اقتصاديات الإعلام الجديد وحدود الحرية | مركز سمت للدراسات

اقتصاديات الإعلام الجديد وحدود الحرية

التاريخ والوقت : السبت, 12 يناير 2019

أمجد المنيف

 

تتناول الورقة جوانب اقتصاديات الإعلام الجديد، في ظل الطفرة التكنولوجية والتطورات المتسارعة على نطاق العمل الإعلامي. وقد خلصت الورقة إلى أن الهيمنة الرأسمالية على العمل الإعلامي عامة، والإعلام الجديد أو الإلكتروني خاصة، أدت إلى اثنين من التداعيات المهمة بالنسبة لحرية ممارسة العمل الإعلامي عبر الفضاء الإلكتروني، وهما: الأول توسيع مساحة الحرية لدى أكبر قدر ممكن من البشر (عدد لا نهائي) بما يخلط بين واقع الحرية والميل نحو الفوضى بما يتناسب مع اتجاهات الثقافة العامة لدى الأفراد وسيطرة الحكومات على الفضاء الإلكتروني. أمَّا الثاني، فيتمثل في اتساع نطاق هيمنة الشركات الرأسمالية الكبرى المحتكرة للإعلام الإلكتروني بما يجعل من نطاق الحرية الإعلامية مرهونة بتوجهات تلك الشركات ومصالحها. ومن ثَمَّ، فإن اتجاهات حرية العمل الإعلامي الإلكتروني تحددها التوجهات العامة للشركات الرأسمالية الكبرى.

المقدمة

مثلت التطورات التكنولوجية الأخيرة، عمودًا فقريًا لكافة أشكال التقدم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وغيره، بل إنها تفاعلت مع كل تلك المجالات، تأثيرًا وتأثرًا، بما يفتح المجال لآفاق جديدة تنطلق نحوها البشرية بوتيرة متسارعة تحددها كثافة تلك التطورات وعمقها، وفي اتجاهات تحددها – أيضًا – دوافع تلك التطورات وأهداف الفاعلين والأطراف المسيطرة عليها والمستفيدين منها.

في خضم ذلك، لم ينفصل الإعلام عن تلك التطورات، بل إنه كان أكثر المجالات تفاعلاً معها، فلم يقتصر تسارع وتيرة التقدم عليه فحسب، بقدر ما تغير شكله ومضمونه وصولاً إلى ما بات يعرف بـ”الإعلام الجديد”، أو “الإعلام الإلكتروني”، أو غيره من المسميات.

تزامنًا مع تلك الطفرة التي طرأت على الإعلام وأشكاله الجديدة، باتت الجهات المسيطرة بحكم ما يتوافر لديها من مقدرات مادية وتقنية في موضع المهيمنة Dominant، وهي تخضع إلى منظومة الرأسمالية العالمية بالأساس، وهو ما لم ينفصل عن التطور الذي طرأ على الجوانب الاقتصادية لتلك المنظومة الديناميكية فيما يعرف باقتصاديات الإعلام الجديد، وذلك إشارة إلى الجوانب الاقتصادية المتصلة بالتطورات التكنولوجية وتأثيرها على العمل الإعلامي؛ إذ لم تعد تلك الممارسات مجرد أنشطة خدمية، وإنما باتت منتجات تهدف إلى الربح في المقام الأول.

ومع تَدَخُّل الجوانب الاقتصادية، ولا سيَّما ما يعرف بـ”الهيمنة الرأسمالية على المنتج الإعلامي”، لم يسلم المحتوى الإعلامي من تلك الهيمنة، بل وصل نطاق التأثير إلى حدود الحرية الإبداعية التي تمثل في المقام الأول صلب العمل الإعلامي، وذلك بالنظر إلى وظيفته الأساسية المتمثلة في إتاحة المعلومات والمعرفة بحرية وموضوعية.

تناقش هذه الورقة الجوانب الاقتصادية للإعلام الجديد، وتأثيرها على نطاق حرية ممارسة العمل الإعلامي وحدود تلك الحرية. ومن ثَمَّ تسعى الورقة للإجابة عن هذه التساؤلات:

  1. كيف أثر الإعلام الجديد على منظومة وسائل الإعلام التقليدية؟
  2. كيف أثرت التطورات التقنية للإعلام الجديد على اقتصاديات الإعلام؟
  3. ما تداعيات تلك التطورات التقنية على مساحة الحرية بالإعلام الجديد؟
  4. ما مدى تأثير الآليات التسويقية التي يستخدمها الإعلام الجديد على حدود الحرية الإعلامية؟
  5. إلى أي مدى أثرت محددات اقتصاديات الإعلام على حدود الحرية في ممارسة المهنة؟
  6. كيف أثرت اقتصاديات الإعلام على العلاقة بين أخلاقيات المهنة ومصالح رأس المال في الآلة الإعلامية؟
  7. ما هي أهم الفرص والتحديات التي تواجه اقتصاديات الإعلام الجديد وانعكاس ذلك على حدود الحرية؟

منهجية الدراسة

اعتمادًا على “المنهج الوصفي التحليلي”، تسعى الورقة للتعرف على جوانب الهيمنة الرأسمالية على سوق الإعلام العالمي، وتفصيل الآليات التسويقية للإعلام، وانعكاس ذلك على العلاقة بين أخلاقيات المهنة ومصالح رأس المال في الآلة الإعلامية. وفي ضوء ذلك ستنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور، وهي على النحو التالي:

أولاً: الإعلام الجديد وتأثيره على الإعلام التقليدي.

ثانيًا: جوانب الهيمنة الرأسمالية وحدود الحرية الإعلامية.

ثالثًا: العلاقة بين أخلاقيات المهنة ومصالح رأس المال في الآلة الإعلامية وتأثيرها على حدود الحرية.

المبحث الأول

الإعلام الجديد وتأثيره على الإعلام التقليدي

يُمثل الإعلام الجديد جيلًا متطورًا للأشكال التقليدية للعمل الإعلامي، وهو ما يتأثر بالتطورات التكنولوجية، إذ يدور بكافة تفاصيله داخل الفضاء التكنولوجي، سواء عبر الإنترنت، أو من خلال مكونات الأجهزة الحاسوبية، أو أدوات الاتصال الحديثة “الموبايل” وغيره، وهو ما جعل كافة محاولات تعريف الإعلام الجديدة تنطلق من التكنولوجيا وأدواتها؛ فتعرِّفه موسوعة “الويب” المعروفة باسم “ويبوبيديا” بأنه: “العديد من الأشكال المستحدثة من تنظيم الاتصال الإلكتروني التي أصبحت ممكنة بفضل الكمبيوتر، والتعبير مرتبط أيضًا بالنظم الإعلامية القديمة”([1]).

ويعرِّفه قاموس التكنولوجيا الرفيعة High-Tech Dictionaryبأنه: “اندماج الكمبيوتر وشبكات الكمبيوتر والوسائط المتعددة”. أمَّا قاموس الإنترنت الموجز، فينظر للإعلام الجديد باعتباره أجهزة الإعلام الرقمية عمومًا، أو صناعة الصحافة على الإنترنت([2]). كما تقدم كلية “شريديان التكنولوجية” تعريفًا عمليًا للإعلام الجديد بأنه: “كل أنواع الإعلام الرقمي الذي يقدم في شكل رقمي وتفاعلي”([3]). والملاحظ على تلك التعريفات انطلاقها من الوسائل التقنية التي تمثل عمادًا محوريًا للإعلام الجديد، ذلك أنه يدور في فلك الأجهزة المستخدمة (الوسائط، والأجهزة الحاسوبية)، أو عبر الفضاء الإلكتروني (شبكة الإنترنت).

ومن ناحية أخرى، هناك من ينظر إليه من جانب تفاعلي يقوم على الإنتاج والاستهلاك في المقام الأول. إذ يمثل الإعلام الجديد كافة تقنيات الاتصال والمعلومات الرقمية الجديدة التي تمكننا من إنتاج ونشر واستهلاك المحتوى الإعلامي بمختلف أشكاله من خلال الأجهزة الإلكترونية المتصلة، أو غير المتصلة بالإنترنت([4]). وبالتاليينحصرفي ذلك الفضاء الإلكتروني المترامي الأطراف الذي يتعامل مع ما يتجاوز المليار شخص من مختلف أجزاء الكرة الأرضية، خلق آليةلحرية التعبير والإبداع غير موجودة في أي وسيلة أخرى، بلا قيود ولا تدخل، إذ يكفي الشخص أن يجلس إلى حاسبه، ويتصل بالإنترنت ليدخل في حوارات حسب ما يريد، ويبدي آراءه بمنتهى الحرية ويتناقل فيها المعلومات بين مصدر ومتلقٍ، فكل الطرق مفتوحة أمام الجميع من مختلف الأعمال والملل والمهن والتخصصات والجنسيات والألوان والمشارب السياسية والاجتماعية والعقائدية([5]).

بالرغم من تعدد التعريفات، فإنه من الملاحظ صعوبة وضع تعريفٍ محددٍ للإعلام الجديد، إذ لم يتبلور بعدُ بشكل واضح ومحدد، فضلاً عن صعوبة الجزم ببقاء الإعلام الجديد على صورته الحالية نتيجة لتسارع وتيرة التطور التكنولوجي وثورة المعلومات وما تتمخض عنه من أشكال متقدمة للإعلام الجديد. وبالتالي، ربَّما نجد أنفسنا بصدد أنماط جديدة للعمل الإعلامي مختلفة شكلاً ومضمونًا([6]).

لكن، في كل الأحوال لا يخرج الإعلام الجديد عن نطاق التقارب الذي يزيل الحدود ويتجمع كافة السبل التي يمكن للفرد من خلالها التكيف اجتماعيًا، ولكنه يعتمد – أيضًا – على العقبات الطبيعية التي يتجاوزه أفراد المجتمع كتقارب الأماكن واستمرارية الأنشطة التي من شأنها تشكيل التنشئة التكنولوجية المتقاربة([7]).

وتتعدد أشكال الإعلام الجديد على النحو التالي:

1- المواقع الإعلامية على شبكة الإنترنت، والمدونات.

2- خدمات الأرشيف الإلكتروني.

3- قنوات التواصل الاجتماعي.

4- بث خدمات الأخبار العاجلة.

5- رسائل SMS وMMS على الهاتف.

6- الصحافة الإلكترونية، وخدمات النشر الصحفي عبر مواقع الشبكة.

7- خدمات إعلانية ترفيهية.

8- الإذاعة الإلكترونية، وخدمات البث الحي على الإنترنت.

9- القنوات التلفزيونية الإلكترونية، وخدمات البث الحي المباشر على الإنترنت.

10- خدمات الهاتف الجوال وتشمل البث الحي على الهاتف.

خصائص الإعلام الجديد 

يمثل الإعلام الجديد أحد تجليات التطور التكنولوجي التي فرضت نفسها على العمل الإعلامي، وهو ما فرض نفسه على خصائص تلك الممارسات الإعلامية التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:([8])

الديناميكية:فالإعلام الجديد يتفاعل بقدر من المرونة، حيث يجمع بين النص والصوت والصورة. كما أنه ينطوي على درجة كبيرة من التفاعل بين المَصدَرِ والمتلقي، وهو ما يسمح بإمكانية التعليق والنقد لدى المتلقي الذي يصبح بدوره ناشرًا بجانب كونه قارئًا؛ فالمتلقي يصبح بإمكانه أن يشارك خبرًا أو إعلانًا أو معلومة.

تعددية الوسائط:فالإعلام الجديد يستعين بالعديد من العناصر المؤثرة في الرسالة الإعلامية كالصورة والكلمة والفيديو في ذات الوقت.

الدمج:إذ يندمج الإعلام الجديد مع مخرجات الإعلام التقليدي، بل يتجاوزه في مرونته وسرعة توصيل الرسالة، كما أنه يستوعبه ويطوره بما يؤدي إلى مخرجات جديد. لقد ألغت التكنولوجيا كافة الحدود الفاصلة بين تلك الوسائل؛ فالتلفزيون والإنترنت اندمجا بشكل شبه كامل بحيث أصبح كل جهاز يؤدي وظيفة الجهاز الآخر.

سهولة الاستخدام:فنتيجة للتنافسية التي تطرأ على سوق التكنولوجيا تحولت أسعارها إلى تنافسية مما سهل الحصول على الأجهزة المتنوعة بأسعار باتت في متناول الجميع، وهو ما يترتب عليه سهولة وإمكانية الوصول إلى وسائل الإعلام الجديد، سواء عبر أجهزة الحاسب الآلي بأشكالها المختلفة، أو أجهزة الجوال التي يمتلكها الغالبية العظمى طوال الوقت.

اللاتزامنية:فالإعلام الجديد لا يتطلب من المستخدمين جميعهم أن يكونوا موجودين في الوقت نفسه، وأن المستخدم للإعلام الجديد يستطيع أن يرسل الرسائل ويستقبلها، سواء كان الشخص المستقبل متصلاً بالإنترنت، أم غير متصل. فضلاً عن أن الإعلام الجديد وفر لمستخدميه إمكانية الحصول على أمن المعلومات والأخبار في الوقت الذي يريدونه.

إمكانية التحديث:بمعنى إمكانية تحديث المضمون الذي يتم نشره، إذ إن الجمهور المستخدم لوسائل الإعلام الجديد يستطيع تحديث المحتوى الإعلامي باستمرار لمسايرة أو مواكبة الطبيعة الفورية لشبكة الإنترنت، فيتم التعديل والتصحيح([9]).

بجانب ذلك، يتميز الإعلام الجديد بإمكانية وصول رسائله إلى عدد لا محدود من البشر في نفس الوقت، كما أن لكل فرد من هؤلاء البشر نفس الدرجة في إمكانية الإسهام المتبادل والتفاعل مع هذه الرسائل. وبعبارة أخرى، لا يوجد ما يمنع أي واحد من إبلاغ رسالة معينة والتواصل مع شخص آخر. كما لا يوجد ما يمنع أي شخص من إبلاغ رسالة لمجموعة من الناس وتخصيص محتوى الرسالة لكل فرد على حدة.([10])

الإعلام الجديد والتقليدي: جدلية التأثير والتأثر

بالرغم من أهمية الإعلام الجديد وعمق تأثيراته، كونه ينطلق من رحم التطورات التكنولوجية، فإن العلاقة بينه وبين الإعلام التقليدي مثلت ميدانًا للجدل بشأن مدى التوافق، أو التعارض، أو حتى إمكانية التوفيق بينهما، فانقسمت الرؤى بهذا الصدد في اتجاهين؛ فبينما تحدث الأول عن حالة من التنافس بين الإعلام الجديد والإعلام التقليدي، نجد الاتجاه الثاني يؤكد على التكامل فيما بينهما في ظل علاقة قائمة على التأثير الإيجابي للإعلام الجديد على التقليدي.

بالنسبة إلى الاتجاه الأول، فيرى أنصاره أن الثورة الرقمية تمثل تحديًا في وجه وصول وسائل الإعلام التقليدية للجماهير، وبخاصة في ظل سرعة تداول المعلومات والمنافسة الشرسة التي خلفتها سرعة الوصول للحدث من جانب من يمارس الإعلام الجديد بحكم المرونة التي يتسم بها، الأمر الذي يعني أن المنافسة بين الإعلام التقليدي والجديد باتت محسومة لتفوق الأخير([11]).

أمَّا الاتجاه الثاني، فيتبنى أنصاره نظرة متفائلة تقوم على إمكانية التوفيق بين الإعلام التقليدي والجديد، إذ الأخير بفضل ما يتوافر لديه من إمكانيات تقنية ساهمت في تطوير نظم الطباعة وإرسال الصحف عبر الأقمار الصناعية وأساليب التحرير الصحفي والإخراج بما يؤدي في المحصلة النهائية إلى دعم صناعة الإعلام التقليدي([12]). لكن، في الوقت ذاته يمكن تبني موقف توفيقي، ذلك أنه يستحيل أن يحل الجديد محل القديم، كما يرى أنصار ذلك الاتجاه([13]). وعلى أية حال، فإن ثمة عددًا من النقاط التي تعكس تداخلاً بين الإعلام التقليدي والجديد، هي([14]):

1- اتساع مساحة الحرية لدى الإعلام الجديد بفضل ضعف الرقابة عليه مقارنة بالإعلام التقليدي الذي يخضع لسيطرة العديد من العوامل السياسية والقانونية والمادية.

2- الإعلام التقليدي ذاته أصبح يعتمد على الإعلام الجديد للاستفادة من مزاياه، وبخاصة إمكانية التحديث.

3- أفرز الإعلام الجديد فئة جديدة تسمى بـ”الإعلاميين الجدد”، وهم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الذين يقومون بتغطية الأحداث حول العالم وبث مشاهداتهم في نفس الوقت.

4- تتزايد حدة المنافسة في ميادين السبق الإخباري والتسويق والإعلان بسبب الطفرة التي طرأت على معدلات المشاهدة والتفاعل الجماهيري به.

المبحث الثاني

جوانب الهيمنة الرأسمالية وحدود الحرية الإعلامية

مع الطفرة التكنولوجية الهائلة وتداعياتها المترامية في كل المجالات، فضلاً عن اتصال تلك التطورات بمنظومة “الرأسمالية العالمية”، باتت المعرفة يُنظر إليها بمنطق “التقييم السلعي”، بمعنى خضوعها للقوانين والقواعد الاقتصادية وجوانبها المتشعبة ما بين العرض والطلب، والتسعير، والإنتاج والتسويق والتوزيع وحتى الاستهلاك…إلخ، وذلك رغم عدم اتسامها بالندرة النسبية التي تمثل حجر الزاوية للفكر الاقتصادي. في ذلك المحور سوف نتناول الجوانب الاقتصادية للإعلام الجديد واتصالها بالهيمنة الرأسمالية كونها نشأت في أحضانها بالمقام الأول.

أولاً: الجوانب الاقتصادية للإعلام الجديد

مع اتساع نطاق ما يعرف بـ”اقتصاديات المعرفة” المتصلة بديناميات البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، أصبحت تقنيات تكنولوجيا المعلومات والفضاء الإلكتروني، محلاً لآليات السوق، إذ إن طبيعة الإنترنت والمواقع الإلكترونية تجعل من محتوى مادة الإعلام الجديد والمواقع الإلكترونية Websitesخاضعة لمنطق السلع المادية، مع ميزات وخصائص مختلفة عن السلع التقليدية؛ وهو ما عزز بدوره منطق اقتصاديات الإعلام الجديد الذي يفترض وجود جماهير تتمتع بالاستقرار، ويسهل تحديدها، ويمكن التعامل بشأنها (بيعًا وشراء). لكن الجماهير أضحت مجزأة بصورة متزايدة، بمقتضى عدد مصادر وسائل الإعلام المتاحة لهم، التي يمكنهم من خلالها التعبير عن خياراتهم المتعلقة بالمحتوى الإعلامي([15]).

وهنا تجدر الإشارة إلى أهم خصائص اقتصاديات الإعلام الجديد، كما يلي:

1- الطابع اللامحدود لاقتصاديات الوفرة:فمع تنامي “اقتصاديات الوفرة” أو “الحجم” التي تتميز بها اقتصاديات الإعلام الجديد، لا تكلف عملية المادة الإعلامية شيئًا، فضلاً عن أن كل الأعباء والتكاليف تنفق قبل الإنتاج. بجانب ذلك، فكلما زاد الطلب على المنتج، زاد امتصاص التكاليف الثابتة، وكلما زادت المبيعات خفضت المؤسسة أسعار البيع، ومن ثَمَّ زيادة المبيعات فتتحقق الأرباح وتنعدم التكلفة([16]).

2- مرونة الطلب على وسائل الإعلام الرقمية: نتيجة للتغيير في أذواق المستهلكين الذين أصبحوا أكثر إقبالاً على متابعة الإنترنت، فضلاً عن أزمة الثقة المثارة تجاه الوسائل التقليدية نتيجة تبعيتها للحكومة وأصحاب المصالح والنفوذ التجاري من رجال الأعمال. بجانب ذلك، ولأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، يتوقع أن تؤثر إيجابًا على زيادة الطلب لكونها أقل تكلفة على المستهلك([17]).

ثانيًا: الآليات التسويقية التي يستخدمها الإعلام الجديد

مع اتساع نطاق تكنولوجيا الإعلام الجديد، سهلت الشبكة العنكبوتية ظهور كيانات وسيطة (أفراد أو مؤسسات) بأشكال متعددة شكلت في مجملها قطاع الإعلام الجديد ما بين صحف إلكترونية وتطبيقات إخبارية News Apps، وهو ما أحدث طفرة كبيرة على مستوى الآليات التسويقية التي يستخدمها الإعلام الجديد. فبداية، ومنذ مرحلة إنتاج المواد الإعلامية، تقلصت التكلفة الحدية لإنتاج هذه المواد إلى مستوى الصفر، فمع ارتفاع استهلاك المادة الإعلامية لتكاليف الإنتاج، اقتصر الأمر على تكاليف النسخة الأولى مع وصول تكلفة النسخ التالية (مجرد تحميلها) إلى مستوى الصفر. ومع قابلية هذه المواد للاستنساخ، فإن ذلك لا يؤثر على جودة المنتج، ولا على تكلفته. أمَّا ما يتعلق بعمليات التوزيع، فإن الطفرة التي طرأت على الفضاء الواسع للشبكة العنكبوتية، ذات الطابع العولمي، جعلت هذا المحتوى متاحًا للمتلقي([18]).

بجانب ذلك، فمع انخفاض الأسعار حينما يتجه المنتجون إلى تخفيض الأسعار حيث تكون أول نسخة يتم انتاجها من الخدمة الإلكترونية مرتفعة مقارنة بالتكلفة الحدية المتناقصة مع كل نسخة إضافية يتم انتاجها. ونتيجة لذلك يتزايد العائد الاقتصادي مع الإنتاج الإضافي، لأنها أصول غير ملموسة لا تفنى باستهلاكها؛ وهو ما يسهم في زيادة حدة المنافسة التجارية بين وسائل الإعلام في الحصول على المزايا التكنولوجية من أجل التوسع أكثر من الأسواق وتحقيق الكثير من الأرباح([19]).

كما أن الطفرة التكنولوجية التي طرأت على الإعلام الجديد تزامنت مع تغيرات هيكلية كبيرة في نمط الإنتاج والتسويق والإعلان والاستهلاك للمادة الإعلامية، وهو ما يبرز العديد من الأنشطة الجديدة في المجالات الإعلامية، فضلاً عن التغيرات التي طرأت على إدارة المؤسسات الصحفية وأشكال تنظيمها واستراتيجيتها، بل إنشاء وتطور مؤسسات اقتصادية في قطاعات التكنولوجية للإعلام. هنا انعكست تلك التحولات على كافة جوانب اقتصاديات الإعلام، وفي مقدمتها مسألة التسعير والدفع الإلكتروني لشراء المادة الإعلامية وغيرها، مثل: عمليات الإنتاج والتوزيع والتسويق والإنتاج والتسويق الرقمي. فالعديد من وكالات الأنباء تطبق وسائل الدفع الإلكتروني للوصول إلى الموقع سنويًا([20]).

ثالثًا: الهيمنة الرأسمالية على الإعلام الجديد

ارتبطت نشأة وانتشار وسائل الإعلام الجديد بالطفرة الرأسمالية التي طالت تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وهو ما انعكس على هيمنة ملحوظة للمؤسسات الاقتصادية العاملة في مجال التكنولوجيا، مثل شركة “فيس بوك” بمجال التواصل الاجتماعي، وشركة “جوجل” في مجال البحث، على وسائل الإعلام التقليدية التي دخلت دائرة المعاناة نتيجة تراجع الإقبال على خدماتها لحساب الوسائل التقليدية، فدخلت شركتا “فيس بوك” و”جوجل” في علاقات تعاقدية مع عدد من مؤسسات الإعلام التقليدي، وكانت هاتان الشركتان هما الرابحتين الكبريين؛ فقد دخلت شركة “غوغل” عام 2017 في عملية تفاوضية مع بعض شركات النشر والإعلام العالمية الكبرى، مثل: “تايمز”، و”سي إن إن”، في إطار مشروع جوجل الجديد الذي يستهدف توجيه القراء من محرك البحث “جوجل” إلى المواد الإعلامية الصادرة عن وسائل إعلام متحالفة مع “جوجل” بسرعة تنافسية مقارنة بغيرها، وذلك عبر الهواتف الذكية؛ وهو ما يكشف عن مساحة متنامية للسيطرة والنفوذ الذي تمارسه مثل هاتين الشركتين العملاقتين على وسائل الإعلام التقليدية، وخاصة مع تراجع إيراداتها من الدعاية والإعلانات في ظل الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العالم منذ 2009([21]).

إضافة إلى ذلك، فإن الإعلام الجديد يتميز بدمج الوسائل المختلفة القديمة والمستحدثة في مكان واحد، على منصة الكمبيوتر وشبكاته، وما ينتج عن ذلك الاندماج من تغيير انقلابي للنموذج الاتصالي الموروث بما يسمح للفرد العادي إيصال رسالته إلى من يريد في الوقت الذي يريد بطريقة واسعة الاتجاهات، وليس من أعلى إلى أسفل وفق النموذج التقليدي. فضلاً عن تبني هذا الإعلام للتكنولوجيا الرقمية وحالات التفاعلية والتشعبية وتطبيقات الواقع الافتراضي وتعددية الوسائل وتحقيقه لميزات الفردية والتشخيص وتجاوزه لمفهوم الدولة الوطنية والحدود الدولية[22]).)

تلك الهيمنة اقترنت بدورها بسياسة إملاء الشروط على مؤسسات الإعلام التقليدي؛ فبحسب تقرير لـ”بلومبيرغ”، فإن لدى “فيس بوك” نحو ملياري مشترك، ولدى “جوجل” 7 منتجات بأكثر من مليار مستخدم لها شهريًا، وهو ما يعزز موقفها التساومي مع المؤسسات الأخرى.

وتجدر الإشارة – أيضًا – إلى هيمنة 18 شركة أميركية في مجال الإلكترونيات على 75% من الإنتاج الصناعي الإلكتروني العالمي في مجال أجهزة الاتصال. بجانب ذلك، فإن 97% من أجهزة التلفزيون، و87% من أجهزة الراديو، و95% من مصادر الأخبار في دول العالم الثالث، مستوردة من دول تتبنى النهج الرأسمالي (الاقتصاد الحر)، في حين تنتج الولايات المتحدة ما بين 60-70% من إجمالي الإنتاج في هذا المجال. كما تسيطر 5 شركات فقط على 80% من الإنتاج الأميركي في مجال الدوائر الإلكترونية. وفي هذا السياق، لم تعد عولمة الإعلام مجرد أداة أيديولوجية، بل إنها أصبحت جزءًا أصيلاً من عولمة الاقتصاد([23]).

وهنا يبرز التساؤل: في علم مهما بلغ اتساع نطاقه الرأسمالي، وتطور تكنولوجي يخضع لسيطرة احتكارية لكبار الرأسماليين من أمثال: “بيل جيتس”، و”روبرت ميردوخ”، و”جان لاغاردي”، فإلى أي مدى يتسع نطاق الحرية الإعلامية؟ ذلك أن إشكالية العلاقة بين سطوة الاقتصاد (الإعلان وغيره) وحرية الإعلام، ستطرح نفسها بقوة أكبر، خاصة مع التعاظم المتزايد للمجموعات الاحتكارية وسطوتها على وسائل الإعلام.

لكن الملاحظ على التنافسية التي تنطوي عليها الهيمنة الرأسمالية، أنها لم تخلُ من الآثار السلبية على صناعة الإعلام الجديد، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:(([24]

1- تهديد المنتجات البديلة التي قد تعوق قدرة الشركات على رفع الأسعار.

2- إعاقة دخول الصناعة، إذ إنها صناعة تنافسية في المقام الأول، ومن ثَمَّ، فإن الممارسات الاحتكارية تعني ارتفاع الأسعار والمنتجات الرقمية مما ينعكس بدوره على صناعة الإعلام.

3- القوة الشرائية تمنع المنافسين الجدد من دخول السوق ما يعيق دخول الصناعة.

وما يحدث في هذا الصدد، أن الانطلاق من الأسواق التنافسية يفضي في غالب الأحيان إلى سيطرة احتكارية، كما هو الحال بالنسبة إلى شركة “ميكروسوفت”، التي بدأت بشكل تنافسي في مجال نظم تشكيل الكمبيوتر وبرامج الإنترنت، لكنها بفضل ما تتمتع به من وفورات مالية فقد تعزز وضعها الاحتكاري، ومن ثَمَّ، فإنها تسعى لتقييد المنافسة ووضع القيود أمام دخول منافسين لها يجدون في منافستها تكلفة باهظة لا قبل لهم بها. ومثال على ذلك ما منيت به شركة “إنتل سكيب” حينما حاولت طرح برنامج “نت سكيب” فقابلتها شركة “ميكروسوفت” بطرح منتج “إنترنت إكسبلورر” بالمجان؛ وهو ما يعزز التطورات التي طرأت على كافة مراحل صناعة الإعلام كالإنتاج والتوزيع والتسويق والبيع،وصولاً إلى معدلات الربحية، ودعم قدرتها التنافسية[25]).)

رابعًا: حدود التأثير ونطاق الحرية

أمَّا تأثير ذلك على حدود الحرية في توصيل الرسالة الإعلامية، فهذه نقطة تمثل إشكالية جوهرية في خضم اقتصاديات الإعلام الجديد، فضلاً عن كونها تمثل ميدانًا للاختلاف بين الإعلام التقليدي والجديد الذي يقوم فيه الأفراد بدور مختلف، إذ أصبح الشخص بإمكانه أن يقوم بدور رئيس تحرير قناة ليصنع من خلالها ما يريد. لكن رغم ذلك، فإن تأثيرها على حدود الحرية قد انحصرت في بعدين:

الأول، هو اتساع نطاق الحرية، إذ بات بإمكان أكبر قطاع ممكن من البشر، التفاعل مع كافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتحول الفرد الذي اعتاد القيام بدور المتلقي من خلال وسائل الإعلام التقليدية (المقروءة والمرئية)، إلى مشارك في صنع المادة الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعية، وهو ما مثَّل طفرة واضحة في مساحة حرية التعبير إلى الحد الذي اختلطت فيه حدود التعبير بالفوضى، ولا سيَّما مع الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي خلال السنوات الأخيرة فيما عرف بـ”الربيع العربي”، فقد مثلت وسائل التواصل الاجتماعي الميدان الأبرز والأكثر تأثيرًا في تلك الأحداث[26]).)

أمَّا الثاني، فقد تمثل في اتجاه تلك الحدود واتجاهات تلك الحرية التي انقسمت بدورها إلى شقين: الأول يتصل بقطاع الجمهور الذي غلبت عليه الفوضى في ممارسته لحق التعبير. والثاني يتصل بمستوى المؤسسات الإعلامية الكبرى المسيطرة على الممارسات الإعلامية عبر الإنترنت، التي شهدت تغييرًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة بفضل الطفرة التكنولوجية في مجال أبحاث السوق وتكنولوجيا المعلومات. فبالنظر إلى سوق السيطرة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي، نجد أن شركات صناعية كبرى، مثل: “إيكسون موبيل”، و”جنرال إلكتريك”، و”سيتي غروب”، و”شيل أويل”، شهدت جميعها تراجعًا في ترتيبها بين كبرى المؤسسات الاقتصادية على مستوى العالم لتحل محلها كبرى الشركات المسيطرة على الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، مثل: شركة “جوجل”، و”فيس بوك”؛ وذلك نتيجة لانخراط مثل تلك الشركات في الأنشطة الاقتصادية كالإعلانات على سبيل المثال، وتكفي الإشارة إلى أن حصة شركة “جوجل” من سوق الإعلانات على محركات البحث هي 88%، وحصة “فيس بوك”، و”انستغرام”، و”واتساب”، و”مسنجر”، تمثل 77% من حركة المواقع الاجتماعية على الهواتف المحمولة، في حين تسيطر شركة “أمازون” على 74% من سوق الكتب الإلكترونية([27]).

فالإعلام الجديد ألقى بظلاله على الإعلام التقليدي؛ إذ أسهم كونه قائمًا على لامركزية المعلومات وانتشاره بين الناس، في إحداث تغيير كبير داخل عناصر العملية الاتصالية وزاد من حرية التعبير لدى الأفراد ومشاركتهم في صنع الحدث الإعلامي من خلال عملية التغطية المباشرة للأحداث، أو من خلال الرأي في إدلائهم للتعليقات حول ما يرونه ويعايشونه كشكل من أشكال التغيير في الرسالة من حيث المضمون المقدم ومقاربته لهموم الناس وتطلعاتهم([28]).

كذلك أسهم الإعلام الجديد في الكثير من التغييرات التي طرأت على وسائل الإعلام التقليدية التي كانت نتاجًا وإفرازًا للمشكلات التي واجهته مع دخول التقنية، ومنها على سبيل المثال: تفتت الجماهير بين الوسائل، فتنامي المنافذ الإعلامية أدى إلى توزيع الجمهور المنتظر للمعلومة بين الصحف الإلكترونية، ومواقع الشبكات الاجتماعية، وخدمات الهاتف الذكي من جهة أخرى؛ وهو ما يمكن التعبير عنه بانكماش حجم الجمهور نتيجة لتفتته، وهو ما دعا كثيرًا من المؤسسات الإعلامية إلى الاستعانة بخطة 360 درجة أي الدولة الكاملة بحيث تقوم المؤسسة على الانتشار والوجود من خلال كل ما يحتاج وما هو ممكن من وسائل وآليات للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، فصارت الصحيفة الورقية، مثلاً، توجد ورقيًا وإلكترونيًا بتحديث دائم على مدار الساعة، وتتصل بقرائها ومتابعيها عبر الشبكات الاجتماعية، وتسعى للاستفادة من الوسائل المتعددة من خلال عرض كثير من التفاصيل بالصورة والفيديو. وتوجد – أيضًا – عن طريق وسائل الجوال وما إلى ذلك، وهي إحدى الخطط الناجحة والجادة من الوسائل التقليدية للوصول إلى الجيل الشبكي (جمهور المستخدمين) عبر إدراك خصائصهم وخريطة الاتصال الخاصة بهم والمفضلة لديهم[29]).)

هنا نشير إلى أن الهيمنة على التقنيات تقود العالم إلى أشكال جديدة من التبعية، ويشير واقع الحال إلى غلبة كفة الدول الرأسمالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة بحكم سيطرتها على قطاعات ثلاثة، هي: الثقافة والكمبيوتر والإنترنت، من خلال هيمنة الشركات العملاقة والمسيطرة([30]).

بجانب ذلك، ورغم الزخم الذي يكتنف اقتصاديات الإعلام الجديد، فإن هناك من يلاحظ محدودية الربح واقتصاره على عدد قليل من مقدمي المحتوى، فغالبية الناس يترددون في دفع مبالغ إضافية لمحتويات الإنترنت الأخرى، فإذا لم يصبح توفير المحتوى مربحًا، فإن الأمر يتطلب بعض الوقت والمال لجاذبية الجماهير إلى المواقع على شبكة الإنترنت. هذا الأمر لم ينفصل عن حدود الحرية في إنتاج المعرفة عبر وسائل الإعلام الجديد؛ فقد برز توجه نحو إنتاج المواد الإعلامية منخفضة التكلفة، ما يعني ارتباط تعظيم الأرباح بالتأثير على جودة المادة الإعلامية نظرًا لارتباط العائد عليها بالعائد الإعلاني الذي يتأثر بدرجة مباشرة بنسبة المشاهدات لتلك المادة الإعلامية.

المبحث الثالث

العلاقات بين أخلاقيات المهنة ومصالح رأس المال في الآلة الإعلامية

وتأثيرها على حدود الحرية

مع تسارع وتيرة التطور في العمل الإعلامي بما يسهم في توسيع نطاق الحرية في ميدان الإعلام الجديد بشكل لا حدود له، باتت الحاجة إلى ضوابط تسيطر على تلك التطورات ووسائل الرقابة عليها، وهو ما ضاعف الحاجة للتمسك بأخلاقيات العمل الإعلامي. فالإعلام الجديد أعطى الأفراد حرية التصفح والتعليق والتعبير عن وجهات النظر عمَّا ينشر من معلومات ومواد في مجالات عديدة: اقتصادية وسياسية واجتماعية…وغير ذلك، كما وفرت مساحات للتفاعل مع ما يتم نشره بواسطة الخبراء والمتخصصين على صفحاتهم.

تُعرَّف الأخلاقيات المهنية على أنها “قيم ومعايير تحدد قواعد العمل والسلوك المهني، الذي يستند إليه الصحفي للتمييز بين الصواب والخطأ”، وتعدُّ تلك الأخلاقيات عبارة عن لوائح يضعها الصحفيون من أجل حماية المهنة الصحفية والارتقاء بالمؤسسة الصحفية التي ينتمون إليها. ومن ثَمَّ، فإنها تعبر عن مجموعة القيم والمعايير، التي يعتمدها أفراد المهنة للتمييز بين ما هو جيد وما هو سيئ، وبين ما هو مقبول أو غير مقبول، في السلوك المهني؛ ولتحقيق ذلك يتم وضع ميثاق يبين هذه القيم والمعايير والمبادئ وقواعد السلوك والممارسة.

وتتعدد القيم الأخلاقية في العمل الصحفي على النحو التالي: الحياد والموضوعية، والشعور بالمسؤولية، واحترام كرامة الإنسان، والمساواة، والاستئذان، والأمانة، وتوخي الدقة والإجادة، والالتزام، والتحلي بالمثل الأخلاقية، وعدم التجسس، والنزاهة والعفة([31]).

وتكتسب تلك المواثيق الأخلاقية أهميتها من كونها توفر إحساسًا عامًا بالذاتية المهنية لدى العاملين، كما أنها تشير إلى درجة النضج التي وصلوا إليها. كما أنها تسهم في تطور الوعي الذاتي وتشكيل هوية جمعية لديهم، وكذا بخصوص المهنة لدى أفرادها بما يحدد التوقعات المتبادلة بينهم وبين المجتمع، وهو ما يسهم في تحسين مستوى الأداء المهني، وتعزيز الإحساس الداخلي بالانتماء للمهنة، والحرص على كرامتها وصورتها لدى المجتمع.

أخلاقيات العمل الإعلامي الجديد تتمثل في كسب ثقة الناس من خلال المصداقية والموضوعية، وإدراك خدمة المصلحة العامة، وحماية المجتمع من التبسيط الزائد، وتوفير نطاق واسع من المعلومات لتمكين الجمهور من تبني رؤى أقرب للموضوعية.

وعلى ذلك، فإن نطاق الأخلاقيات المهنية في ميدان الإعلام الجديد، يرتبط بمجموعة الوظائف التي يضطلع بها، والتي يحددها “هارولد لاسويل” في الوظائف الأربع التالية[32]):)

أولاً، وظيفة الإشراف والمراقبة:وذلك من خلال عمليات المراقبة التي تقوم بها وسائل الاتصال الجماهيري، التي توفر المعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات عن طريق شبكات المندوبين والمراسلين المحليين والخارجيين وعبر التقارير الصحفية.

ثانيًا، الترابط:تعمل وسائل الاتصال الجماهيري على تحقيق الترابط في المجتمع تجاه قضاياه الأساسية.

ثالثًا، نقل التراث الاجتماعي:فالتراث المتمثل في المعرفة والثقافة ينتقل من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان آخر، لتحقيق أهداف المجتمع في التنشئة الاجتماعية، التي تشير إلى توفير رصيد مشترك من المعرفة يمكن الناس من أن يعملوا كأعضاء ذوي فاعلية في المجتمع الذي يعيشون فيه والمشاركة النشطة في الحياة العامة.

رابعًا، وظيفة الترفيه:وهي ربَّما تحتوي على جميع وظائف الإعلام والفنون، ويمكن أن تقود إلى التعليم بأنواعه المتعددة والمختلفة، وتظهر هذه الوظيفة عبر إذاعة الأشكال المختلفة من الفنون كالآداب والموسيقي والرقص والدراما وغيرها بهدف الإمتاع على الصعيد الشخصي أوالجماعي.

وبالنظر إلى تلك الوظائف، فإنها تتحدد بدرجة أساسية بإطار أخلاقيات المهنية في إطار الإعلام أيًا كان شكله (تقليديًا أم جديدًا)، ما يعني أن الخروج عليها يمثل انتهاكًا لتلك المنظومة الأخلاقية، وما يترتب عليها من تنامي اتجاهات الفوضى في المجتمعات.

والجدير بالإشارة أنه مع اتساع نطاق الحريات التي وفرها الإعلام الجديد، أصبح أبرز ما يميز الممارسات الإعلامية وجود أزمة على مستوى الأخلاقيات المهنية الإعلامية، وقد ارتبطت تلك الأزمة بغياب الصدق والدقة والموضوعية والحياد في عمل المؤسسات الصحفية الإلكترونية. كما ترتبط بتأثير العواطف الشخصية وانعكاسها على اختيار ونشر الأخبار.

لقد ترتب على الفضاء الإلكتروني بروز نمط جديد من الديمقراطية وانتشار القيم الليبرالية داخل المجتمع، وهو ما ساعد على إيجاد أشكال جديدة من الثقافة السياسية، وعمل على إعادة تشكيل المجال السياسي وعلاقته بعملية التداخل بين المجال العام والخاص، وما بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني([33]). لكن رغم ذلك، فإنه مع اتساع نطاق الحرية، وتنوع وسائل الإعلام الجديد، مثل: المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح بالإمكان نشر معلومات غير صحيحة ومضللة للرأي العام، تتباين في اتجاهاتها وأهدافها([34]).

ومن ثَمَّ، فقد بات الإعلام الجديد في حاجة لميثاق أخلاقيات الإعلام الإلكتروني وذلك بهدف التنظيم لا التعقيد، وليس السيطرة على المواقع الإلكترونية. فالممارسة الإعلامية النزيهة لا بدَّ أن تلتزم بحقين أساسيين هما: الحق في الاطلاع والمعرفة، والثاني هو الحق في التعبير؛ ذلك أن الدور الاجتماعي للإعلام يساعد على الموازنة بين مفهوم الحرية والمسؤولية الاجتماعية.

العلاقة بين أخلاقيات المهنة ومصالح رأس المال

مع اتساع نطاق الهيمنة الرأسمالية، وسيادة منطق اقتصاديات الإعلام الجديد، طرأت على حرية التعبير تغييرات شكلية وموضوعية. فمن الناحية الشكلية اتسع نطاق تلك الحرية ليشمل أكبر عدد ممكن ممن يمارسون العمل الإعلامي على الشبكة العنكبوتية، وهو ما ساعد في إحداث حالة من السيولة والتدفق في المعلومات ليتفاعل بدوره مع الكثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية…إلخ، كما تجلى في الكثير من الأحداث التي شهدتها مناطق عديدة في العالم([35]).

ومنذ بداية الاهتمام ببيئة العمل الإعلامي الجديد، ثار جدل واسع حول إمكانية تطبيق أخلاقيات العمل الإعلامي الجديد، لكن واقع ذلك الجدل كشف عن جدلٍ موازٍ بشأن مجموعة من التحديات المهنية والأخلاقية التي ترتبط بإمكانية تطبيق واستمرار منظومة أخلاقيات العمل الإعلامي.

ففريق يرى أن البيئة الإعلامية الإلكترونية بحاجة لصياغة منظومة جديدة من الحقوق والواجبات لمساعدة الإعلاميين أثناء تأدية مهام عملهم بما يتناسب مع الطفرة الهائلة التي طرأت على مجال الاتصالات والمعلومات. في حين يرى فريق آخر عدم وجود حاجة لسن مواثيق شرف، أو وضع ضوابط أخلاقية خاصة بالعمل الإعلامي في البيئة الإلكترونية، بل إنه يعارض إمكانية تطبيق منظومة القيم التقليدية على بيئة غير تقليدية بالأساس بزعم عدم التناسب بين هذا وذاك([36]). لكن الملاحظ على الفريق المؤيد لعدم جدوى سن مواثيق أو تشريعات منظمة لبيئة العمل الإعلامي الإلكتروني، هو ارتباطه بجملة المكاسب المتحققة من المصالح الاقتصادية والمكاسب التي تحققها منظومة الرأسمالية العاملة في مجال التكنولوجيا.

وكما سبقت الإشارة، فقد تفاعلت سيطرة رأس المال على الإعلام الجديد فيما دفع باتجاه توسيع مساحات الحرية الإعلامية لدى عدد لانهائي من الأفراد في كافة أنحاء العالم،من جهة،وتمكين الشركات الرأسمالية الكبرى المسيطرة على الفضاء الإلكتروني فيما يخدم اتجاهات المصلحة لديها من جهة أخرى.

الخاتمة

تناولت الورقة جوانب اقتصاديات الإعلام الجديد، في ظل الطفرة التكنولوجية والتطورات المتسارعة على نطاق العمل الإعلامي.

وقد انتهت الورقة إلى أن الهيمنة الرأسمالية على العمل الإعلامي عامة، والإعلام الجديد أو الإلكتروني خاصة، أدت إلى اثنين من التداعيات المهمة بالنسبة لحرية ممارسة العمل الإعلامي عبر الفضاء الإلكتروني، وهما: الأول، توسيع مساحة الحرية لدى أكبر قدر ممكن من البشر (عدد لا نهائي) بما يخلط بين واقع الحرية والميل نحو الفوضى بما يتناسب مع اتجاهات الثقافة العامة لدى الأفراد وسيطرة الحكومات على الفضاء الإلكتروني.

أمَّا الثاني، فيتمثل في اتساع نطاق هيمنة الشركات الرأسمالية الكبرى المحتكرة للإعلام الإلكتروني بما يجعل من نطاق الحرية الإعلامية مرهونة بتوجهات تلك الشركات ومصالحها. ومن ثَمَّ، فإن اتجاهات حرية العمل الإعلامي الإلكتروني تحددها التوجهات العامة للشركات الرأسمالية الكبرى.

مدير عام مركز سمت للدراسات، وكاتب سعودي*

المراجع

[1]- Vangie Beal, New Media, http://cutt.us/SjjpK

[2]- A Working Definition of New Media 1998, On; http://cutt.us/yZlz8

[3]- عباس مصطفى صادق، الإعلام الجديد دراسة في مداخله النظرية وخصائصه العامة، دراسة منشورة، ص 5. متاحة على الرابط التالي: http://cutt.us/FLjfi

[4]- محاضرات في مدخل إلى الإعلام الإلكتروني، قسم الإعلام وتكنولوجيا المعلومات بجامعة فلسطين، قسم الإعلام والاتصال، 2016، ص 2.

[5]- جمال محمد غيطاس، الإعلام والإبداع في ظل ثورة المعلومات: الصحافة الإلكترونية والإبداع المفتوح، مؤتمر دور الإعلام وتكنولوجيا المعلومات في دعم الديمقراطية وحرية التعبير، كوالالمبور، ماليزيا، 2011، ص3.

[6]- فيصل محمد عبدالغفار، شبكات التواصل الاجتماعي، القاهرة،دار المنهل، 2015، ص 85.

[7]- جون هيرتلي، الإعلام الجديد وقضاياه،القاهرة، المجموعة العربية للتدريب والنشر، 2018، ص 39.

[8]- قينان عبدالله الغامدي، التوافق والتنافر بين الإعلام التقليدي والإعلام الإلكتروني،ورقة بحثية مقدمة إلى ندوة الإعلام والأمن الإلكتروني، جامعة الأمير نايف العربية للعلوم الأمنية، مايو 2011.

[9]- مهند حميد عبيد التميمي، استخدام الشباب لشبكات التواصل الاجتماعي وعلاقته بالتعرض للتلفزيون: دراسة مسحية على طلاب المدارس الإعدادية في محافظة واسط نموذجًا، رسالة ماجستير،جامعة بغداد، كلية الإعلام، قسم الصحافة الإذاعية والتلفزيونية، 2015، ص55.

[10]- عباس مصطفى صادق، مرجع سابق،ص 11.

[11]- آلاء زومان، هل تنهي الشبكات الاجتماعية عصر الإعلام التقليدي، جريدة الاقتصادية، 4/4/2012. متاح على الرابط: http://cutt.us/Q164S

[12]- إبراهيم عمر، التأثير الاقتصادي والاجتماعي لتكنولوجيا الإعلام والاتصال داخل المؤسسات الاقتصادية، مجلة اقتصاديات شمال إفريقيا،(الجزائر: جامعة حسيبة بن بو علي الشلف، مخبر العولمة واقتصاديات شمال إفريقيا، العدد السابع، 2009)، 18.

[13]  – رنا إبراهيم، عولمة شبكات التواصل تؤثر في الإعلام التقليدي ولا تلغيه، جريدة الحياة، 14/10/201.متاح على الرابط: http://cutt.us/LWRZq

[14]- قينان عبدالله الغامدي، مرجع سابق،ص16.

[15]- مارك بالنافز، نظريات ومناهج الإعلام، ترجمة عاطف حطيبة، (القاهرة: دار المنهل للنشر، 2017)، ص 362.

[16]- بروس زين الدين، واقع تحديات الاقتصاد الجديد، مجلة العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير،(الجزائر: جامعة سطيف1، العدد الثالث، 2004)، ص 108.

[17]- حمدي بشير، مرجع سابق،ص 22.

[18]- Stave Jones, Encyclopedia of New Media: An Essential Referemnce to Communication and Technologu, SAGE Publication, 2002, P.48

[19]- حمدي بشير، المرجع السابق،ص 24.

[20]- مثال على ذلك صحيفة “وول ستريت جورنال” التي تتحصل على نحو 79% دولار مقابل وصول الفرد إلى موقعه سنويًا.

[21]- مطلق منير، شركات التكنولوجيا تملي شروطها القاسية على وسائل الإعلام، الشرق الأوسط، 12/12/ 2017.

[22]- عباس مصطفى صادق، مرجع سابق،ص 8.

[23]- سميرة بلعربي، المجموعات الإعلامية الاحتكارية: دراسة في العلاقة بين الإعلام والمجموعات الاقتصادية، ورقة منشورة، الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، متاحة على الرابط: http://cutt.us/ALV0C

[24]- حمدي بشير محمد علي، الإعلام الرقمي واقتصاديات صناعته، ورقة عمل للمشاركة في المنتدى الإعلامي السنوي السابع للجمعية السعودية للإعلام والاتصال، تحت عنوان “منتدى الإعلام والاقتصاد .. تكامل الأدوار في خدمة التنمية”،الرياض، 11-12 إبريل 2016، ص 25.

[25]- Lee Rainie and Kristen Purcell, The economics of online news, State of the News Media 2010,Pew Internet & American Life Project,(Washington, D.C. :An initiative of the Pew Research Center, March 2010 ),p.10-16.

[26]- خالد وليد محمود، شبكات التواصل الاجتماعي وديناميكية التغيير في العالم العربي،(بيروت: دار مدارك للنشر، 2011)، ص 14.

[27]- جوناثان تابلن، احتكار شركات التكنولوجيا العملاقة ، جريدة الحياة، على الرابط: http://cutt.us/6Edbv

[28]- للمزيد انظر:

Robert G. Picard: “The Economics of the Daily Newspaper Industry”, Alison Alexander and others (eds),Media Economics,(Mahwah, New Jersey : Lawrence Erlbaum Associates, Inc., Third Edition,2004),p. 119.

[29]- قينان عبدالله الغامدي، مرجع سابق،ص 13.

[30]- يقظان التقي، الإعلام والعولمة والديمقراطية،(بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشر، 2015).

[31] – أخلاقيات ومبادئ العمل الصحفي والإعلامي، مركز هردو لدعم التعبير الرقمي، القاهرة، 2017، ص 16.

[32]- انتصار إبراهيم عبدالرازق، صفاء حسام الساموك، تطور الأداء والوسيلة الوظيفية، (جامعة بغداد: سلسلة مكتبة الإعلام والمجتمع، الكتاب الأول، 2011)، ص 47.

[33]- عادل عبدالصادق، الفضاء الإلكتروني والديمقراطية بين التحولات والتحديث،(القاهرة: المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني، 2012)، ص 23.

[34]- ياسر خضير البياتي، الأخلاقيات المهنية في الإعلام الرقمي، جريدة العرب اللندنية، 23/3/2017، متاح على الرابط: http://cutt.us/k9iJN

[35]- نشير هنا إلى الانتفاضات الشعبية خلال السنوات الأخيرة، وهي التي عرفت بـ”الربيع العربي”، وكذا الحال بالنسبة لما تشهده بعض العواصم الأوروبية، وبخاصة فرنسا تحت شعار “السترات الصفراء”، حيث تفاعل الإعلام الجديد بدرجة واضحة في تلك الأحداث.

[36] – بثينة مهيرة، أخلاقيات الإعلام الجديد: بين الحرية والالتزام في البيئة الإلكترونية، مجلة المعيار،مجلد 22، عدد 44، سنة 2018، ص397.

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر