“الرياض آرت”.. رأس المال الثقافي السعودي | مركز سمت للدراسات

“الرياض آرت”.. رأس المال الثقافي السعودي

التاريخ والوقت : السبت, 23 مارس 2019

إميل أمين

 

قبل أيام كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يطلق أربعة مشروعات نوعية كبرى في مدينة الرياض العاصمة؛ حديقة الملك سلمان، ومشروع الرياض الخضراء، ومشروع المسار الرياضي، ومشروع «الرياض آرت».

نظرة سريعة توضح أننا أمام مشروعات تهتم بترقية الإنسان السعودي وتحفيز مسارات الجمال والخيال والحس الإنساني، عطفاً على أنها توفر عشرات الآلاف من فرص العمل للشباب السعودي.. مشروعات تسعى في طريق توفير ضروب من الحياة الفكرية العميقة التي تمزج بين الطبيعة بسحرها، والآداب والفنون برونقها.

لسنا في حاجة إلى التأكيد ومن جديد على أنه كلما اتسعت دائرة اللمسات الروحانية والإبداعية، تقلصت الدوائر المتطرفة والإرهابية، وبقدر ما يمكن للمملكة أن تفتح صدرها وقلبها لأبنائها بدايةً وللعالم من حولها، فإن عنصرها البشري سيضحى قادراً بغير وجل أو خجل على عيش الانثقاف الخلاق مع بقية شعوب الأرض.

يستوقف صاحب هذه السطور في المشروعات الأربعة على أهميتها جميعاً، مشروع «الرياض آرت»، ذاك الذي يهدف إلى تحويل العاصمة السعودية إلى معرض فني مفتوح يمزج بين الأصالة والمعاصرة، وذلك من خلال تنفيذ ألف عمل ومَعلم فني من إبداع فنانين محليين وعالميين أمام الجمهور في مختلف أرجاء الرياض، لتشكل أكبر مشاريع فن الأماكن العامة في العالم.

من البديهي القول إن المشروع الذي نحن بصدده يتساوق وروح «رؤية 2030» بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث التوجه إلى الانفتاح والتسامح، إلى التثاقف والتلاقي مع الآخر، إلى الوسطية الجميلة التي سادت وأفرزت حضارة عربية يتحدث بها الركبان حتى الساعة، وبعيداً عن ضيق الآيديولوجيات، ونار الأصوليات التي ما فتئت تقسم البشر، وتحثهم على التناحر صباح مساء كل يوم كما رأينا مؤخراً في نيوزيلندا ومن أسف شديد.

«الرياض آرت»، يعني ببساطة إطلاق آفاق جديدة للحركة الإبداعية، وجعل العاصمة السعودية حاضنة للأعمال الفنية والمختصين بالإبداع ومن أرجاء العالم كافة.

هل مشروع «الرياض آرت» مشروع تقليدي ينضوي ضمن رؤى مستقبلية كثيرة للمملكة، منها الاقتصادي، ومنها الاجتماعي، إلى آخر التصنيفات والتبويبات المختلفة للنهضة القائمة والقادمة على أرض المملكة؟

أغلب الظن أن الأمر هنا مختلف ويتجاوز ما هو ظاهر للعيان؛ ذلك أننا في واقع الحال أمام قضية رأسمال سعودي حقيقي جديد على الأرض، لكنه ليس نتيجة مباشرة لاقتصاد الريع أو لبيع النفط.. إننا أمام مراكمة لرأس المال الثقافي، هذا المصطلح الذي استنه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002)، وعنده أنه كما يكدس الأفراد الأموال البنكنوتية لاستخدامها في الأغراض الحياتية، كذلك فإنهم يمتلكون – شعوباً وقبائل – بصورة أو بأخرى مخزونات ثقافية، ومهارات معرفية، وبناءات فنية، تجعل من واقعهم الإنساني رأسمال فاعلاً في الحاضر، وناجزاً في المستقبل لصالح الأجيال القادمة.

لعله من المثير القول إن أصحاب رؤى العولمة، ولا سيما في الولايات المتحدة يمضون في سياق ونطاق تعظيم دور رأس المال الثقافي في حياة الدول المعاصرة، ويرون أن أي تغيير اقتصادي أو سياسي سيلف العالم في العقود المقبلة، سيكون منطلقه ثقافياً في الأصل، وهي رؤية يمكن القول إنها تتماهى بدرجة أو بأخرى مع ما ذهب إليه عالِم الاجتماع السياسي صمويل هنتنغتون من قبل، حين أشار إلى فكرة المرتكزات الثقافية ودورها حول البسيطة، وإن مال إلى الإغراق في التشاؤم من خلال تقسيم العالم تقسيماً صدامياً، ولم يركن إلى الانطلاق في آفاق التعاون والوفاق.

قرار خادم الحرمين الشريفين بإنشاء المشروعات الأربعة المتقدمة، وفي القلب منها «الرياض آرت»، يفيد بأن الرهان هذه المرة على الجواد الحقيقي الرابح، جواد التراث الحضاري والتاريخي السعودي، ولهذا يوماً تلو الآخر نرى جهوداً مضاعفة للعناية بالتراث والآثار، حيث الدولة تعمل بتفكير وتدبير من أجل إعادة استكشاف التراث الوطني وترميمه وتطويره، وهي هنا تزيل الركام من على رأس المال الإنساني الذي خلفته الحضارة العربية في شبه الجزيرة العربية، والذين لديهم معرفة تاريخية يدركون أنه تراث إنساني غني ومتنوع، تراث عرف فكر التعددية قبل ظهور الإسلام، وتعززت فيه مشاركات الغير بعد الدعوة، سيما أن الأمر بات متصلاً بفلسفة قرآنية «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».

أفضل رسالة يمكن للمملكة أن تبعث بها للعالم عن رسم ووسم السعودية في قادمات أيامها هي التفتيش في أضابير التاريخ، وتقديم المحتوى البشري العميق والمفيد، ولعل فكرة معرض «روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور» الذي تجول في أكثر من عشرة متاحف شهيرة في أوروبا، والولايات المتحدة، والصين، وكوريا، ويحوي 466 قطعة أثرية نادرة تقوم بالتعريف بالبعد الحضاري للمملكة وإرثها الثقافي، لهو أفضل طريق لإعادة رسم الصورة الحضارية للعرب والمسلمين في عيون الغرب عامة، وعند أصحاب اليمين المتطرف بنوع خاص.

«الرياض آرت»، موعد لنهضة عابرة للحجر، وقافزة إلى قلوب وعقول البشر، نهضة رأس المال الذي لا يسرقه سارق ولا يفسده السوس.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر