سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
بعد خسارةِ حزبِه السيطرة على أكبرِ ثلاث مدنٍ تركيةٍ في انتخابات المحليات التي أُجرِيَت في 31 مارس الماضي، وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مهنئًا مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، “أكرم إمام أوغلو”، والمنتصر في آخر الجولات الانتخابية بإسطنبول على مرشح حزب العدالة والتنمية، “بن علي يلدريم”. ورغم تهنئته في الجولة الأولى رفض أردوغان الاعتراف بهزيمةِ مرشحِه، وطالب بإعادة التصويت على بلدية إسطنبول بزعم أن ثمةَ مخالفاتٍ قانونية من جانب اللجنةِ المنظمةِ للانتخابات؛ ما عزز شكوك ومخاوف بين الأتراك تجاه مستقبل العملية الديمقراطية في تركيا، رغم ذلك أعيد التصويت في إسطنبول لتتأكد هزيمة مرشح العدالة والتنمية، لكن الفارق في هذه المرة قد تضاعف كثيرًا، حيث فاز “إمام أوغلو” بفارق تجاوز 750 ألف صوت مقارنة بفارق 13 ألف في الجولة الأولى، وهو ما أوقع أردوغان في مأزق ليخرج عبر “تويتر” مضطرًا ليهنئ “أكرم إمام أوغلو” وفق النتائج غير الرسمية المعلنة.
الأهمية الانتخابية لإسطنبول
ترجع أهميةُ إسطنبول في المشهد الانتخابي إلى كونها واحدة من أهم وأكبر البلديات في منظومة الحكم بتركيا؛ فباقتصاد يسهم بما يتجاوز 31% من الناتج القومي الإجمالي لتركيا، وبعددِ سكانٍ يتجاوز 16 مليون نسمة، يصبح من يتولى منصب رئيس بلدية إسطنبول مُؤَهلاً لحكم تركيا مستقبلاً، وهو ما عبَّر عنه أردوغان نفسه حينما قال إن إسطنبول “مسألة حياة أو موت”، وقال أيضًا إن “من يحكم إسطنبول يحكم تركيا”، وهو ما حدث مع أردوغان نفسه الذي تولى منصب رئيس بلدية إسطنبول فيما بين 1994 و1998. كما يفسر ذلك حِرصَ أردوغان على دعمِ مرشحِه من خلال عشرات اللقاءات الجماهيرية التي شارك فيها قُبَيل الجولة الأولى في مدينة إسطنبول وحدها.
محاولة الانقلاب وأزمة الحريات
لم تمر ما وصفت بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016 مرور الكرام، إذ أطلق أردوغان لنفسه العنان للتنكيل بكل من رآه خصمًا له، ما أثَّر على أوضاع الحريات في تركيا؛ فبعد أن كان عدد المعتقلين والسجناء نحو 52 ألف سجين وقت وصول أردوغان للسلطة عام 2002، تجاوز هذا الرقم 240 ألف في الفترة الأخيرة، حيث شهد عام 2018 وحده 60 ألف سجين ومعتقل وفقًا لما أعلن وزير العدل التركي “عبدالحميد جول”. وكما تشير منظمة العفو الدولية، يقبع في السجون التركية 50 ألف معتقل بتهمة الانقلاب، وتمَّ فصل وتشريد 130 موظفًا من الجهاز الإداري للدولة من بينهم 4283 قاضيًا، و21 ألف مدرس، و 8 آلاف ضابط شرطة و7500 من جنود وقيادات الجيش، وأخيرًا أزمة الدبلوماسيين التي أثيرت على خلفية اتهامهم أردوغان بانتمائهم لحركة “الخدمة” التي يتزعمها رجل الدين “فتح الله غولن”، المقيم بالولايات المتحدة، والذي يتهمه أردوغان بتدبير محاولة الانقلاب. كل ذلك رسخ انطباعات لدى الناخب التركي باتجاه بلاده نحو نموذج استبدادي يتنافى مع التجربة الديمقراطية التي ينشدها الأتراك.
لعنة الاقتصاد
مع تعدد جوانب المشهد التركي، يبقي البعد الاقتصادي الأهم في دينامياته، نظرًا لارتباطه بالاحتياجات الأساسية للمواطن الذي هو وقود العملية الانتخابية وهدفُها الأخير. فرغم تأسيس شرعيةِ نظامِ أردوغان على ما تحقق من استقرار اقتصادي على مدار العقدين الماضيين، فإن الاقتصاد التركي شهد أزمةً عميقةً خلال الآونةِ الأخيرةِ كان لها تأثيرات درامية على الظروف المعيشية للمواطن التركي. إلى جانب عوامل خارجية لم يكن آخرها التداعيات المترتبة على الأزمة التي اعترت العلاقات التركية الأميركية على خلفية اعتقال القس الأمريكي “أدنرو برونسون” في السجون التركية، ثم إطلاق سراحه بعد تصعيد من جانب إدارة الرئيس دونالد ترمب، وصولاً إلى أزمةِ صفقةِ طائرات “إف 35” بين واشنطن وأنقرة، والتي تأتي في سياق أزمة أوسع بين تركيا والغرب، بجانب كل ذلك تأتي الأزمة الاقتصادية خانقةً لطموح أردوغان في مسيرته نحو السيطرة على مفاصل الدولة التركية. فوفقًا لهيئة التجار والحرفيين التركية أغلق 173 ألف محل تجاري أبوابها عام 2018، كما وصل عدد الشركات التي أفلست 15.400 شركة وفقًا لتقارير صادرة عن اتحاد نقابات العمل وهيئة الضمان الاجتماعي ما فاقم أزمة البطالة التي وصلت إلى 14.7% من العمالة القادرة على العمل في تركيا. فضلاً عن ذلك، فقد طالت تأثيرات التراجع الاقتصادي كافة جوانب الحياة المعيشية في ظِلِّ إخفاق واضح من جانب إدارة أردوغان للأزمة الاقتصادية في الوقت الذي انشغل فيه بترسيخ دعائم حكمه سياسيًا. وهو ما عبَّر عنه هجوم أردوغان الدائم على خصومه السياسيين، وردُّ فعلِ الناخب الذي اتجه للتصويت العقابي بشكل وصل إلى مسقط رأس أردوغان نفسه.
تغير خريطة التحالفات الانتخابية
نتيجة لسياسات أردوغان التعسفية تجاه كافة الفصائل السياسية التركية، شهدت خريطة التحالفات السياسية تغيرات ملحوظة نحو تشكيلِ تكتلٍ انتخابيٍ في مواجهةِ مرشحِ حزبِ العدالة والتنمية “بن علي يلدريم”؛ فقد أعلن كل من الحزب اليساري الديمقراطي والحزب الشيوعي التركي، عن انسحابهم من السباق الانتخابي وتأييدهم مرشح حزب الشعب الجمهوري “أكرم إمام أوغلو”. والحال نفسه بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطي المناصر للقضية الكردية في تركيا، والذي أعلن عن دعمه لـ”إمام أوغلو”.
طالت هذه التغييرات مكونات من التيار الإسلامي نفسه، الذي كثيرًا ما كان يمثل رافدًا لدعم أردوغان خلال سنوات حكمه؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة انقسامات داخل ذلك التيار ما أثَّر على الكتلة التصويتية الداعمة لحزب العدالة والتنمية. كما فقد صوت حزب السعادة الإسلامي، الذي يقوده “قره ملا أوغلو” والمحسوب على جماعة الإخوان لصالح مرشح المعارضة في إسطنبول، ومن قبلها بأنقرة وأزمير وأنطاليا. وكان اتجاه “ملا أوغلو” للسير منفردًا بعيدًا عن حليف الماضي أردوغان بمثابة ضربة قاصمة لطموحات الرئيس التركي، وبخاصة بعد إعلان رئيس حزب السعادة نيته منافسة أردوغان على رئاسة تركيا في الانتخابات المقبلة، ما جعل الحزب نفسه في مرمى استهداف وهجوم أنصار أردوغان.
فضلاً عن ذلك، يسعى “أحمد داود أوغلو”، وزير الخارجية التركي السابق، وأحد أركان نظام حكم أردوغان في وقت سابق، لتأسيس حزب جديد بالاشتراك مع “عبدالله غول”، الرئيس التركي السابق وصديق أردوغان السابق أيضًا، بعد أن انفصل الاثنان بعيدًا عن أردوغان، وهي الفكرة التي يدعمها عدد من رجال الأعمال والشخصيات والأكاديميين الأتراك، مثل: “إبراهيم كالين” و”بشير أتالاي”، و”خلوصي أكار” و”سعد الله أرجين”، وغيرها من الشخصيات المؤثرة في مجال الصناعة والتجارة بتركيا، حيث يعتمدون في تأسيس الحزب الجديد على قاعدة حزب العدالة والتنمية ما كان له أثر في امتناع نحو 300 ألف ناخب عن التصويت بدعوة من “داود أوغلو” و”غول” بمقاطعة الانتخابات.
أخيرًا، فقد تعددت الرسائل التي حملتها نتائج انتخابات إسطنبول، ما بين السياسي والاقتصادي، لتبقى أهم تلك الرسائل متمثلة في انتفاضة الأتراك ضد ممارسات الرئيس الرامية لِشَخصَنةِ الدولة التركية وأدلجَتها وعدم الفصل بين مشروع أردوغان الشخصي واعتبارات الدولة التركية التي تحولت من استراتيجية “صفر مشاكل”، التي كان يطمح إليها وزير الخارجية السابق “أحمد داود أوغلو”، إلى الانخراط في عدد لا نهائي من المشاكل الداخلية والخارجية التي رأى المواطن التركي نفسه في غنى عنها، بل وتضرر منها، وهو ما دفعه لرفع إشارات الإنذار لأردوغان وحزبه.
وحدة الدراسات التركية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر