تغيّرت الدنيا بأبعد مما تصوره أصحاب نظريات التغيير، وأحياناً على عكس ما توقعوه. “شبح الشيوعية الذي يجول في أوروبا”، كما قال ماركس وإنغلز في “البيان الشيوعي” في القرن الثامن عشر، صار حقيقة حكمت نصف العالم، ثم انهارت مع الاتحاد السوفياتي في نهايات القرن العشرين.
“نهاية التاريخ” التي رآها فرنسيس فوكوياما بعد جدار برلين وانتصار “الليبرالية الاقتصادية والديمقراطية السياسية” لم تكن نهاية، لأن التاريخ لا ينتهي. والوقائع سمحت للمفكر كيشور محبوباتي بالقول رداً على فوكوياما: “نهاية التاريخ تعادل انتصار الغرب، وعودة التاريخ تعادل تراجع الغرب”.
ألكسيس دوتوكفيل سافر إلى أميركا في القرن التاسع عشر مشغولاً بسؤال جوهري: لماذا انهارت الديمقراطية والأخوة والمساواة بعد الثورة الفرنسية، ونجحت الديمقراطية في أميركا بعد ثورة الاستقلال؟ وبعد قرنين قام مواطنه الفيلسوف الفرنسي برنار- هنري ليفي برحلة على خطاه في أميركا.
دوتوكفيل اختصر الجواب في كتاب “ديمقراطية في أميركا” بما سمّاه فن الترابط، والجمعيات والاتحادات الزراعية والصناعية والمهنية، واللا مركزية، وديمقراطية المدن الصغيرة، والتصويت المباشر في قاعات البلدية والعائلة والمدرسة.
أما في فرنسا، فإن “الفلاسفة صاغوا أفخم المبادئ، ولكن الترابط مفقود بين أبناء الشعب”. وليفي رأى في كتاب بالعنوان نفسه “أن أميركا كابوس لليمين المتطرف، لأنها قائمة على العقد الاجتماعي”.
لكن اليمين المتطرف يشل أميركا اليوم. وموجة اليمين المتطرف تكبر في العالم على حساب يمين الوسط. وموجة اليسار المتشدد تخسر، بحيث انحصرت في كوبا الأخوين كاسترو، وكوريا الشمالية تحت حكم أسرة كيم إيل سونغ من الجد إلى الابن والحفيد، وفنزويلا تحت سلطة سائق الباص مادورو بعد الضابط الانقلابي تشافيز.
أما الصين فإنها غادرت التشدد بعد ماو باستثناء الضبط السياسي تحت حكم شي جينبينغ والحزب الشيوعي. وليس هجوم الغوغاء على الكونغرس سوى مشهد في التطرف اليميني الذي يدور حول الرئيس السابق دونالد ترمب، ويقود أميركا إلى “حرب أهلية سياسية” في ظل استقطاب كامل بين الجمهوريين والديمقراطيين.
يمين عنصري يؤمن بالخرافات ونظرية المؤامرة، ويصدق أكاذيب ترمب عن تزوير الانتخابات. وهذا ما جعل فوكوياما يقول: “لا تستطيع أن تمنع الشعب من الإيمان بهراء مجنون”. ترمب لم يستطع أن يتحمل رؤية الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض. ونتنياهو يفعل مثله مع حكومة بينيت – لابيد التي أخرجته من السلطة بعد 12 عاماً متواصلة. لا بل إن نتنياهو يقول علناً ما لم يقله بيغن وشارون، وهو إنه ضد أية دولة فلسطينية، وضد أي حزب أو شخص لا ينتمي إلى اليمين المتطرف الديني أو العلماني.
ترمب يصف إدارة بايدن بأنها “شيوعية يسارية” خطرة على أميركا، مع أن بايدن يمثل التقليد الكلاسيكي الأميركي. ونتنياهو يصف الحكومة الجديدة التي تضم الأكثر تطرفاً منه في اليمين مثل بينيت وساغر وبعض الوسط واليسار بأنها “حكومة يسار خطيرة على إسرائيل” مع أنها تزايد على نتنياهو في اليمينية والتشدد.
ولا أحد يعرف إلى أي حد تستطيع البرازيل أن تتحمل تطرف الرئيس بولسونارو وسلطويته، وتتمكن المجر من أن تجدد لرئيس الوزراء أوربان وسلطويته المتشددة، وتغرد بولونيا خارج السرب الأوروبي، وتتقبل الفيليبين تشدد دوتيرتي، وتقاد تركيا بأهواء أردوغان.
لكن فرنسا أعطت درساً مختلفاً لأميركا والعالم. بعد عقود من تناوب اليسار واليمين على الحكم، تعبت فرنسا من اليمين واليسار واختارت رئيساً قال إنه خارج اليمين واليسار هو ماكرون. وهي تبدو اليوم كأنها تعبت من حزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي أنشأه ماكرون على عجل وأعطاه الفرنسيون أكثرية نيابية، كما من حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبن. إذ كان الحزبان بين الخاسرين في الانتخابات المحلية التي وصلت نسبة المقاطعة فيها إلى 86 في المئة، حين وصف اليساري المتشدد والخاسر، ميلونشون، رئيس حزب “فرنسا المتمردة” الوضع بأنه “ديمقراطية بلا ناخبين”. أما الرابحون، فإن بينهم “الخضر”، واليمين الكلاسيكي الذي يمثله “الجمهوريون” والوزير السابق كزافييه برتراند المرشح لمنافسة ماكرون في الانتخابات الرئاسية.
وأخطر ما في اليمين المتطرف أنه يمارس بنجاح سياسة الشعبوية. وقمة الخطر أن تتوسع موجة الحزب اليميني المتطرف والنازي “البديل من أجل ألمانيا”، لأن ما يحدث في ألمانيا يؤثر في مصير أوروبا كلها. فليس في “أجندة” اليمين المتطرف حل للمشكلات الحقيقية التي تواجه الناس في العالم المعاصر. واللعبة تتوقف على الحلول التي يقدمها يمين الوسط المقترب من بعض طروحات اليسار الاجتماعية، ويسار الوسط المقترب من مواقف اليمين في مشكلة اللاجئين.