أعاد استقبال السلطات الإسبانية لزعيم جبهة البوليساريو «إبراهيم غالي» فوق أراضيها بهوية مزيفة قصد العلاج، ودون إشعار المغرب بالأمر، مستقبل العلاقات بين البلدين إلى واجهة النقاش السياسي والأكاديمي.
اعتبر المغرب أن هذه الخطوة غير المحسوبة تمثل إساءة واضحة، وسلوكاً يتناقض مع متطلبات حسن الجوار، فالأمر يتعلق بشخص متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، مطروحة أمام القضاء الإسباني، كما أنه هدّد في غير ما مرة بنهج الخيار العسكري ضد المغرب ووحدته الترابية.
حاولت إسبانيا تبرير الأمر على أنه تمّ ب«دواعٍ إنسانية بحتة»، وهو ما يطرح أكثر من استفهام، بالنظر إلى أن هناك عدداً من الضحايا الذين رفعوا دعاوى ضد المتهم أمام القضاء الإسباني، ومنهم من يحمل جنسية هذه الأخيرة.
تشكل هذه الأزمة تعبيراً واضحاً يجسد التناقض الحاصل بين الشعارات والتصريحات التي تطلقها إسبانيا بصدد الحرص على تمتين علاقاتها مع شريك استراتيجي تجمعه بها مجموعة من المصالح والأولويات المشتركة.
تضاف الأزمة إلى عدد من المحطات الصعبة التي مرت بها العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، كما تعيد إلى الأذهان أزمة جزيرة ليلى التي تفجرت في صيف 2002، فعندما قرّر المغرب ترسيم حدوده البحرية عبّر الحزب الاشتراكي الذي يقود الحكومة الإسبانية، عن رفضه لهذه الخطوة، وفي أعقاب إصدار الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» لمرسوم رئاسي يقرّ فيه بمغربية الصحراء، عبّرت إسبانيا بشكل صريح عن انزعاجها من الأمر.
وتبرز الكثير من التوجهات الإسبانية، خلال العقود الأخيرة، مخاوف إزاء أي تطور عسكري مغربي، وإزاء أي انفراج في قضية الصحراء يدعم مكانة المغرب الإقليمية والدولية، وهو ما يضفي قدراً من الشك على العلاقات بين البلدين، ويعيد إلى الواجهة عدداً من الملفات العالقة، كما هو الشأن بمستقبل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، وعدد من الجزر الأخرى.
رغم تقليل السلطات الإسبانية من أهمية الأزمة الراهنة، بالتأكيد على رغبتها في تعزيز شراكتها مع المغرب، فإن هذا الأخير يعتبر في الأمر فرصة لوضع النقط على الحروف، بدفع الطرف الإسباني إلى تجاوز نظرته الاستعلائية، واستيعاب التطورات التي شهدها المغرب في مختلف المجالات، وإرساء علاقات متوازنة تحقق مصالح الطرفين.
وفي هذه الأجواء وصل عدد كبير من المهاجرين السريين من جنسيات مختلفة إلى سبتة المحتلة، ما أثار انزعاجاً كبيراً لدى السلطات الإسبانية التي اعتبرت الأمر ناجماً عن تساهل السلطات المغربية.
وقد مثل الحادث مناسبة لقياس طبيعة التعامل الإسباني مع ظاهرة الهجرة بشكل عام؛ حيث طغت المقاربة الأمنية، باستخدام الغازات المسيلة للدموع، والرصاص الحي، ومحاولة تصريف الأزمة، وتحميل المغرب لما وصل إليه الأمر. وهو ما ظهرت معه الجهود التي يتحملها المغرب في سبيل الحد من الظاهرة، بعدما تحوّل إلى بلد مستقبل، مع رفضه القيام بدور «شرطي مرور» لتأمين الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، والتأكيد على أن السلطات الإسبانية هي المسؤولة عن تأزّم العلاقات باستقبالها لشخص معادٍ للمغرب.
أتاحت الأزمة الأخيرة الوقوف على حجم التناقض الحاصل بين الخطاب الرسمي الإسباني من جهة، وواقع المواقف والسياسات التي لا تخلو من عداء للمغرب، الذي طالما انخرط بجدية حقيقية في إرساء شراكة استراتيجية مع إسبانيا، ودول الاتحاد الأوروبي، سواء فيما يتعلق بالجوانب الأمنية وما يتصل بذلك من مكافحة للإرهاب وللجريمة المنظمة العابرة للحدود، وقضايا الهجرة، أو المجالات التجارية والاقتصادية.
وهو ما يفرض على المغرب السعي إلى إعادة ترتيب الأوراق في هذا الخصوص، باتجاه إرساء علاقات أكثر توازناً، مع تنويع الشركاء، والانخراط بشكل كبير في تعزيز علاقات جنوب – جنوب في الدوائر الأوربية والآسيوية وبأمريكا اللاتينية.