سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
“كيف نصنع علامة تجارية للسعودية؟”
عبدالله الذبياني
القوة الناعمة Soft Power التي وضع مفهومها “جوزيف ناي”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، باتت هاجسًا مستهدفًا على مستوى العالم، خاصة مع معطيات العولمة وزيادة المسامات في جسم السيادة الدولية، حيث لم تعد قوة الجيوش والحروب والانتصارات مقياسًا أوليًا في وزن الدول، خاصة الدول التي يمكن وصفها بأنها تقع في تصنيف (دول ما بعد التاريخ) وفقًا لنظرية المفكر السياسي الأميركي “فرانسيس فوكوياما”في كتابه (نهاية التاريخ) الصادر عام 1992، حيث يرى باختصار أن التاريخ انتهى أو في طريقه للنهاية، وهناك دول ستكون ما قبله وتقوم على الأيديولوجيات والحروب، ودول ما بعده تستند إلى المصالح والليبرالية الإنسانية.
الدكتور “جوزيف ناي” الذي وضع مفهوم القوة الناعمة عام 1990، ثم طوَّره في صورته النهائية في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان (القوة الناعمة)، وصف القوة الناعمة بأنها: القدرة على الجذب والضم دون الإكراه، أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. في الآونة الأخيرة، تمَّ استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبيًا والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية؛ إذ قال “جوزيفناي” إنه مع القوة الناعمة “أفضل الدعايات ليست دعاية”، موضحًا أنه وفي عصرالمعلومات، تعدُّ “المصداقية أندر الموارد”.
القوة الناعمة.. علامة تجارية
في المملكة العربية السعودية كما في كثير من الدول التي تجاوزت الأيديولوجيات المعطلة نحو بلوغ تصنيف (دول ما بعد التاريخ)، نشطت فيها الكتابات والآراء وربَّما البحوث حول تحري القوى الناعمة التي يمكن استثمارها في تسويق الدولة اقتصاديًا وسياسيًا، فالدول أصبحت في عصر التسويق تماثل تسويق العلامة التجارية، والعلامة تستند إلى عدة مقومات لنجاحها، منها جودة المنتج الذي تسوِّقه للعالم، وثانيًا اتساع نطاق هذا المنتج لأكبر قطاع استهلاكي. وإذا كان المستهلك يعتمد في قراره الاستهلاكي على العلامة التجارية، وإذا كانت الشركات تقيم العلامة التجارية لأي صفقة تملك أو استحواذ تنوي إتمامها مع شركة أخرى، فإن العالم الآن، شعوبًا وحكومات، يقيمون الدول وفقًا لقوتها الناعمة (علامتها التجارية).
المضي في تقييم الدول وفقًا لعلاماتها التجارية (القوة الناعمة) يعتمد بالدرجة الأولى على نجاح العالم في تحقيق السلم الدولي وتطبيقات العولمة التي ترفع درجة المصالح بين دول العالم، غير أن أكبر مهدد لذلك الآن هو ارتفاع موجة التطرف والإرهاب المتبادلين حول العالم لأسباب تنطلق من اختلاف العقائد بالدرجة الأولى، تليها الأعراق والغبن وتضييق الفرص الذي ينتج من الهجرات المتزايدة من دول المتوترة أو الفاشلة اقتصاديًا إلى دول العالم الأول.
وعلى الرغم من أن العالم تعطل كثيرًا في تحقيق رؤية “فرانسيس فوكوياما” منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نحو تحقيق نهاية التاريخ، حيث شهد عودة قوية نحو الأيديولوجيات حتى في الدول المتقدمة ليبراليًا، إلا أن التجارب التي عاشتها الشعوب خلال القرون الماضية والمكاسب التي تحققت لديها كفيلة بإعادة المسار البشري إلى طبيعته نحو الخلاص من الأيديولوجيات باتجاه المصالح المشتركة، شريطة وجود حكومات رشيدة في كل دولة.
الشأن السعودي
في السعودية تحديدًا هناك فيما يبدو ثمة اتفاق لدى السلطات العليا على ضرورة إحياء (القوة الناعمة)، أو تعزيز الجوانب التي كانت مستخدمة، لكن بصورة غير فاعلة بدرجة عالية، لأسباب تتعلق بالتطرف الاجتماعي وسيطرة الخطاب الديني عقودًا طويلة وسط مفاصل المجتمع، مما أدى مع مرور الوقت إلى خلق حالة من التردد لدى صانع القرار في إمكانية استثمار عديد من أدوات القوة الناعمة خشية الاصطدام بالمجتمع، أو على الأقل الرفض باعتبار ذلك يتعارض مع الخطاب الذي كان متفردًا بالمجتمع.
غير أن هذه الحالة انجلت مع إعلان “رؤية المملكة 2030” التي لا يمكن لها أن تتحقق في ظل وجود (كوابح) اجتماعية وخطاب ديني متشدد يتخذ موقف الريبة من كل المتغيرات والنظريات الحديثة. ولأن الرؤية شاملة (اتجاه عام) فقد تضمنت مسارات سياسية واقتصادية واجتماعية، وهي أيضًا تعتمد (حرق المراحل) وفق حساب المخاطر والتحديات. ولا شك أن (حرق المراحل) تأتي بهدف تعويض الخسائر التي لحقت باقتصاد الوطن وبالمجتمع في ظل الجمود الذي استمر ثلاثة عقود.
وكون الحديث عن (القوة الناعمة) نشير هنا إلى مبادرات وزارة الثقافة التي أعلنتها قبل أيام والتي تضمنت 27 مبادرة، يضاف إلى ذلك تأسيس هيئة تطوير العلا وإحياء المواقع التاريخية هناك، ورفع الحرج بالحديث عن مواقع يعود تاريخها إلى آلاف السنين وارتباطها برسل وأنبياء وتجارب إنسانية من عهود قديمة، فإن هذه الأدوات – مع غيرها أيضًا – ستردف المكانة السعودية التي تتمتع بحضور سياسي قوي في العالم واقتصاد متين يوفر للعالم السلعة الأهم حاليًا (النفط)، فهذان العنصران مع المبادرات الثقافية والسياحية استنادًا إلى التنوع التاريخي والعمق الحضاري للسعودية سينتج علامة تجارية مطورة للمملكة، ترتكز إلى السياسة الحكيمة والاقتصاد القوي والعمق الحضاري للمكان والتسامح الاجتماعي.
كيف لنا تحويل الرؤية والقوى الناعمة إلى علامة تجارية؟
السؤال الذي يقبل المناقشة والطروحات، هو كيف لنا أن نجعل من قوتنا الناعمة علامة تجارية خاصة فينا، (كلمة خاصة) هنا لا علاقة لها بالخصوصية التي كانت إحدى أدوات الجمود فيما مضى، بل القصد أن تكون القوة الناعمة التي سنعززها ونصدرها للآخر تشير مباشرة إلى السعودية بالحد الأدنى… لا شك أنه بالضرورة أن يكون لدينا صناعة سينما ومسرح وآثار إنسانية تستقطب السياح من أصقاع العالم ومهرجانات تراعي الاختلاف المناخي من منطقة إلى أخرى. لكن من المؤكد أن موقعنا الجغرافي ومساحتنا وتنوعنا البيئي والثقافي يتيح لنا قوة ناعمة عالمية متفردة أو مرتبطة مباشرة بالسعودية.
فمثلاً ألمانيا وضعت لنفسها مسارًا في (القوة الناعمة) يتمثل في كونها بلد الأفكار وتسوق ذاتها باعتبارها قدمت للبشرية إسهامات جليلة في شتى حقول الثقافة والعلوم الإنسانية. (حصد العلماء والمفكرون الألمان حتى الآن حوالي 80 جائزة نوبل). الهند – على سبيل المثال – وهي تملك مساحة شاسعة وقوى بشرية واقتصادًا متنوعًا، تمثل (الأفلام الهندية) الراقصة التي تستند إلى الحب والسلام، أساس القوة الناعمة الهندية حول العالم.
اليابان ظهرت فيا لتقرير العالمي للقوة الناعمة لعام 2018 كأول دولة آسيوية ضمن أفضل 5 دول عالميًا بالقوة الناعمة، واليابان تسوق نفسها عالمًيا في الوقت الحالي بعيدًا عن جودة الصناعة والاستقطاب السياحي، في جانب ثقافي مهم فهي تقدم نفسها كمرجع في الرسوم المتحركة (الإينمي).
أمثلة لقوى ناعمة سعودية متفردة
في السعودية لدينا فرص واسعة في هذا الخصوص، والفكرة أن تكون هناك قوى ناعمة متفردة. الرياض لا شك أنها بات يُشار إليهابالبنان حول العالم في تجربة فصل التوائم.. من المناسب ربَّما إنشاء مركز بحوث متقدم في العاصمة لهذا الخصوص ويبنى مستشفى خاصًا بهذه الحالات ويستقطب لها الأطباء من حول العالم لتقديم المعرفة أو للحصول عليها.
غربًا، بالإمكان أن يكون لدينا مهرجان سنوي تحت مظلة وزارة الثقافة باسم (مهرجان البحر الأحمر الفني) يجمع الفنون الشعبية التي تشترك وتتقاطع فيها الدول الواقعة على البحر الأحمر شرقًا وغربًا، ونحن نعرف أن كثيرًا من تلك الفنون في عديد من الدولة تبدو ذات مصدر واحد. مثال، يمكن لنا أن نحول (مهرجان صيد الحريد) في جازان إلى قوة ناعمة وليس فعالية سياحية فحسب، ووضع مأسسة هذه الفعالية ورعايتها إعلاميًا كما يجب وتسويقها حول العالم، لا شك يمثل علامة تجارية خاصة. أسواق الأسبوع في الجنوب السعودي أيضًا تستحق المأسسة، بحيث تتحول إلى منتج تصدر تجربته للعالم. لا يمكن بطبيعة الحال أن نتخطى تجربة جامعة (كاوست) فهي تجربة جديرة بالتسويق العالمي.
دائمًا نتذكر أن الاستقرار السياسي والمتانة الاقتصادية والتنوع المناخي والطبيعة الخلابة والتعدد الثقافي يوجد في دول كثيرة حول العالم، لكن لكل دولة (مفتاح) أو قيمة مضافة تتفرد بها في الغالب عن بقية الدول… السعودية تفردت طويلاً باعتبارها منتجًا آمنًا لأهم سلعة في العالم (النفط)، كما فعلنا ذلك عقودًا، يمكننا الآن أن نتفرد في علامة أخرى تلامس السياحة أو الثقافة في العالم.
كاتب وباحث سعودي*
@abdulla_athe
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر