الانكماش الاقتصادي العالمي خلال 2020 | مركز سمت للدراسات

تعافي الاقتصاد العالمي والمخاطر المحتملة

التاريخ والوقت : الأربعاء, 24 نوفمبر 2021

حسين سليمان

 

توقع العديد من الخبراء والمؤسسات الدولية، مع بدء تطبيق إجراءات الإغلاق حول العالم لمواجهة وباء كوفيد-19 في العام الماضي، والتدهور الاقتصادي الفوري الذي أعقب ذلك، أن يأخذ مسار الأزمة ثم التعافي شكلاً مماثلاً للحرف V V-shaped recovery.

يعني ذلك أن ينكمش الاقتصاد العالمي سريعاً بسبب إجراءات الإغلاق العالمية، وهو ما حدث بالفعل، ثم يتعافى بسرعة مماثلة، فور إنهاء هذه الإجراءات. وبعد مرور أكثر من عامٍ ونصف منذ إعلان حالة الوباء العالمية لتفشي فيروس كوفيد-19، في مارس من العام الماضي، فإن مسار التعافي قد بات أكثر اضطراباً، ومحفوفاً بعدد من المخاطر التي تهدد بأزمات اقتصادية جديدة على المدى القريب.

مخاطر التضخم ونقص الإمدادات

بسبب حدة الانكماش الاقتصادي خلال العام 2020، والذي كان الأسوأ منذ عقود طويلة، لجأت الحكومات حول العالم إلى إطلاق حزم مساعدة وتحفيز استثنائية، وُجهت أولاً لدعم القطاع العائلي والشركات خلال شهور الإغلاق وتوقف النشاط الاقتصادي، ثم لتحفيز الإنفاق والنمو والتشغيل، فور تخفيف هذه الإجراءات بدءاً من الشهور الأخيرة من العام الماضي. وتشير التقديرات، إلى أن إجمالي حزم المساعدة والتحفيز التي أنفقتها الحكومات منذ بدء الأزمة، تصل إلى ما يقارب الـ 20 تريليون دولاراً حتى الآن،[1] وهو ما يناهز رُبع الناتج العالمي الإجمالي تقريباً في عام 2019 قبل الأزمة. ولاستيعاب حجم هذا الإنفاق، فمن الممكن مقارنته بإجمالي حزم التحفيز خلال الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009، والتي بلغت حينئذ 2 تريليون دولاراً فقط.[2]

حفَّز هذا الإنفاق الحكومي الهائل خلال الأزمة، الطلب كما كان مرجواً، وخاصة الطلب الاستهلاكي العائلي، وأدى إلى نمو إيجابي في عام 2021، يُقدر بـ6.1%، وهو أعلى معدل نمو سنوي للاقتصاد العالمي منذ سبعينات القرن الماضي.[3] ولكن على الجانب الآخر، فإن هذا النمو السريع والقوي في الطلب، لم يصحبه نمو مماثل في العرض، بسبب استمرار معاناة عدد من القطاعات والقدرات الإنتاجية حول العالم من الإغلاق المتكرر، جراء الموجات المتتابعة والتحورات الجديدة لفيروس كوفيد-19، بالإضافة إلى الهامش الزمني المتأخر لاستجابة العرض، في صورة الفترة اللازمة لزيادة الاستثمارات والقدرات الإنتاجية، وكذلك بسبب نقص العمالة، في الاقتصادات الغنية على الأخص، على خلفية حزم المساعدات الحكومية السخية للمواطنين، والتي جعلت من العمل في الوظائف منخفضة الأجر غير مجدٍ لهم في الوقت الحالي من الناحية المادية.

تسبب هذا النقص في المعروض، مقارنة بالصعود القوي للطلب، في ارتفاع معدل التضخم السنوي المتوقع بنهاية العام الحالي، إلى 4.8%، وهو أعلى مستوى منذ عام 2007.[4] وتعكس أسعار السلع الأساسية والمواد الخام حالة التضخم في العام الحالي، فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي والفحم إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، في حين ارتفعت أسعار المعادن بـ48% خلال العام، وكذلك أسعار السلع الزراعية بـ22%.([5] ويشير الشكل التالي بصورة مفصلة إلى مؤشر أسعار السلع الأساسية الإجمالية، وأبرز بنوده، التي تضم الطاقة، والمدخلات الصناعية، والغذاء والمشروبات، وحجم الصعود في قيمة هذه المؤشرات، مقارنة بعامي 2020 و2019، وهو الصعود الذي وصل في حالة مصادر الطاقة على سبيل المثال، إلى وصول مؤشر أسعار الطاقة في الربع الثالث من العام الحالي، إلى أكثر من ضعف متوسط عام 2020، والذي شهد تراجعاً حينئذ على خلفية الانكماش العالمي.

وفيما يتعلق بالطاقة على وجه الخصوص، فقد أسهم كذلك في الفجوة بين الطلب المتسارع، والعرض المحدود، التراجع في نمو إنتاج مصادر الطاقة الكربونية، واستخدامها، خاصة في توليد الكهرباء، كجزء من الجهود الدولية لتقليص الانبعاثات الكربونية، لاسيما منذ عام 2015، في أعقاب اتفاقية باريس للمناخ. ويبرز هذا المنحى من خلال التراجع المستمر منذ عام 2013، في إنتاج الفحم، وهو المصدر الكربوني الأكثر تلويثاً، وفي الوقت نفسه المصدر الأول لإنتاج الكهرباء عالمياً، والمستخدم في إنتاج ثُلث الكهرباء حول العالم، كما تراجع أيضاً نمو إنتاج النفط عالمياً في السنوات بين 2015 و2019، إلى ثُلث معدل نموه بين مطلع العقد وتوقيع الاتفاقية.[6] وبالتالي، فإن الصعود السريع والحاد في أسعار الطاقة تمتد جذوره إلى أعوام ماضية قبل أزمة كوفيد-19 وتداعياتها، وهو ما يعني أن مستويات الأسعار المرتفعة هذه غالباً ستستمر خلال الفترة المقبلة، في ظل الحاجة إلى هامش زمني لزيادة الإمدادات، بالإضافة إلى القيود القائمة على الاستثمارات في المصادر الكربونية.

ويمثل هذا الارتفاع العالمي في معدل التضخم، واحتمالية أن تمتد الأسعار المرتفعة لفترة ليست بقصيرة، تهديداً لمسار تعافي الاقتصاد العالمي من أزمة كوفيد-19. فبصورة عامة، يؤدي ارتفاع أسعار المواد الخام ومدخلات الصناعة، وأسعار الطاقة على وجه الخصوص، إلى تراجع الطلب، وبالتالي النمو، في البلدان المستوردة لها، والتي تشكل الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي، كالصين، والهند، واليابان، والولايات المتحدة، وأغلب بلدان أوروبا. وكذلك، يشكل ارتفاع أسعار السلع الزراعية، من بوابة ارتفاع أسعار الأسمدة بالذات بسبب أسعار الطاقة، خطراً كذلك على الأمن الغذائي في البلدان الفقيرة على وجه الخصوص، وهو ما يفاقم من تأثير أزمة كوفيد-19 على اقتصاداتها، المستمر حتى الآن.

وللوهلة الأولى، فقد يبدو أن هذا التأثير لارتفاع الأسعار في تهدئة الطلب والنمو المتسارع خلال العام الحالي، هو أمر إيجابي من شأنه أن يعيد التوازن للعرض والطلب كما كان الوضع قبل تفشي وباء كوفيد-19. ولكن الإشكالية الرئيسية هنا، هي أن النمو القوي في الطلب خلال العام الحالي، لم يقترن بنمو مماثل في التشغيل، بسبب اعتماده إلى حد كبير على الإنفاق من حزم المساعدات الحكومية للقطاع العائلي. ويتضح ذلك من استمرار نقص عدد ساعات العمل في عام 2021، بما يساوي 100 مليون وظيفة بدوام كامل، عنها في عام 2019 قبل الأزمة.[7] ويعني ذلك، أن الاستمرار المحتمل للتضخم العالمي، قد يؤدي إلى تراجع الطلب والنمو مبكراً، قبل أن ينتج عنهما تعافٍ في التشغيل إلى مستويات ما قبل الأزمة، وهو ما لن يتم قبل عام 2023 على الأقل وفقاً للتقديرات.[8]

وعلاوة على ذلك، يفرض ارتفاع التضخم كذلك تداعيات إضافية، في صورة دفع البنوك المركزية، خاصة في الاقتصادات مرتفعة الدخل، وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، إلى رفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم. ومن شأن خطوة كهذه أن تؤدي بدورها إلى تهدئة الطلب، والنمو، من خلال رفع تكلفة تمويل الإنفاق، سواء العائلي، أو لقطاع الأعمال. ويضاف إلى ذلك أن هذه الخطوة قد تؤدي أيضاً إلى خروج رؤوس الأموال الأجنبية من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية،[9] نحو السوقين الأمريكي والأوروبي، بما قد يؤدي إلى مصاعب ومخاطر مالية، تضاف إلى ما تواجهه الاقتصادات النامية منذ بدء أزمة كوفيد-19، خاصة فيما يتعلق بديونها الخارجية.

مخاطر الديون السيادية

تواجه الاقتصادات النامية على وجه الخصوص، مخاطر تتعلق بنمو غير مسبوق في ديونها الخارجية، بدأت منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وفاقمتها أزمة كوفيد-19، التي تسببت في تراجع حاد في إيراداتها من النقد الأجنبي، سواء من الصادرات السلعية، أو السياحة، أو تدفقات الاستثمارات المباشرة، أو المالية. وبالتزامن مع تراجع مختلف مصادر إيرادات النقد الأجنبي خلال أزمة كوفيد 19، فقد اضطرت الاقتصادات النامية للجوء لمزيد من الاقتراض الخارجي، بالأخص من مؤسسات التمويل الدولية، أو البلدان المانحة، سواء لتمويل وارداتها من السلع والخدمات، أو لسداد التزامات الديون القائمة. وبالتالي فقد قفزت الديون العامة، وذات الضمان العام، المستحقة على الاقتصادات النامية في عام 2020، إلى ما يفوق 4 تريليونات دولاراً،[10] من 3.1 مليار دولار في عام 2019،[11] وهي زيادة قياسية غير مسبوقة في عام واحد.

وفي عام 2021، وعلى الرغم من التحسن النسبي في الإيرادات الأجنبية للاقتصادات النامية، بسبب بدء تعافي السياحة والطلب العالمي، بالإضافة إلى زيادة تدفقات السيولة الأجنبية واستثمارات المحافظ المالية عن عام 2020، إلا أن الفجوة في هذه الإيرادات ما تزال قائمة عما قبل أزمة كوفيد 19، ومن المتوقع ألا ترتفع إلى مستويات عام 2019 قبل بضعة سنوات، في حين تستمر الديون والتزاماتها في التراكم سريعاً لسد هذه الفجوات. وعلاوة على ذلك كما تمت الإشارة، فإن احتمالية رفع الفائدة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خلال الأعوام القليلة المقبلة، ستعزز من مخاطر خروج استثمارات المحافظ المالية من الأسواق النامية، كما حدث في عام 2018، وهو ما سيفاقم من مخاطر تعثر هذه الاقتصادات عن سداد التزامات مديونياتها الخارجية.

يثير ذلك المخاوف حيال قدرة الاقتصادات النامية على الوفاء بالتزامات مديونياتها الخارجية خلال السنوات القليلة المقبلة، من أقساط وفوائد. ومن المفترض أن تسدد الاقتصادات النامية مجتمعة ما يقارب الـ 2 تريليون دولاراً مدفوعات خدمة ديونها العامة، وذات الضمان العام الخارجية، خلال السنوات من 2020 وحتى 2025. وضمن هذه المدفوعات المستحقة حتى عام 2025، فإن هنالك 600 مليار دولاراً على الأقل هي مدفوعات ذات مخاطر تعثر مرتفعة، مستحقة على 72 بلداً نامياً ومنخفض الدخل. وجدير بالذكر أن ضمن هذه القائمة من البلدان، فهنالك خمسة بلدان قد تعثرت بالفعل في عام 2020 عن سداد مدفوعات مستحقة لخدمة ديونها الخارجية، وهي الأرجنتين، وبيليز، والإكوادور، ولبنان، وزامبيا.[12]

وفي حين طبق صندوق النقد، والبنك الدولي، وعدد من البلدان المانحة، مبادرات خلال الأزمة الراهنة، لتأجيل سداد بعض أقساط المديونيات المستحقة لهم، أو منح قروض جديدة، أو إعفاء بعض البلدان الأكثر تأزماً، من هذه الأقساط، إلا أن هذه المبادرات لن تقضي على شبح أزمة الديون السيادية الوشيكة، بل ربما أجلتها بعض الشئ. فمع انتهاء فترة تعليق مدفوعات الدين المتفق عليها في مبادرة البلدان العشرين الكبرى، بنهاية عام 2021، سيتعين على البلدان الأكثر فقراً أن تبدأ في سداد مدفوعات خدمة ديونها للبلدان المانحة، بالإضافة إلى المدفوعات المستحقة للمؤسسات الدولية كذلك، وهي المدفوعات التي كان تحتسب عليها فائدة خلال فترة تعليق الدفع. ولكن ما يثير المخاوف بصورة إضافية أيضاً، هو أن 62% من إجمالي الديون العامة وذات الضمان العام المستحقة على الاقتصادات النامية، هي مستحقة لدى مستثمرين ودائنين في أسواق التمويل الخاص، وليس لحكومات أو مؤسسات دولية.[13] وكذلك، فإن أكثر من نصف مدفوعات خدمة الدين ذات مخاطر التعثر المرتفعة، المستحقة على الاقتصادات النامية حتى 2025، أي 300 مليار دولاراً تقريباً هي مستحقة أيضاً لدى دائنين في سوق التمويل الخاص،[14] وهو ما يعني أن مبادرات الحكومات المانحة والمؤسسات الدولية لتأجيل سداد مدفوعات ديون البلدان النامية، أو إلغاء جزء منها، هي غير ملزمة بالنسبة لهم، وبالتالي ما تزال البلدان النامية والأقل دخلاً تواجه خطر التعثر عن سداد هذه المديونيات بشكل خاص، والدخول في أزمة ديون سيادية.

وعلاوة على هذه المخاطر، فإذا تمكن الجزء الأكبر من البلدان ذات مخاطر الديون الخارجية المرتفعة، من تجنب شبح التعثر، بمساعدة الجهات المانحة، وحتى الدائنين في سوق التمويل الخاص، فإن ذلك سيرتبط بالضرورة بتطبيق حزم إجراءات داخلية شاقة، قد تشمل على الأرجح تخفيض قيمة عملاتها أمام العملات الأجنبية، أو تحريرها بالكامل، وتقليص الإنفاق الحكومي الداخلي، خاصة على دعم السلع والخدمات المختلفة، وغيرها من إجراءات الضبط الهيكلي التقليدية في مثل هذه الأزمات. وبالتالي، فإن تأثير مثل هذه الإجراءات المرجحة، بالتزامن مع صعود معدل التضخم في الأسواق العالمية، من شأنه أن يتسبب في تعقيد الأوضاع الاقتصادية في هذه البلدان المأزومة، بما سيفاقم كذلك بالضرورة من التداعيات الاجتماعية السلبية لأزمة كوفيد-19 القائمة.

خاتمة:

تُعقِّد هذه المخاطر، سواء ارتفاع معدلات التضخم، أو أزمات ديون متحملة في الاقتصادات النامية، من مسار تعافي الاقتصاد العالمي في أعقاب أزمة كوفيد-19، وهو ما يضاف إلى إشكالية استمرار الوباء وتجدد إجراءات الإغلاق لفترة أطول مما كان متوقعاً، وهي جميعها العوامل التي خفَّضت بشكل واضح من التفاؤل السابق حول آفاق التعافي.

ولكن على أية حال، فإن هذه المخاطر المحتملة، والأزمات التي قد تنتج عنها، هي ليست حتمية ومن الممكن تجنب تفاقمها، ولكن بشرط السيطرة على تفشي الوباء عالمياً في المقام الأول، وبشكل متساوٍ في البلدان المختلفة، من خلال إتاحة اللقاحات والأدوية المُثبت فعاليتها. فمن خلال إعادة فتح الاقتصاد العالمي بشكل متكامل، بالإضافة إلى التقليص التدريجي لحزم الإنفاق، خاصة المباشرة للقطاع العائلي، سيسهم ذلك خلال الأشهر التالية، في تخفيف نقص الإمدادات، وزيادة المعروض من السلع للسيطرة على ارتفاع التضخم، بدلاً من الحاجة إلى إجراءات حادة لتقليص الطلب، ومن ثم النمو، وهو ما سيحدث بشكل ضروري، ولكن الفارق في النتائج سيعتمد على حدة هذه الإجراءات، ومدى التراجع في الطلب، خاصة في ظل عدم تعافي التشغيل كما تمت الإشارة.

وعلى الجانب الآخر، فمن الممكن كذلك تجنب أزمات ديون سيادية في الاقتصادات النامية، أو إجراءات ضبط هيكلي قاسية في بيئة اقتصاد عالمي محفوفة بالمخاطر بالفعل. وقد يتم ذلك من خلال توافق الجهات المانحة، سواء المؤسسات الدولية، أو البلدان، على إعادة جدولة الديون، أو الإعفاء منها جزئياً، وشراء جزء من ديون المستثمرين في أسواق التمويل وجدولته كذلك، بغرض تخفيف عبء خدمة الدين خلال الأعوام القليلة المقبلة، التي قد لا تشهد تعافٍ كامل، مع تخفيف حدة اشتراطات الضبط الهيكلي، وزيادة الهامش الزمني لتنفيذ مستهدفاتها، بما يأخذ في الاعتبار وضع الاقتصاد العالمي والاقتصادات المأزومة كذلك، بدون أن ينتج عنها المزيد من الأزمات الداخلية في البلدان المُهدَدة.

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر