سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. أشرف محمد كشك
«حان الوقت للأوروبيين لتشكيل جيش أوروبي حقيقي» و«يجب أن تكون أوروبا أكثر قوة وأوفر سيادة» تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الخامس من نوفمبر 2018 وأثارت جدلاً كبيرًا، وواقع الأمر أنها ليست المرة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة التي تثار فيها تلك الفكرة، فالاتحاد الأوروبي الذي يعد أحد أبرز التجارب التكاملية الإقليمية التي إن بدأت من منظور اقتصادي بتأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951ثم تطورت إلى الصيغة الحالية فإن الدوافع وراء تأسيس تلك الجماعة كانت سياسية وأمنية، ما يعني أن العوامل الاقتصادية قد تكون أساس نشأة بعض التنظيمات ولكن من الطبيعي أن تتطور نحو أطر دفاعية.
ومع أهمية ما سبق فإن التحدي دائمًا ما يخلق الاستجابة، وفي تصوري فإن إثارة تلك الفكرة تنبع من ثلاثة مستجدات متلازمة أولها: توتر العلاقة بين ضفتي الأطلسي وخاصة خلال العامين الماضيين، الأمر الذي حدا بالدول الأوروبية إلى التفكير في تأسيس إطار أمني أوروبي، وثانيها: ازدياد هواجس دول الاتحاد الأوروبي تجاه تطور القدرات العسكرية الروسية، وثالثها: المخاطر الأمنية الهائلة التي تواجه دول الاتحاد وتتطلب وجود كيان دفاعي لمواجهتها فيما يتعلق بالإرهاب التقليدي والإلكتروني أو الهجرة غير الشرعية.
وإذا نظرنا إلى الواقع نجد أن أنظمة التسليح لدى الدول الأوروبية تفوق الولايات المتحدة بحوالي ستة أضعاف، فضلا عن التفوق البشري لدى أوروبا إلا أن المسألة لا تقاس بالقوة والعتاد، بمعنى آخر أن القرارات الاستراتيجية لا تكون ترجمة تلقائية للقوة فحسب ولذا من أجل تقييم ذلك التوجه الأوروبي فإن هناك حاجة إلى الإجابة على تساؤلات ثلاثة الأول: هل هناك توافق بين دول الاتحاد الأوروبي حول مضمون الفكرة أم أن الأمر لا يعدو كونه إثارة النقاش بشأنها من أجل اختبار ردود الأفعال ليس فقط من جانب القوى الدولية الأخرى ولكن بين أعضاء الاتحاد ذاتهم؟ والثاني: هل السياق الدولي الراهن يتيح فرصة حقيقية لتأسيس جيش أوروبي موحد؟ والثالث: ما معوقات تنفيذ تلك الفكرة على الصعيد الأوروبي؟
من ناحية أولى يلاحظ تباين ردود أفعال دول الاتحاد تجاه المقترح الفرنسي سواء بالرفض الصريح أو التأييد الصريح وما بينهما من مواقف ضبابية، ولا شك أن لكل من تلك التيارات حججها وهواجسها الأمنية التي لا تعكس بالضرورة هاجسا أمنيا أوروبيا مشتركًا.
من ناحية ثانية إذا نظرنا إلى السياق الدولي الراهن أتصور أنه لا يمكن الفصل بين ذلك السياق وإثارة تلك الفكرة فهدف الدول الأوروبية هو السعي لتحقيق قدر من الاستقلالية للسياسات الأوروبية إذ إنه ربما ترى الدول الأوروبية أن عدم وجود إطار أوروبي للدفاع كان له تأثير على مصالحها الاستراتيجية وخاصة في مسائل السياسة الخارجية التي بدت فيها الولايات المتحدة أكثر افتراقا عن المصالح الأوروبية، وخاصة خلال العامين الماضيين، وفي ظل احتدام الصراع الروسي الغربي فإنه من الطبيعي أن يجد ذلك الاقتراح ترحيبا من الجانب الروسي إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة حيث إن فكرة وجود جيش أوروبي مستقل سوف تصطدم بالتزامات الدول الأوروبية داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو» وبافتراض تأكيد مسؤولي الدول الأوروبية على استمرار الحفاظ على التزاماتها داخل الحلف فإنه واقعيا يصعب وجود كيانين دفاعيين كما عبَّر عن ذلك صراحة الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج الذي أيد توجه أوروبا إلى تعزيز دفاعاتها ضمن إطار دفاعي تنتظم فيه قواتها المسلحة لكن ليس بديلاً عن حلف الناتو حيث أبدى اعتراضًا على فكرة تأسيس «هياكل قيادية دفاعية» ضمن الاتحاد الأوروبي بما يعنيه ذلك من تداخل التزامات الدول الأوروبية بين الاتحاد والحلف، وهو المعنى ذاته الذي أكدته مسؤولة الأمن الدولي لدى وزارة الدفاع الأمريكية كيتي ويلبارجر بالقول «ندعم المبادرة الأوروبية شريطة أن تكون مكملة ولا تنتقص من أنشطة واحتياجات حلف الناتو» ولاشك أن الموقفين يجب أن يؤخذا بعين الاعتبار وخاصة الموقف الأمريكي ليس فقط تجاه مقترح الجيش الأوروبي بل داخل حلف الناتو ذاته -الذي لايزال المظلة الدفاعية الأهم للدول الأوروبية -في ظل إسهام الولايات المتحدة بحوالي 72% من ميزانية الحلف حيث كانت- ولا تزال- مسألة وفاء أعضاء الحلف بالالتزام بتخصيص نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي لنفقات الدفاع مثار جدل في ظل مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بهذا الأمر.
من ناحية ثالثة فإن هناك عقبات لا تزال تواجه تنفيذ ذلك المقترح على الصعيد الأوروبي ابتداءً من عدم وجود تصور واضح لتلك الفكرة: هل ستكون جيشا أم قوة أمنية، وما المدة الزمنية التي سوف يستغرقها تنفيذ ذلك المقترح؟ مرورًا بآلية عمل الاتحاد ذاته فربما تكون لدى بعض برلمانات الدول الأوروبية تحفظات على مشاركة جيوش الدول الأوروبية في الخارج ضمن كيان دفاعي جديد وانتهاء باختلاف السياسات الدفاعية والعقيدة القتالية بين الدول الأوروبية.
وبرأيي فإن تنفيذ ذلك المقترح يظل مرتبطا بثلاثة متطلبات الأول: ضرورة وجود توافق على الأقل بين الدول المحورية داخل الاتحاد حول إمكانية وواقعية الفكرة، إذ إن جميع التنظيمات الإقليمية دائمًا ما تضم دولاً محورية يكون لها تأثير ودور مهم داخل تلك التنظيمات وربما يكون الأمر أكثر وضوحا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية، والثاني: ربما يكون من المفيد مناقشة آليات عمل تلك القوة بشكل أكبر حيث إنه من التبسيط الشديد الانتقال من المقدمات إلى النتائج من دون بحث آليات التنفيذ، والثالث: من المهم للغاية بحث نقاط الالتقاء والتقاطع بين التزامات الدول الأوروبية داخل حلف الناتو الذي لايزال المنظمة الدفاعية الأقوى في العالم ليس بالنظر إلى طبيعة الميثاق المنشئ له والذي يتضمن التزامات واضحة بل بالنسبة إلى القدرات العسكرية التي كان لها دور في حسم عديد من الأزمات والتزاماتها ضمن مقترح الجيش الأوروبي الموحد الذي إن وجد سبيله نحو التنفيذ فسوف نكون إزاء نظام دولي جديد.
المصدر: أخبار الخليج
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر