رؤى البحر المتوسط التي لم تتحقق | مركز سمت للدراسات

رؤى البحر المتوسط التي لم تتحقق

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 6 أبريل 2021

إميليانو أليساندري

 

بَعد الحرب الباردة، ساد اعتقاد على نطاق واسع بأن منطقة البحر المتوسط ​​غير المتكافئة، والتي تُمزقُها النزاعات يمكن أن تستقر أخيرًا بالالتفاف حول أوروبا في تكامل سريع، مما يقلل الفجوة بين اقتصادات الجنوب والشمال من خلال زيادة الوصول إلى السوق الأوروبية المشتركة، على أن يُظهر ذلك المنطقة الأورومتوسطية على أنها مساحة أكثر تماسكًا من الناحية الاقتصادية والأمنية وكذلك الاجتماعية.

بعد عقد من الزمان، من 11 سبتمبر، تم تحديد المنطقة مرة أخرى كمركز لانعدام الأمن العالمي، حيث لم تتحقق الرؤية الأورومتوسطية إلى حد كبير، واحتاج الخلل في المنطقة للتدقيق مجددًا، كان معظمهم له جذور اجتماعية واقتصادية واضحة، حيث تركز الاهتمام الدولي بشكل شبه حصري على انتشار الأيديولوجيات الراديكالية، التي أيدتها مجموعات مختلفة مناصرة ومناهضة للحداثة، وأجندات مُعادية للغرب، وبدلًا من صياغة نموذج شامل ومنصف للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، استحوذت هزيمة الإرهاب على جدول الأعمال، غالبًا ما كان يتم إعطاء الأولوية للقمع على حساب الإصلاح.

لقد لقيت الحركةُ المطلبيةِ طويلةَ الأمد، التي أطلق عليها “الربيع العربي” 2010-2011، ترحيبًا مبكرًا باعتبارها حركة نحو الديمقراطية على مستوى المنطقة، مما يُنذر بزوال “استثناء” عربي مزعوم، وقد تركز الاهتمام مرة أخرى على الجماعات والحركات العابرة للحدود، مما يعني أن الشباب المنخرط في المجتمع المدني، يتحدى النظام للمطالبة بقدر أكبر من العدالة الاجتماعية، ولكن مع انحسار حركات الاحتجاج تدريجيًا، أدّى إلى ما قد يُعَرِّفهُ الكثيرون بقسوة شديدة على أنه “شتاء عربي” جديد، كما تحولت وجهات النظر حول المنطقة مرة أخرى إلى السلبية بشكل ملحوظ، وعلى الرغم من أن سخرية بالجملة في غير محلها، إلا أن الحقائق الحالية تدعو إلى تصحيح الرؤى المفرطة في التفاؤل التي سادت بعد الحرب الباردة.

المنطقة المتوسطية أكثر ترابطا ولكنها ليست أقل عرضة للصراعات

أولاً، يبدو البحر المتوسط ​​مساحة أقل تماسُكًا، من المؤكد أن المنطقة مترابطة من الناحيتين الاقتصادية والأمنية وكذلك البشرية، لكن الترابط المتزايد بين أوروبا والبحر المتوسط ​​من ناحية، والبحر المتوسط ​​وإفريقيا من ناحية أخرى، لم يُترجم إلى تقارب ناهيك عن إطلاق حملة نحو التكامل، فعندما تتوسع الاتصالات فإنها ليست بالضرورة من النوع الإيجابي، ترتبط المنطقة حاليًا ببعضها البعض من خلال طرق التهريب المنتشرة، وشبكات الجريمة المنظمة سريعة التوسع، حيث تلتف التبادلات الأورومتوسطية حول التعليم والإنتاج وفرص العمل ببطء شديد وغير متساو.

وثانيًا، على عكس ما يتصوره الأوروبيون، فإن منطقة البحر المتوسط ​​هي أيضًا “جوار” أوروبي أقل -وهو دور لم يكن ليحقق العدالة الكاملة للتنوع المتأصل في المنطقة، والهوية الثقافية متعددة الطبقات، والصلات الدولية الواسعة النطاق والتأثيرات، تظل أوروبا بلا شك مرجعًا قويًا لبعض البلدان- اقتصاديًا وثقافيًا على حد سواء، لكن المنطقة تتطلع بشكل متزايد في اتجاهات أخرى نحو آسيا وأفريقيا، ومن جانبهم فقد عزم عدد من الجهات الفاعلة الإقليمية غير الغربية على ممارسة تأثير متزايد على الديناميكيات المحلية، ومع استثمار الصين بكثافة في المنطقة، ولعب تركيا وروسيا أدوارًا رئيسية في النزاعات الإقليمية ، وتوسع نفوذ دول الخليج وإيران، إما بشكل مباشر أو من خلال وكلاء ، فقد أصبحت المنطقة تمثل بشكل متزايد رقعة شطرنج عالمية- وهو الدور الذي لعبته بشكل متقطع طوال تاريخها المُعقّد- بدلاً من فكرة “البحر الداخلي” الأوروبي.

وعلى عكس ما جادل به الكثيرون، أثبت نظام دولة البحر الأبيض المتوسط ​​أخيرًا، أنه مرِن بشكل غير متوقع، فالمنطقة مجزأة بالتأكيد وتستمر المجموعات العابرة للحدود في تقويض الأسس الهشة للنظام القائم، ولا يزال احتمال الدول الفاشلة ملموسًا للغاية، ليبيا لا تزال تحوي ديناميكيات داخلية مثيرة للانقسام تخلق فراغًا خطيرًا في الحكم، لكن الأنظمة المحلية تعافت بشكل عام من موجة الاحتجاجات في 2010-2011، إما عن طريق التكيف أو القتال، وتتميز المنطقة حاليًا باختلال في الحكم بقدر ما تتميز به من تأكيد متجدد للدولة، والمنافسة بين الدول تظل عاملاً رئيسيًا في زعزعة الاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى- وليس بديلًا عن- التحدي الذي يمثله الإرهاب والتهديدات الأخرى العابرة للحدود.

حوار متوسطي ملائم للواقع الجديد

على خلفية ذلك، فقد أصبح الحوار الإقليمي المتوسطي أكثر أهمية من أي وقت مضى، لا سيما في المجال الأمني، ومع ذلك فهو أمرٌ بعيد المنال أيضًا، وتشهد الاختراقات الأخيرة نحو تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية احتمالية إحياء الدبلوماسية الإقليمية، لكن الصراع المركزي في المنطقة لا يزال دون حل، ولا ينبغي أن يكون هناك أي وهم بشأن تصفيته، من خلال ظهور أولويات أخرى ملحه، وعلى أي حال فإن الانتقال من ديناميكية للصراع إلى نموذج للسلام يتطلب مستوى من الثقة- والتركيز على أجندة إيجابية مشتركة- وهو أمرٌ بعيد عن الظهور في الوقت الحالي.

من جانب آخر فقد أدى صعود الصين، وإعادة انخراط روسيا في المنطقة بعد التوقف ما بعد الحرب الباردة، ونفوذ دول الخليج المتزايد، إلى فتح فرص للمنطقة، وخلق تنوع في الأجندة الدولية تجاه المنطقة، لكن هذه الديناميكيات تخلق أيضًا مخاطر ومفاضلات جديدة، لا يتمثل تأثيرها المباشر بالضرورة في زيادة الاستقرار.

وبالتالي، ما الذي يمكن أن يدعم ويدفع الحوار المتوسطي الجديد الذي يعكس الحقائق الجديدة ويتوافق أيضًا مع التحديات والاحتياجات المتطورة في المنطقة؟

ومع استمرار نقص الحوار لا ينبغي استبعاد أي منصة متاحة، حيث يمكن للعديد من المجموعات التقليدية الاستمرار في لعب دور مهم في مجالاتها الخاصة، من عملية “برشلونة – الاتحاد من أجل المتوسط” ​​إلى صيغ الحوار التي يوفرها الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي المكان الأقل شهرة والذي يمكن الاستفادة منه من الناحية الاستراتيجية في الظروف الحالية، هو المكان الذي توفره الشراكة المتوسطية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

لقد عالجت عملية مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” العلاقات بين الشرق والغرب، مع التركيز على الأمن الأوروبي.

لكن منذ البداية أقامت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا روابط عبر حوض البحر الأبيض المتوسط ​​في محاولة لتعزيز الأمن الإقليمي وتعزيز أسلوب أو نموذج شبيه “بهلسنكي” لوقاية وإدارة وحل الصراعات، يشمل الشركاء المتوسطيين لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا حاليًا، جميع دول شمال إفريقيا باستثناء ليبيا- التي أعربت مرارًا وتكرارًا عن رغبتها في الانضمام- والأردن وإسرائيل في الشرق الأوسط.

ما يميز هذه المنصة قبل كل شيء عضويتها المتنوعة، والتي تضم العديد من الجهات الفاعلة، خارج المنطقة النشطة حاليًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدءًا من روسيا وتركيا وفي الواقع وفرت الشراكة المتوسطية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، منتدىً فريدًا متعدد الأطراف يمكن من خلاله لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي وجميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي.

تطوير حوار أمني يعالج العلاقة بين التعددية القطبية والاستقرار، وهو أمر محوري للغاية في معادلة الأمن المتوسطي الحالية، ويمكن لهذا الحوار أن يبني على تجربة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا طويلة الأمد في إدارة التوترات بين الدول في القضاء الأوروبي، فضلًا عن مشاركة أفضل الممارسات بين البلدان التي أجرت تحولات سياسية واقتصادية معقّدة، من أوروبا الشرقية إلى غرب البلقان.

وعلى مر السنين، أصبح الحوار المتوسطي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ينظر إلى بلدان الجنوب، كعنصر فاعل وليس كموضوع للأمن، وقد ركزت رئاسات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المتعاقبة على تحديد أجندة إيجابية لأمن البحر الأبيض المتوسط، بحيث يمكن لبلدان الشمال والجنوب أن تتقدم معًا لمعالجة مجموعة متزايدة من الاهتمامات المشتركة، من مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية إلى معالجة التهديدات البيئية.

يتسم الحوار المتوسطي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بميزتين رئيسيتين قد تجعله مناسبًا بشكل خاص لمواجهة تحديات منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​في القرن الحادي والعشرين، فقد صُممت المنظمة لمعالجة النزاعات الدولية، وعلى الرغم من التركيز المتزايد على التهديدات العابرة للحدود، لكن لا تزال المنظمة تعتمد على مجموعة أدوات أمنية مصممة بشكل خاص، لمنع أو تخفيف التوترات بين الدول، ويعد هذا التركيز المزدوج على الجوانب الأمنية بين الدول وعبر الجوانب الوطنية وثيق الصلة للغاية بالبيئة الأمنية المتوسطية الحالية.

علاوة على ذلك، فمنذ البداية قدم مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا فكرة “شاملة” للأمن تشمل الجوانب السياسية والعسكرية والبيئية والاقتصادية، فضلاً عن البعد الإنساني، وقد كانت وثيقة “هلسنكي” النهائية لعام 1975، وهي الوثيقة التأسيسية لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، من بين النصوص الدولية الأولى التي رفعت حقوق الإنسان والحريات الأساسية إلى مرتبة المعايير الدولية، ومن خلال مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان، طورت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا سجلًا قويًا لدعم الانتخابات الحرة والنزيهة، وتعزيز الحكم الديمقراطي، وضمان حماية حقوق الإنسان في نقاط تحول مختلفة، كان آخرها في أعقاب الربيع العربي، تمت مشاركة هذه الثروة من الخبرة بنجاح مع شركاء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المتوسطيين.

إن الفكرة القائلة بأن الدول الآمنة مثل مواطنيها هي الدول الأكثر أهمية في المنطقة يتم فيها في كثير من الأحيان تعريف مصالح الدول مقابل مصالح الشعوب.

إعادة اكتشاف القيمة المضافة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا

على الرغم من أن الشراكة المتوسطية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا قد اكتسبت زخمًا في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال تقديم قائمة متنامية من مشاريع بناء القدرات والتعاون في مجالات السياسة ذات الصلة بالأمن، فإن مستقبل حوار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المتوسطي، سيستفيد كثيرًا بالتركيز بشكل أكبر على بعض الأهداف الرئيسية:

أولاً: يجب وضع القضايا المتعلقة بدورة النزاع مرة أخرى، في قلب حوار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المتوسطي، لأن هذا هو المجال الذي تعتبر فيه تجربة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أكثر شمولًا، ويشمل ذلك المناقشة حول ما إذا كان يمكن تعديل تدابير بناء الثقة والأمن التي تم تطويرها مبدئيًا من السياق الأوروبي لتتناسب مع واقع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بجانب المجالات التقليدية مثل الحد من التسلح والأنشطة العسكرية، يمكن أيضًا أن تتناول “CSBM” مجالات جديدة كالطاقة والأمن السيبراني.

ثانيًا، لا ينبغي للحوار المتوسطي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا أن يتجنب الموضوعات الصعبة، حتى لو كان ذلك يعني معالجة الجوانب ذات الصلة بالصراعات الدولية الجارية.

فعلى مر السنين، أدى البحث عن أجندة إيجابية إلى تجنب بعض التحديات الرئيسية في المنطقة، والتركيز على موضوعات أقل إثارة للجدل، مثل كيفية تعزيز التعاون الاقتصادي، أو كيفية تعزيز مشاركة الشباب في عمليات صنع القرار، وقدمت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقليديًا مكانًا يمكن فيه حل الأزمات الدولية أو الإقليمية وتهدئة التوترات.

إن الأجندة الإيجابية الجادة هي تلك التي تحول التحديات إلى فرص للتعاون، وليس جدولاً يحاول بشكل منهجي تجنب القضايا الخلافية أو الخلافية.

ثالثًا، يجب أن يبقى الباب مفتوحًا أمام دول الجنوب الأخرى للانضمام إلى الحوار، ويجب أن ينطبق هذا على ليبيا في شمال إفريقيا وكذلك على دول الساحل، التي تعد بالفعل جزءًا من الأشكال الإقليمية الأخرى، وذلك تماشيًا مع رسالتها كمنصة متعددة الأطراف وشاملة، ويمكن أيضًا إشراك دول المشرق والخليج وتنسيق حوار موسع في المستقبل، وإذا كانت الظروف مهيأة للتبادلات الدبلوماسية البناءة، فمن الممكن لمنصة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أن تعزز حوارًا جديدًا بين إيران ودول الخليج، والجهات الدولية الفاعلة الرئيسية الأخرى، بهدف التخفيف من الأنماط الحالية للمنافسة والتنافس.

رابعًا وأخيرًا، يمكن لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا زيادة مشاركتها مع المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، بما في ذلك بعض المنظمات التي لم تُطور بعد ملفًا متوسطيًا، مثل الاتحاد الأفريقي الذي “يركز على حل النزاعات” باعتبارها أكبر ترتيب إقليمي بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فإن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في وضع جيد لتعزيز الروابط عبر الإقليمية.

كل هذا من شأنه أن يرسخ الحوار المتوسطي الجديد لإحياء التعددية، على أساس الاعتراف بالبحر الأبيض المتوسط ​​الأكثر عالمية والمتعدد الأقطاب يحتاج إلى مؤسسات متداخلة لدعم إنشاء نظام أمني إقليمي مستقر وفعال.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: أوراسيا ريفيو

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر