سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
غسان عبدالخالق
لعلّ من أبرز القضايا التي أعادت جائحة الكورونا إلقاءها على بساط البحث، قضية العلاقة الجدلية بين اللغة والاقتصاد أو بين الكلمة والسوق. ورغم أنّ هذه العلاقة قد أُشبعت بحثاً في الحقبة الواقعة ما بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر، إلا أنّ اضطرار مئات الملايين من الناس للمكوث في منازلهم، والتعامل مع العالم الخارجي من خلال الكلمة المكتوبة أو المنطوقة إلكترونياً، أعاد إلى الأذهان ضرورة استئناف البحث في وجوه الشبه الكثيرة بين الكلام والنقود.
من حيث المبدأ فإنّ المعجم اللغوي المتداول في زمان ومكان محدّدين، يمثل سوقاً بكل ما في الكلمة من معنى، حيث تتصدّر هذا السوق مفردات بعينها وتغدو الأكثر تأثيراً في الواقع، إلى درجة أنّ معظم أفراد مجتمع النخبة يسعون لفهمها أو لامتلاكها. ولعلّ أبرز مثال يمكن أن نسوقه على هذا الصعيد يتمثّل في كلمة (العولمة) التي غدت المفتاح الذهبي لمعجم ذي طابع اقتصادي خاص ومتقدم، ولا بد لرجل الأعمال من الإلمام به حتى يواكب التطورات المتسارعة في الأسواق العالمية. ومن البديهي التذكير بأنّ صعود عدد من المفردات، يكون، حتماً، على حساب عدد آخر من المفردات التي سرعان ما تتوارى تدريجياً حتى تضمر، مثلها في ذلك مثل أي سلعة قديمة تجاوزها الذوق العام.
ما تقدم يؤكد أنّ مفردات اللغة مثل كل بضائع السوق؛ أي إنّها تخضع لقانون العرض والطلب ولأسباب موضوعية بحتة. ولعل معجم المفردات الوجودية الذي اجتاح الأدب العربي بعد هزيمة 1948 وبدرجة أكبر بعد هزيمة 1967، يؤكد العلاقة التاريخية بين اللغة والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والنفسي؛ فكان من البديهي أن يمور غير قليل من القصص والروايات والقصائد بمفردات مثل: السّأم، القلق، التوتر، الخواء، اللاجدوى، العدم، الغثيان!
على أنّ وجوه الشبه بين اللغة والاقتصاد يقابلها غير قليل من الأمثلة على سوء الفهم الناشئ عن مغالطات متجذرة في الوعي العام. ومن أبرز هذه الأمثلة إصرارنا على وصف من يقول ولا يفعل بأنه (بيّاع كلام)! مع أنّ الأشخاص الأكثر تأثيراً في التاريخ البشري هم الذين نجحوا في بيع كلامهم للناس. ومنها أيضاً إصرارنا على وصف حديث من لا نثق به بأنّه (كلام جرايد)! مع أنّ ما ينشر في الصحف، بغض النظر عن مصداقيته، تُمثّل معرفتُه غاية كل القرّاء. ولكن عبارة مثل (لا أشتري كلامك بفلس واحد) تجسّد العلاقة الوطيدة بين رأس المال اللغوي ورأس المال النقدي إلى حد بعيد جداً.
وكما أنّ الأسواق التجارية تشهد من آنٍ لآخر ارتفاعاً غير مبرر في أسعار السلع وتنخفض من ثم القيمة الشرائية للعملة النقدية، فإنّ الأسواق اللغوية تشهد من آنٍ لآخر تضخماً في استعمال بعض المفردات حتى تُفرَغ من مضامينها أو معانيها أو دلالاتها. ويمكننا أن نمثّل لهذا التضخم اللغوي بكلمات مثل: الشفافية، الواقعية، الوسطية، التي أدت المبالغة في استعمالها على نحو سطحي إلى ابتذالها تماماً.
بل إنّ عالَم اللغة يضم شخصيات نمطية تكاد تضاهي الشخصيات النمطية في عالم المال؛ فالّلغوي مثابر والنحوي متزمّت والعروضي حرْفي والناقد صارم والأديب متسامح، وأما المترجم فهو مراوغ؛ لأنه يتولى تبديل كلمات بكلمات، كما يتولى الصرّاف الذي يتمتع بالصفة نفسها في عالم المال تبديل عملة بعملة!
ويبدو أنّ وقائع الحياة والتاريخ، قد أكدت نفاذ بصيرة ماركس الذي التقط بحسه الفلسفي والنقدي العالي، المفارقة المتمثلة في مادية اللغة كونها التجسيد الواقعي للأفكار والعواطف وفي معنوية المال كونه لا يساوي شيئاً في حد ذاته إذا لم يتوفر له العقد الاجتماعي المطلوب؛ فالكلام ما زال العملة الأغلى بلا منازع، ليس فقط لأنه غير قابل للنفاد الذي يسم المال دائماً، بل لأن إطلاق عبارة مقتضبة واحدة من فم سياسي نافذ كفيل بهز الأسواق المالية؛ فتنهال أرباح خيالية على قلة من المحظوظين ويُمنى كثير من التعساء بخسائر فادحة جداً. ومما يؤكد نفاذ بصيرة ماركس على هذا الصعيد أيضاً، حقيقة أنّ أموال الأثرياء في المصارف، ليست أكثر من قيمة اسمية يُستدل عليها بسند مكتوب يُجْمل هذه القيمة أو يفصّلها، لكننا في معظم الأحوال لا نلمس هذه الأموال مادياً كما نحسّ باللغة على مدار الساعة.
وأياً كان الأمر، فإنّ الذاكرة الغربية زاوجت لغوياً ومنذ ثلاثة قرون على الأقل بين الزمن والمال؛ لأن الوقت من ذهب، فيما أنّ الذاكرة العربية ما زالت تزاوج لغوياً بين الزمن وبعض أدوات الصحراء لأن الوقت كالسيف! وبوجه عام فقد تحالفت أسواق اللغات بكل مستوياتها وأسواق المال بكل صنوفها عبر (الإعلانات) التي ما كانت لترى النور لولا مفردات اللغة التي غدت الآن المادة الأساسية لتسويق السلع على نحو مضمون. لكن علينا الاعتراف بأنّ الحراك المتبادل بين معجم اللغة الانجليزي وأسواق المال والأعمال في أوروبا وأمريكا يتجاوز كل التوقعات، مقارنة بالحراك المتواضع على الصعيد نفسه في الوطن العربي. ناهيك بأنّ هذا الحراك ذاهب باتجاه إغناء معجم اللهجات العامية على حساب معجم اللغة السليمة الذي مازال يعاني من غياب المدقّقين اللغويين المحترفين؛ فرجل الأعمال العربي ما زال يعتني باختيار سكرتيراته أكثر مما يعتني بتدقيق إعلاناته!
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر