سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
كانت الأكثر ترويعًا في شبه الجزيرة العربية، إذ أقدم الجيش العثماني بقيادة فخري باشا على تهجير أهل المدينة المنورة بصورة وحشية لا رحمة فيها. ففي عام 1915 إبان الحرب العالمية الأولى جاء إلى المدينة عسكر أتراك لاستباق الأوضاع التي لاحت بشائرها في الحجاز وسائر البلدان العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية.
المدينة المنورة ورغبة عثمانية في السيطرة
كانت المدينة المنورة هي الأهم لدى العثمانيين لتحويلها إلى ثكنة عسكرية وتتريكها لاحقًا، ومن ثَمَّ فصلها عن الحجاز وإلحاقها تمامًا بالدولة العثمانية، على إثر معلومات متواترة، إضافة إلى مخاوف حقيقية عن قرب انطلاق الثورة العربية الكبرى على الاحتلال التركي من “مكة المكرمة”، ذلك الاحتلال الذي هيمن لقرون على مقدرات الوطن العربي، خاصة أن إرهاصات تلك الثورة بدأت بالظهور في المدينتين المقدستين وبادية الحجاز، وهو ما حدث – بالفعل – لاحقًا خلال أشهر قليلة، وتحديدًا في العام التالي.
بداية الجريمة
بدأت الجريمة عندما عيَّنت “الأستانة” فخري باشا حاكمًا عسكريًا للمدينة المنورة، التي أخضعها لحكم عسكري قاسٍ، وكان أكثر الحكام الأتراك تسلطًا ودموية وضيق أفق، كما تقول المصادر المختلفة. وبحكم الأوضاع المتسارعة في المنطقة آنذاك، والخوف من التحاق “المدينة المنورة” بالثورة العربية القادمة، والشك في أهالي المدينة وتعاطفهم مع أحلام الثورة، التي انطلقت فعليًا في عام 1916م، أمر فخري باشا بتجفيف المدينة المنورة من سكانها، وترحيلهم قسريًا إلى مناطق بعيدة في الشام وتركيا والعراق والأردن وفلسطين، والحفاظ قدر الإمكان على المدينة المنورة مرتبطة بالحكم العثماني، وتسليحها خوفًا من هجمات القبائل البدوية المحيطة بالمدينة والراغبة في تحريرها من الاحتلال العثماني.
وكان من الخطوات التي اتخذها فخري باشا، مد خط السكة الحديد الذي كان يتوقف عند باب العنبرية إلى داخل أحشاء المدينة، بل إلى قرب باب السلام تحديدًا، إذ هدم في طريقه شارع العينية والأسواق والأسوار والبيوت على من فيها، وكان الهدف من ذلك تحويل الحرم النبوي إلى قلعة عسكرية ومخزن للسلاح دون مراعاة لحرمة “الحرم النبوي” الشريف، إضافة إلى ترحيل كل الكنوز النبوية التي لا تقدَّر بثمن إلى تركيا.
معيشة غير إنسانية ومجتمع مدمر
وقد أدت عملية التهجير الجماعية الواسعة عبر قطار الحجاز إلى ضرب النسيج الاجتماعي المتوارث للمدينة المنورة لعدة عقود لاحقة، وأدت إلى مجاعة قاسية بين من تبقى من النساء والأطفال، حتى بلغ الأمر بالأسر لأكل حشائش الأرض والبرسيم وبقايا الحيوانات، وكان المحظوظ من بقي لديه مخزون من التمر، ووصل الحال بالنساء “المدينيات” العفيفات إلى العمل عند الجيش التركي حاملات للأتربة وبقايا ومخلفات طريق القطار حين هدمت الأسوار باتجاه باب السلام، للحصول على يومية تساعدهن في إعالة المتبقي من الأطفال والعجائز.
ويقول المؤلف أحمد أمين صالح مرشد، في فصل مطول من كتاب (طيبة وذكريات الأحبة): “في جريمة ترحيل أهل المدينة وسفر برلك، روايات عديدة لا تحصى عن نهب خيرات المدينة المنورة وأرزاق أهلها، وتجويعهم وظلمهم قبل ترحيلهم ونفيهم. لقد بلغت المجاعة بأهل المدينة وما جاورها أن أكل بعضهم القطط، بل كان سعر القطة غاليًا، رغم أن المستودعات مليئة بالخيرات، ولكنها خاصة بالجيش التركي، ولا يسمح لأهل المدينة أن يذوقوا منها تمرة واحدة أو حبة قمح”.
فظائع لا تنسى
وتمثلت فظاعة هذه الجريمة حسب الروايات المتواترة في المدينة المنورة، في اقتحام جنود فخري باشا للبيوت الآمنة وكسر أبوابها عنوة وتفريق الأسر وخطف الأطفال والنساء من الطرقات دون رحمة، ومن ثم جرهم معًا أو متفرقين إلى عربات قطار الحجاز ليتم إلقاؤهم عشوائيًا بعد رحلة طويلة من العذابات في تركيا والأردن وسوريا. لتخلف خلال خمسة أعوام مدينة منكوبة يسكنها 2000 من العسكر الأتراك وبضع عشرات من النساء والأطفال ممن حالفهم الحظ ونجوا من ذلك الترحيل الجماعي.
وسجل التاريخ المشهد المأساوي لترحيل آلاف من سكان المدينة المنورة باسم “سفر برلك” في عام 1916، الذي يعني لغويًا بالعربية “الترحيل الجماعي”، ونفسيًا كل الألم والاغتراب والشتات. في حين تؤكد الذاكرة التاريخية العربية أن “سفر برلك” كان تهجيرًا جماعيًا قسريًا.
محاولة للتتريك وسرقة الآثار
الـ”سفر برلك” كانت محاولة لتحويل المدينة المنورة إلى ثكنة عسكرية تمهيدًا لتتريكها لاحقًا، ومن ثَمَّ فصلها عن الحرم المكي الشريف وإلحاقها تمامًا بالدولة العثمانية. فالعثمانيون الذين أذاقوا العرب ويلات الاحتلال وعاملوهم كمواطنين درجة ثالثة لا يتلقون تعليمًا أو رعاية صحية، كانوا يهدفون إلى الاستيلاء على الحرمين الشريفين، كما نقلوا آثارًا إسلامية بالغة الأهمية إلى إسطنبول. وكانوا يريدون أن تصبح آخر حدود الدولة العثمانية داخل الجزيرة العربية.
الواقع يكتب الروايات
ورغم أن الأتراك يرفضون اعتماد كل الروايات المطروحة عن هذه الفترة التي كتبها مؤرخون إنجليز لا تؤمن نواياهم وأغراضهم، وإذا كانت الروايات التاريخية تختلف باختلاف الرواة والمفسرين، فإن الصورة على أرض الواقع تتحدث عن نفسها ولا تحتاج إلى من يؤرخها، ولا إلى من يحرفها ويزيفها، ولا تنتظر من يلوي عنقها لصالحه ووفقًا لأهوائه.
فالجريمة التي حدثت في المدينة المنورة رسمت مشاهد متشابهة لسيدات يحملن صغارهن ويركضن خلف أزواجهن مخلفات بيوتهن ومودعات سكنهن ليسوقهن الجنود العثمانيون إلى عربات سكك حديد الحجاز. وكان هؤلاء على موعد مع المجهول بعد ترحيلهم إلى مدن الشام والعراق واليمن ومصر وتركيا وفلسطين، بينما زادت نكبة الآخرين الذين لم يلحقوا بالرحلات المتجهة إلى مدن عربية بعد تخريب خط السكك الحديد، لترمي بهم الأقدار إلى منفاهم البعيد في الهند. وخلف الجميع وراءهم ثرواتهم ومنازلهم وحيواتهم المستقرة.
نتائج وتوصيات
إن جريمة “سفر برلك” يجب أن يحييها العرب في كل مكان لتذكر ما تعرضوا له من اضطهاد عثماني وأن يعرف الأجيال الجديدة تاريخهم وما وقع لهم. كما أن المقدسات التي نهبها العثمانيون وأرسلوها إلى تركيا يجب أن تعود إلى أماكنها لتكون من حق المسلمين في كافة أنحاء العالم يشاهدونها ويتمتعون برؤيتها عند زيارة الأماكن المقدسة، وعلى صانع القرار العربي أن يقوم بما يلي:
– إحياء ذكرى المذبحة والتهجير القسري إعلاميًا وثقافيًا وتنظيم ندوات ومحاضرات.
– اهتمام الباحثين بالقضية ودراسة كافة جوانبها وتوثيقها في دراسات وصور وشهادات.
– إقامة معارض ومتاحف توثق هذه الجريمة وتعرض صورًا ووثائق مرتبطة بها.
– مطالبة تركيا بالاعتراف بالجريمة والاعتذار عنها.
وحدة الدراسات التركية*
المراجع
1 – مئة عام من جريمة “سفر برلك” العثمانية، العربية.نت.
https://bit.ly/2JhCRbq
2 – “سفر برلك”.. نفير عثماني وبؤس وتشريد للعرب، الاقتصادية.
https://bit.ly/2vYajec
3 – “سفر برلك”.. جريمة عثمانية في المدينة المنورة، الخليج.
https://bit.ly/2vV5BOm
4 – مخطوطتان تكشفان تفاصيل جديدة عن سفر برلك، مكة.
https://bit.ly/2vydXvv
5 – “سفر برلك”.. قرن على الجريمة العثمانية في المدينة المنورة. العربية نت
https://bit.ly/2YZOufC
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر