الأمن الصحي والتقني في عالم كورونا | مركز سمت للدراسات

الأمن الصحي والتقني في عالم كورونا

التاريخ والوقت : الخميس, 18 مارس 2021

د. السيد ولد أباه

 

في مقال هام في صحيفة «فايننشيال تايمز» حول دروس سنة من مواجهة فيروس كورونا (26 فبراير 2021)، يذهب «يوفال نوح هراري» إلى القول بأن التحول الكبير الذي عرفه العالم مع الأزمة الصحية الكونية، يكمن أساساً في الانتقال إلى نمط الثورة التقنية الجديدة التي بدأت إرهاصاتها منذ سنوات، في أبرز سماتها التي يجملها في اتجاهي «الاستقلالية الآلية» و«القولبة غير المادية»، وما يترتب عليهما من إدارة الاقتصاد الجديد والتسيير الرقابي للبشر.

إن المقاربة التي يتحدث عنها هراري هي كون الثورة التقنية الثانية في الوقت الذي كثفت إلى مستويات غير متناهية إمكانات التواصل بين الناس، قلصت موضوعياً إلى حد بعيد الحاجة إلى الالتقاء المباشر والتجاور المكاني، وصاغت البدائل الفاعلة للقرب الميداني والحركة المادية.

ما تحدث عنه هراري ليس بالجديد في ذاته، فمنذ عقود أصبح الحديث عن حضارة الصورة والموجة الافتراضية والاقتصاد غير المادي، من مألوف الدراسات الاجتماعية، إلا أن ما بينته سنة كورونا الأولى هو أن ما كان مجرد اتجاهات وسيناريوهات مستقبلية أصبح حقيقة عملية، نتساءل: هل ستكون مرحلة مؤقتة بعد انقشاع الجائحة، أم ستكون نمطاً جديداً من الوضع الإنساني يتناسب مع المعطيات التقنية الراهنة؟

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الثورة العلمية الأولى التي حدثت في القرن السابع عشر قد كرست المفهوم الرياضي الصلب للمكان، بإلغاء المفاهيم الغائية والمعيارية في الطبيعة وتحويلها إلى مدى للترويض والقياس، بما أفضى إلى فكرة العلم الموضوعي الذي يكفل تملك الإنسان للطبيعة. ومن الجلي أن هذا التصور هو الخلفية العميقة للاقتصاد الرأسمالي الحديث القائم على الإنتاجية المكثفة.

ما تغير مع الثورة التقنية الجديدة هو انهيار الحواجز الصارمة بين المادي والإنساني، أي بين الآلة والذكاء البشري، بما كرس مفهوماً جديداً للمكان خارج ثنائية الواقعي والمتخيل، وأفسح المجال أمام انقلاب جذري في ملكات الإنسان الإدراكية والمعرفية.

وكان الفيلسوف الألماني «غونتر اندرس» يقول مع بدايات الثورة الاتصالية الحالية: إنه في السابق كانت الصور في العالم، بينما نشهد اليوم قيام عالم للصور يستقطب رؤيتنا دون انقطاع، هو أقرب لعالم الكهف الذي تحدث عنه أفلاطون في كتاب «الجمهورية» واعتبره عالماً من الظلال الحسية التي تحجب الحقيقة والواقع.

ولأول مرة مع هذا التحول تنفصم خاصة الرؤية عن الواقع، باعتبار أن موضوع الإبصار ليس الظاهرة الموضوعية في ذاتها، وإنما الشاشة الافتراضية المفتوحة التي حولت العالم إلى مسرح متخيل كبير لا مخرج منه.

في هذا الأفق الجديد يكون التواصل غير مادي لا يحتاج للتحرك والانتقال، بل يتم عن طريق التطبيقات الافتراضية التي تربط كل أرجاء المعمورة شبكياً، سواء من خلال شبكات التواصل الاجتماعي الناقلة للمعلومة والخبر، أو عن طريق شبكات التبادل الإلكترونية التي أظهرت فاعليتها في التجارة ونظام الشغل.

لقد نجحت هذه التقنيات الافتراضية في إنقاذ العالم خلال مرحلة الإغلاق الشامل، فصاغت البدائل العملية للتعليم المدرسي والعمل المكتبي والتجارة التوزيعية، كما كانت فعالة في أنظمة الرقابة العامة لضبط الوباء ومواجهته، لكنها طرحت في الآن نفسه تحديين كبيرين، لا يزال من المبكر تحديد مآلاتهما.

إن التحدي الأول يتعلق بالأمن الإلكتروني، ذلك أن الجائحة الحالية بقدر ما أظهرت الحاجة الموضوعية إلى التقنيات الرقمية الجديدة، كشفت في الآن نفسه عن مخاطر الجرائم السيبرانية وحوادث التعطل والتلاعب التي قد تشل الحياة العامة في العالم المرتبط والمُدار بالتقنيات الآلية الإلكترونية في مختلف جوانبه وأركانه. وهكذا يظهر من الجلي أن هشاشة الأوضاع الصحية العالمية في مواجهة الموجات الفيروسية الجديدة تلازمها هشاشة تقنيات الضبط والمراقبة والاتصال التي ظهرت نجاعتها في مواجهة الوباء والالتفاف على مصاعب وعوائق الإغلاق والحجر.

أما التحدي الثاني، فيتعلق بنظام الرقابة الإلكترونية الشاملة التي أصبحت من الضرورات الإلزامية لمواجهة مخاطر الوباء الصحي والإرهاب.. لكن هذا النظام يطرح إشكالات حقيقية بخصوص الحفاظ على الحريات الشخصية والعمومية في المجتمعات الليبرالية الديمقراطية.

ومن هنا الفكرة التي اقترحها هراري في مقاله المذكور لضبط المعلومات الشخصية التي فرضتها آليات الرقابة الصحية، بإنشاء سلطة عمومية عالمية مستقلة تسيّر المعلومات الرقمية الهائلة التي وفرتها إجراءات المتابعة الإلكترونية للحيلولة دون التلاعب بها أو توظيفها في مسارات قمعية أو غير مشروعة. وفي الاتجاه نفسه برزت اتجاهات جديدة للضبط القانوني والأخلاقي لشبكات التواصل الاجتماعي، التي غدت اليوم موقعاً لانتشار دعوات الكراهية والتطرف والنزعات الشعبوية العنصرية.

إن هذين التحديين سيكونان، دون شك، المدخل إلى الوضع البشري في المستقبل القريب العاجل.

المصدر: صحيفة الاتحاد

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر