعتبار أن حالات الخروج الأربعة على النسق، يمكن استيعابها، تتبدد طاقتها لكن النسق يظل باقيا، ولم يذكر الثوريون، لانه كان يطور نظرته بحرص عن نسق قد يشهد حركات الخروج، غير أنه لن يشهد تغيرا راديكاليا يطيح بوجوده.

واستمر النسق الاجتماعي الذي يعكس معنى ومضمون المجتمع خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين لكن مع بدايات الألفية الثالثة ظهرت العولمة، التي وجهة كل مقولاتها باتجاه تفكيك النسق القومي لتحوله إلى انساق فرعية، ثم إعادة بناء النسق العالمي من وحدات النسق القومي الذي تفكك، وهكذا يمكن اعتبار العولمة دعوة لبناء نسق أو نظام عالمي جديد، على حساب القومية. وبذلك يمكن القول بأن العولمة شكلت دعة لبناء مجتمع عالمي يحل محل المجتمعات القومية التي سوف تتفكك الروابط العضوية بين مكوناتها. وبالإضافة إلى فقد برز تنظير يمهد لظهور هذا النسق العالمي، من نماذج هذا التنظير نظرية النسق العالمي لوالرشتين وتنظير التبعية بنماذجه النظرية العديدة.

بعد عرض خرائط الواقع الاجتماعي توصل الكاتب إلى أن هناك ست خرائط للتنظير الاجتماعي، تمثل ستة مداخل نظرية أو بالأحرى تعبر عن ستة رؤى نظرية داخل النظرية الاجتماعية في عصر العولمة، كل مدخل نظري له إطار مرجعي، في حين أن النظرية الاجتماعية عند نشأتها وتطورها في المرحلة الأولى الكلاسيكية كان لها إطار مرجعي واحد. إن تغير النسق القومي وسقوط تماسكه وتغيره في بعض الأحيان أدى إلى ظهور نماذج نظرية عديدة بأطر مرجعية متنوعة بدلا من إطار مرجعي واحد، ومن ثم شكل هذا الأمر عبئا ثقيلا على تطور النظرية الاجتماعية، وعلى تحديد إطار مرجعي محدد لها كنظريات العلوم الاجماعية، أو بالأحرى شكل هذا الأمر أزمة للنظرية الاجتماعية بصفة خاصة وعلم الاجتماع بصفة عامة.

يخلص الكاتب إلى أن إعادة بحث التنظير في مسألة التفاعل بين الحضارات يتسق إلى حد كبير مع فكرة العولمة والتنظير الذي بدأ يروج لها، والتي تعني بالأساس محاولة فرض نمط الحياة الغربية على مجتمعات العالم بهدف  خلق تجانس ثقافي واجتماعي وحضاري عالمي قاعدته نمط الحياة الرأسمالية الغربية، وهو الأمر الذي يعني ضمنيا استبعاد المبادئ الأساسية للحضارات الأخرى أو على الأقل إضعافها، وفي مقابل ذلك العمل على نشر مبادئ الحضارة الغربية الرأسمالية لتصبح قاعدة لحضارة عالمية جديدة هي حضارة العولمة، فقد انعكست هذه التغيرات على بنية النظرية السوسيولوجية المستندة في إطارها المرجعي إلى النسق الاجتماعي القومي، بيد أنه مع هذه التغيرات السابق ذكرها في خرائط التنظير الاجتماعي نجد أن هذا النسق القومي في حالة تراجع، أو بالأخرى حالة تآكل وتلاشي نتيجة لبروز النسق المحلس والنسق العالمي الكوني، أو بالأحرى سيطرة النسق العالمي، إذ أصبح من الصعب في هذه الآونة الراهنة تحديد إطار مرجعي للنظرية السوسيولوجية.

ثم ينتهي الكاتب بإثارة عدد من التساؤلات مثل: هل سيكون هذا الإطار المرجعي هو النسق العالمي المسيطر؟ أم سيكون النسق المحلي البازغ الجديد؟ أم سيكون النسق المحلي العالمي؟ أم النسق الكوني الشامل؟ أم سيتخلق فراغ بين هذه الأنساق لاستعادة النسق القومي؟

الكتاب يمثل إضافة إلى المكتب الأكاديمية في ميدان البحوث الإجتماعية في شقها التنظيري، ما يجعله يفتح الطريق أمام غيره من الاجتهادات التي تمثل لبنةً في صرح علم اجتماعي معاصر منطلقا من العالم العربي.

معلومات الكتاب

 

 

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر