روسيا في شبه جزيرة القرم والبحر الأسود | مركز سمت للدراسات

دوافع التمدد: تنامي الأصول العسكرية الروسية في القرم والبحر الأسود

التاريخ والوقت : الأربعاء, 24 نوفمبر 2021

لواء بحري أ. ح / محفوظ محمد طه مرزوق

 

قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم (في فبراير – مارس 2014)، وأعقبت هذا الضم بإجراء استفتاء أسفرت نتائجه الرسمية عن أن 96,7% من سكان شبه جزيرة القرم يؤيدون إعادة توحيدهم مع روسيا، وفي إبريل من نفس العام حشدت روسيا قوات ضخمة على الحدود الروسية الأوكرانية بما يوحي أنها ستقوم بغزو واسع النطاق لأوكرانيا، وعلى الرغم من عدم حدوث هذا الغزو إلا أن هذا التحرك قد أظهر كيف يمكن لروسيا التأثير على سياسات الدول المجاورة ‬تلك الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي السابق قبل تفككه وتتطلع حالياً للانضمام إلى ، حلف شمال الاطلنطي، وذلك من خلال التهديد بالغزو العسكري واسع النطاق، كما أكد قدرة روسيا على استخدام القوه العسكرية كأحد أهم أدوات السياسة الخارجية.

وفي مارس – إبريل من هذا العام قررت روسيا تنفيذ سيناريو شبيه بما حدث في عام 2014، حيث قامت ببناء تجميعات قتالية ضخمة في شبه جزيرة القرم وبما يتيح لها القيام بعمليات عسكرية شاملة ليس فقط في بحر أزوف والبحر الأسود، بل أيضا في شرق ووسط ومشارف غرب البحر المتوسط، وفي نفس الوقت قامت ببناء حشود عسكرية ضخمة على الحدود الروسية الأوكرانية بالقدر الذي دفع الغرب إلى إعادة التكهن بإمكانية قيام روسيا بغزو أوكرانيا.

أولا: دوافع الحشود العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم

يمكن تناول دوافع الحشود العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم وطموحات روسيا في البحر الأسود على النحو التالي:

١. الأهمية الاستراتيجية لشبة جزيرة القرم

تقع شبه جزيرة القرم على الساحل الشمالي للبحر الأسود وهى محاطة بالبحر الأسود من الجنوب والغرب وببحر أزوف من الشمال الشرقي وبأوكرانيا من الشمال، ويفصلها عن روسيا ممر ضيق بين بحر أزوف والبحر الأسود تسمى ممر (KERCH Strait).وبعد إعلان ضم روسيا لشبه الجزيرة في عام 2014 بعدة أيام بدأت عمليات دمج شبه الجزيرة في الاتحاد الروسي، واستثمرت الحكومة الروسية بكثافة في البنية التحتية وإصلاح الطرق وتوصيل الكهرباء وتطوير مصادر جديدة للمياه لتحل محل المصادر الأوكرانية التي تم إغلاقها، وكان من أهم هذه المشروعات إنشاء كوبرى ذو مسارين أحدهما للسكة الحديد (Railroad Bridge) وأخر برى (Road bridge)، ومن خلال هذا الكوبرى تم ربط روسيا بشبه جزيرة القرم برياً، ويبلغ معدل المرور السنوي على هذا الكوبرى 33,000 مركبة / سنه.

ويشار إلى أن أوكرانيا لها ميناءين رئيسين على بحر أزوف حيث تصدر الصلب والمنتجات الزراعية، ويعتبر هذا الكوبرى هو جزء من حصار هجين (Hybrid blockade) على الموانئ الأوكرانية حيث زادت عمليات التفتيش على السفن بشكل كبير منذ افتتاح الكوبرى في مايو 2018. وزادت فترات الانتظار للسفن لأكثر من ثلاثة أيام، كما احتجزت القوات البحرية الروسية 3 سفن أوكرانية واعتقلت أطقمها قبل السماح للسفن بالمرور، كما حد الكوبري من ارتفاع السفن المارة أسفله ليكون أقصى ارتفاع لها 33 متراً، وباختصار فقد قلت حركة التداول في الموانئ الأوكرانية في بحر أزوف إلى 25 % من حجم التداول قبل إنشاء الكوبري.

٢. الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود لدى روسيا

ترى روسيا ضرورة السيطرة على منطقة البحر الأسود التي تشكل أهمية كبرى على المشهد الجيوإستراتيجى والجيواقتصادي لروسيا في مفصل هام يربط منطقة أوراسيا وذلك لخمسة أسباب رئيسية:

منع الإخلال بالتوازن الاستراتيجي الإقليمي في أوروبا لصالح الناتو ، وذلك من خلال ردع الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي السابق قبل تفككه عن مجرد التفكير في الانضمام إلى حلف الأطلنطي، وفى هذا الصدد يشار إلى أنه في العقدين الذين أعقبا انتهاء الحرب الباردة، انضمت بلغاريا ورومانيا إلى حلف شمال الأطلنطي (NATO) وهما من الدول المطلة على البحر الأسود ، وكذا دول بحر البلطيق أستونيا ولتوانيا ولاتفيا، كما أعلنت جورجيا وأوكرانيا عن نيتهما إلى الانضمام إلى الحلف، وقد تحقق هذا الردع عندما أظهرت روسيا استعدادها لاستخدام قوتها العسكرية لمنع أي دولة من الانضمام إلى الناتو من خلال العمليات العسكرية التي تمت ضد جورجيا 2008 وأوكرانيا في 2014.

نمو التهديد الأمني من السفن الحربية لحلف الأطلنطي المبحرة في البحر الأسود وبعض الدول المحيطة بذلك البحر، فقرب هذا البحر من قلب روسيا الأوروبية ودخول هذه المنطقة الحيوية داخل مدى الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى التي تطلق من وحدات بحرية أو من البر مع وضع نظام دفاع صاروخي لحلف الناتو في رومانيا كل ذلك أصبح يشكل تحدياً للأمن القومي الروسي.

ترى روسيا أن شبه جزيرة القرم تعتبر نقطة انطلاق لإظهار قوتها (Projection Of Power) في البحر الأسود ولكسب النفوذ في البحر المتوسط الذى يسيطر عليه الناتو إلى حد كبير، مع الوضع في الاعتبار أنها تأمل في خلق الفرص لمزيد من التمدد سياسية واقتصادية وعسكرية مع الدول الإقليمية الرئيسية المطلة على شرق هذا البحر (كما فعلت في سوريا على سبيل المثال) ، كما أنها تتطلع إلى فرص لتوسيع نفوذها مع دول مثل مصر وإسرائيل وقبرص وليبيا وتركيا.

لدى روسيا أصولاً اقتصادية مهمة في البحر الأسود يجب حمايتها حيث يمثل البحر الأسود شرياناً مهما للتجارة والنقل لروسيا … كما تعتمد كل من روسيا ودول أسيا الوسطى اعتمادا كبيراً على ميناء نوفورو سيسك الروسي لتصدير الحبوب والنفط وهذا يوفر نفوذاً سياسياً كبيراً على دول أسيا الوسطى غير الساحلية، كما أن البحر الأسود يعتبر معبراً لخطوط أنابيب النفط والغاز من روسيا إلى أوروبا وبالذات إلى جنوب أوروبا لجعله أكثر اعتمادا على النفط والغاز الروسي … وأيضا لحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع الأسواق الأوروبية الرئيسية، مع الوضع في الاعتبار علاقات روسيا المتنامية في مجال الطاقة فى البلقان وخاصة في بلغاريا ومقدونيا الشمالية وصربيا والتي عززت من قدرة روسيا على استخدام الطاقة للدفاع عن مصالحها فى منطقة البحر الأسود وجنوب أوروبا.

ثانيا: عسكرة شبه جزيرة البلقان

لإحكام السيطرة على البحر الأسود وبسبب مزيج من الجغرافيا والسياسة قامت روسيا بتنفيذ استراتيجية المنع من استخدام البحر (Sea Denial) … وذلك ببناء تجميع قتالي يمنع وصول (Anti-Access) ويحرم القوات البحرية للناتو من استخدام البحر الأسود (Area Denial) في أي عملية عسكرية وهو ما أصطلح على تسميته (A2-AD) أو على الأقل إبعاد هذه القوات خارج البحر الأسود لأبعد مسافة ممكنة بما يقلل فاعليتها وذلك في حالة فشل المنع.

وشمل التجميع القتالي الروسي بالبحر الأسود إضافة 3 فرقاطات صاروخية موجهة طراز جريجو فيتش، والطراد موسكوفا الحامل للصواريخ الموجهة، و4 فرقاطات حديثة الطراز كريتاك، و6 غواصات، و12 لنش صواريخ ، وعدد من سفن الإبرار قادرة على إبرار 160 مركبة قتالية مدرعة في المرة الواحدة ، بالإضافة إلى 4 سفن استطلاع حديثة تحمل أحدث أجهزة إلكترونية للبحث والاكتشاف والقيام بأعمال الإعاقة الإلكترونية . كما يشار إلى أنه يمكن تعزيز هذا الأسطول بوحدات إضافية من أسطول بحر قزوين عبر قناة الفولجا دون (Volga–Don Canal) وعلى ذلك فيمكن إضافة فرقاطة ، 6 طرادات ، 6 سفن إنزال صغيرة مناسبة تماما للإبحار في المياه الضحلة لساحل بحر أزوف التي لا تستطيع سفن الإنزال الكبيرة الوصول إليها.

ويمتلك الأسطولان في البحر الأسود وبحر قزوين قدرات نيرانية هائلة وغير مسبوقة من الصواريخ الموجهة، وعلى سبيل المثال يبلغ مدى الصاروخ كاليبر (KALIER) المحمول على متن الفرقاطات الروسية 2500 كم وهو قادر على حمل رءوس حرب تقليدية ونووية … وعلى ذلك فإن هذه الوحدات من مواقعها في المياه المحمية جيداً حول شبه جزيرة القرم يمكنها شن ضربات نووية ضد أهداف في معظم أنحاء أوروبا. وإذا أضفنا إلى ذلك القوة النيرانية الهائلة للصواريخ الموجهة المحمولة على مركبات أرضية والتي تم حشدها مؤخرا في شبه جزيرة القرم مثل الصاروخ إسكندر (ISKANDER) ومداه 500 كم والذى تصل سرعته إلى 7 ماخ ويحمل رأساً حربية ضخمة تصل إلى 800 كم مع قدرة الصاروخ على المناورة على ارتفاعات ومسارات مختلفة في مرحلة الاقتراب الأخيرة من الهدف مما يجعل اعتراضه بنطاقات الدفاعات المضادة للصواريخ الموجودة فى الخدمة حالياً صعباً للغاية وخصوصا إذا تم إطلاقة مع شراك خداعية وأعمال إعاقة إلكترونية إيجابية أو سلبية … وكذا الصاروخ باستيون (BASTION) ومداه 420 كم … لأمكننا القول بأن شبه جزيرة القرم قد أصبحت منصة يمكن من خلالها تهديد مناطق واسعة من أوروبا وستكون له عواقب استراتيجية تتجاوز منطقة البحر الأسود.

كما يشار إلى أن روسيا قد حشدت قوات برية ضخمة يبلغ عددها 31,500 جندي من القوات الخاصة وقوات الإبرارالجوى والبحري (وهى قوات التأثير في العمق) مدعومة بـ 40 دبابة، 583 مركبة مدرعة، 162 مدفع ميدان أنواع ، 122 طائرة مقاتلة قاذفة للمعاونة النيرانية ، 62 طائرة هليكوبتر مع إجراء عدد من التدريبات على الاستيلاء على مطارات معادية لاستخدامها … وعلى القيام بإغارات على مناطق استراتيجية معادية … مما يشير إلى طبيعة العمليات المستقبلية التي تخطط لها روسيا انطلاقا من شبه جزيرة القرم.

وتعمل القوة الصاروخية الغير مسبوقة المحمولة على الوحدات البحرية وتلك القوة الصاروخية المحملة على مركبات والتي تم حشدها في شبه جزيرة القرم تحت ستر أعمال قتال منظومات دفاع جوى متطورة من الصواريخ الموجهة طراز (S-500) والتي يبلغ مداها 35,000 كم ، وهى قادرة على تدمير جميع أنواع الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والأهداف الموجودة في الفضاء الخارجي، وكذا منظومات (S-300) ، (S-400) ، وكلها مدعومة بمنظومات متطورة للبحث والاستطلاع والمتابعة والقيادة والسيطرة (C4ISR) …هذا بالإضافة إلى المقاتلات الحديثة .

ويعد الجزء الأهم في هذا التجميع القتالي هو بناء منظومة حديثة للدفاع ضد الطائرات الموجه بدون طيار بعد أن أثبتت فعالية عالية خلال العمليات العسكرية التي دارت بين أذربيجان في أرمينيا في ناجوروكاراباخ، وشملت هذه المنظومة أحدث نظام إعاقة إلكترونية على اتصالات الأقمار الصناعية العسكرية عالية التردد وبمدى أكثر من 5000 كم، وأنظمة الإعاقة الألية طراز الآلي (RB-341B Leer-3) ، (RB-301B Borisoglebsk-2) ، (R-330Zh Zhitel) بالإضافة إلى نظام التشويش اللاسلكي الأرضي (Krasukha) (TASS)، مع الوضع في الاعتبار دمج هذه الأجهزة الحديثة في نظام متعدد الطبقات حيث تم تحميل بعضاً من هذه الأجهزة على طائرات هليكوبتر طراز كا 52 العالية المناورة لاكتشاف وتدمير الطائرات الموجهة بدون طيار وكذا على طائرات الهيلكوبتر الهجومية من طراز (MI-28) … فإذا أضفنا إلى ذلك أنظمة المدفعية ذاتية الدفع وأنظمة المدفعية المضادة للطائرات الموجهة بالرادار لأمكننا تصور مدى قدرة النظام الدفاعي المضاد للطائرات والصواريخ والطائرات الموجهة بدون طيار على توفير الحماية للقوات البحرية العاملة بالبحر الأسود وكذا القوات البرية التي تم حشدها في شبه جزيرة القرم.

جدير بالذكر أن روسيا تمتلك قدرًا مفرطًا من البنية التحتية العسكرية في شبه الجزيرة نسبة إلى حجم القوات المتمركزة بشكل دائم هناك … وبما يشير إلى تجهيز هذه البنية لقوات إضافية يمكن دفعها إلى شبه الجزيرة لتهديد باقي دول أوروبا وعلى سبيل المثال القاذفات الاستراتيجية طراز (TU-22) والطائرات المقاتلة ميج 31 الحاملة للصواريخ الموجهة، وذلك في ضوء أن إطلاق الصواريخ والطائرات من شبه الجزيرة سيقلل من زمن الإنذار المتاح للمدافعين في دول الناتو … وبما يؤكد أن شبه جزيرة القرم قد أصبحت منصة يمكن من خلالها تهديد مناطق واسعة من أوروبا وستكون له عواقب استراتيجية تتجاوز منطقة البحر الأسود.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر