بعد مرور عام على الصراع الإثيوبي، الذي بدأ بصراعات سياسية اتخذت فيما بعد أبعادًا ذات طبيعة عسكرية، بعد هجوم القوات الفيدرالية على القاعدة العسكرية في إقليم تيجراي بشمال البلاد في نوفمبر من العام الماضي. ورغم تصورات رئيس الوزراء الإثيوبي ” أبي أحمد” بأنه قادر على بسط نفوذه على الإقليم والقوات المتمردة في عملية خاطفة، إلا أن تبني قادة جبهة تحرير التيجراي لأسلوب حرب العصابات، استنزف الجيش الفيدرالي، وتحولت المعارك الميدانية، في تطورات محورية، لبدء قوات تيجراي باستعادة عاصمة الإقليم ” ميكيلي” والتقدم ناحية إقليمي الأمهرا والأورومو، في شهر يوليو الماضي. ومؤخرًا في تقدم ميداني لقوات التيجراي، بالتحالف مع جيش تحرير الأورومو؛ تمت السيطرة على عدد من المدن الاستراتيجية في إقليم أمهرا، بما جعل القوات في على بعد كيلومترات من العاصمة أديس أبابا؛ ذلك بالتزامن مع إعلان تسع قوات متمردة تتبع جماعات تيجراي وجامبيلا والعفر والصوماليين وبني شنقول وكيمانت وسيداما وأجوي تحالفها معا وتشكيل “الجبهة المتحدة للقوات الفدرالية والكونفدرالية الإثيوبية”.
في ضوء التطورات الميدانية المتسارعة، لا يزال البحث عن مخرج آمن من أتون الصراع، والبحث عن آفاق التهدئة، هو هدف نهائي للمجتمع الإقليمي وكذلك الدولي، بما يحافظ على استقرار البلاد، وكذلك المصالح الإقليمية. وبعد أشهر عديدة من الشجب والإدانة الدولية، أو توظيف أداة العقوبات للولايات المتحدة، إلا أنه لم يحدث تدخل من شأنه إثناء أطراف المعارك عن إنهاء الصراع، ومن ثمّ البحث عن الحلول السياسية واللجوء للتفاوض، وهو السيناريو الذي لا يزال مطروحًا عن إمكانية إعلان هدنة من شأنها فتح الباب للحوار، في ظل تمادي طرفي الصراع في التصعيد، مع تقدم القوات نحو العاصمة ” أديس أبابا”، وإجلاء الدول لرعاياها، ذلك بالتزامن مع حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة الفيدرالية، ودعوة كافة أبناء الشعب للانضمام للدفاع عن بلادهم.
غير أن تحركات أبي أحمد تعكس تماديه في خوض المعارك حتى الرمق الأخير، فقد أعلن في 24 نوفمبر الجاري، نقل صلاحياته لنائبه “ديميكي ميكونين” ليتولى هو خوض المعارك على الخطوط الأمامية بنفسه. كما طالب من الدول الإفريقية تقديم الدعم لبلاده، قائلًا ” إن إثيوبيا تشهد لحظاتها الأخيرة وندعو لإنقاذها من الانهيار”. يشير هذا الوضع إلى عناد كافة الأطراف، وعدم انصياعهم للنداءات الدولية، بما يؤكد أن الانتقال في إثيوبيا لا يحسم سوى بالحلول العسكرية. وفي حال استمرار المعارك فإن سقوط العاصمة في أيدي التيجراي، بات سيناريو غير مستبعد، بل إن أبي أحمد نفسه ودخوله على خط المعارك، يضع نفسه أمام سيناريو ” إدريس ديبي” الرئيس التشادي، الذي قتل على الجبهة الأمامية في معركته مع المتمردين.
أيا كانت النتيجة التي سيصل إليها الميدان، فلا مفرّ من الحوار السياسي، سواء بين الأطراف المتحاربة، أو بين أولئك المنتصرون، للاتفاق على شكل نظام الحكم، وكذلك معالجة المظالم المجتمعية، التي فاقمتها الحرب. فكلما طال أمد الصراع وتفاقمت المظالم، فإن فرص التوفيق بين الأطراف وفق النوايا الحسنة تزداد صعوبة. ولعل غياب الثقة بين الأطراف هو ما أدى في النهاية إلى المشهد الراهن، فقبل اللجوء للمواجهات العسكرية، كان هناك حوارًا قائمًا لحل المشاكل الحدودية بين إقليمي ” التيجراي – الأمهرا”، لكن فشل أداء تلك اللجنة، التي اتهمها التيجراي بالانحياز للأمهرا، حلفاء أبي أحمد. وهو الوضع المرجح له التكرار، بما يفرض البحث عن خيارات وحلول من الأطراف والوسطاء وقادة بناء السلام، من أجل إشراك كافة الأطراف في حوار مجتمعي، يستند على آليات بناء الثقة بين كافة الأطراف.
كذلك مثّل الخلاف على طبيعة وشكل الدولة، أحد الأسباب الجذرية للصراع، فبعد انقلاب أبي أحمد على طبيعة النظام الفيدرالي القائم، منذ دستور 1994 في البلاد، واتخذ الصراع بين الحكومة الفيدرالية والولايات منحنى متصاعد. فلم تحظ خطوة أبي أحمد بتشكيل حزبه الجديد ” حزب الازدهار”، ومساعه للتأسيس لنظام مركزي، من شأنه حل كافة التحديات التي تواجه البلاد، وفقًا لتصوراته، بالإجماع من كافة الأطراف. وكانت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، أولى المعارضين لشكل النظام المركزي الذي يسعى لتأسيسه أبي أحمد، بما يتعارض مع الطبيعة التعددية للبلاد وهو الأمر الذي دفع إقليم التيجراي لإجراء انتخابات بشكل مستقل عن الحكومة المركزية، أغسطس 2020، بما فاقم من المواجهة بين الحكومة الفيدرالية وقادة الإقليم، الخارجة عن القانون، وفاقم الصراع في محاولة من الحكومة المركزية لفرض إرادتها وبسط سيادتها على كافة الأقاليم.
وأياً من كان المنتصر في الميدان، فإنه لا بد من انعقاد مؤتمر دستوري يتمّ من خلاله التوافق على طبيعة وشكل نظام الحكم ذلك من منطلق، أنه إذ انتصرت القوات الفيدرالية، فلا يمكنها فرض نظامًا لا يتسق مع طبيعة المجتمع، وكذلك دمج الأطراف المعارضة لذلك النظام، وعلى الجانب الآخر، فإن السياق مغاير لما كان عليه الكفاح المسلح في القرن الماضي، ضدّ نظام منجستو، فالخلافات البينية داخل كل طرف، في ضوء التحالفات الهش والمؤقتة، تشير إلى مأزق ما بعد الميدان.
كجزء من عملية كليّة لاستعادة الاستقرار في البلاد، فإن المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع، تحمل الكثير من العداوات على النحو الذي يفرض على قادة السلام، البحث عن خيارات ومداخل لبناء السلم المجتمعي. فالذاكرة المجتمعية لا يمكنها أن تتسامح مع انتهاكات الماضي، وما حدث في إقليم التجراي من جرائم عنف واسع النطاق، لا يمكن تجاوزه مجتمعيًا، حتى لو تصالح قادة الميدان. وتلك المبادرات والوساطات ترتبط بشكل كبير، بالتدخلات والمبادرات الخارجية والأممية، وغيرها من المبادرات التي من شأنها معالجة تداعيات الصراع، وتدشين الحوار المجتمعي بين كافة الأطراف.
أخيرًا، لا يزال الوضع الميداني الإثيوبي شديد التعقيد، ومن غير الواضح إلى أي حدّ يمكن للأطراف الداخلية الاستجابة للوساطات والنداءات الخارجية لحسم الصراع. وربما تلك مرحلة تسبق البحث عن الخيارات والحلول والمستقبل ما بعد الصراع، إذ أن مستقبل ومآلات الصراع نفسه لم تتضح معالمها بعد، في ضوء عناد قادة الميدان، وعدم وجود تدخل خارجي حاسم حتى الآن.