سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
سلطان السعد القحطاني
بعد القرار الملكي الأخير بشأن إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات السعودية، فإن الأمر سيصبح مشابهاًلما يحدث في لغة التكنلوجيا والهواتف المحمولة: إعادة ضبط المصنع، وهو يعني محو كل شيء،باستثناء البرامج الأساسية في الجهاز، وإعادة تحميل ما يهمك من تلك البرامج الممحوة، ويمكنتحديثها أيضاً بالإصدار الجديد.
وهذا تماماً ما يحتاجه جهاز استخبارات أهم دولة في الشرق الأوسط. وكما قال ولي العهد السعوديأمام مئات الحضور في المنتدى الاقتصادي الضخم، الذي يلقب ب “دافوس الصحراء”:” قمنا بهيكلةالأجهزة الاقتصادية وحان الوقت لهيكلة الأجهزة الأمنية”.
لقد تغير عالم الاستخبارات في الحقبة الجديدة من هذا القرن، فلم تعد مجرد وكالات جمعمعلومات سياسية، وعسكرية، بل تطورت مكامن الخطر، ومواضع تحسسه، لتصبح في أماكن غيرمتوقعة، مثل الشركات الاقتصادية، ومحاضن الأعمال التكنلوجية. أحيانا يكون التواجد الاستخباراتيفي وادي السيلكون الأمريكي، أهم من التواجد في قلب أي مفاعل نووي في العالم.
أصبحت الأجهزة تنشر عملياتها الاستخباراتية عبر مظلات الشركات، ومراكز الأبحاث والمؤسساتالإعلامية. بل إن جهاز الاستخبارات الأمريكي، الذي بني جهاز الاستخبارات السعودي على طريقتهفي الستينات، أنشأ مركزاً للتنبؤ، حيث تم تطوير هذه الفكرة بين أوساط المحللين التابعين له،ومسابقات لتطوير الذكاء، وتطوير طرق تحليل المعلومات، وربطها سوياً.
ويقع العبء الأكبر على جهاز الاستخبارات في تحديد مهددات الأمن الوطني، وكذلك تأسيسالرؤية الاستراتيجية لمواجهتها.
لقد أسس جهاز الاستخبارات السعودي في عهد الملك سعود، الذي كان يراجع الأعمال الاستخباريةبنفسه، وكان محمد العيبان، رئيس النواة الأولى لهذا الجهاز، يعمل في مكتب واحد مع جهازالمباحث العامة، حتى تم الفصل بينهما بعد ذلك بعام واحد، لتصبح الاستخبارات جهازاً مستقلالديه مئات المكاتب حول العالم.
جهاز الاستخبارات السعودية مر بأطوار من التمدد والانكماش خلال الخمسين سنة الماضية، إذ بدأجهازاً صغيراً في عهد الملك سعود، ثم تطور في عهد الملك فيصل الذي استفاد من الأزمات التيتعصف بالعالم العربي، وأصبح ذراعاً قوية تضخمت بسب إشراف كمال أدهم المتوفى عام 2000.
والشيخ الراحل هو الأخ غير الشقيق للملكة الراحلة عفت الثنيان، وخال الأمراء محمد وسعود وتركي، وكان مشرفا فعليا على عمليات هذا الجهاز، رغم أن رئيس الاستخبارات هو السيد عمر شمس، وهوآخر شخص من العموم، حتى القرن العشرين، يتولى المنصب قبل أن يذهب لواحد من أفراد الأسرةالمالكة، وقد كان الأمير تركي الفيصل. واستمر المنصب يتعاقب عليه الأمراء لأكثر من ثلاثة عقودحتى تم تعيين اللواء يوسف الأدريسي في عام2014 والأستاذ خالد الحميدان عام 2015.
كان لكمال أدهم، أسم، وصورة، وصوت، وفعل، ومبتدأ، وخبر، في عدد من الملفات السياسية فيالمنطقة لدرجة جعلت الرجل مهددا من معمر القذافي في آخر حياته، إذ كان القذافي يعتقد أنهنالك أسرارا لا يعرفها إلا أدهم، ما جعل الرجل الاستخباراتي العتيق لا يغلق أجهزة التلفزة في منزلهحتى تشوش على المتصنتين، الأصدقاء، والأعداء، على حد سواء.
يمكن القول ان المؤسس الحقيقي لجهاز الاستخبارات السعودية بشكلها الحديث كان السيد كمال أدهم، الذي درس في كلية فيكتوريا مع تاجر السلاح الشهير والأخير في تاريخ السعودية عدنانخاشقجي، الذي استفاد من هذه العلاقة لاحقاً تلميذاً ممتازاً، جمعته زمالة مع شخص ثالث، هوالملك حسين ملك الأردن.
كان كمال أدهم رجل استخبارات صاحب رؤية، وتطلع فريد، شبيهاً برئيس الاستخبارات الفرنسيةالكونت ألكسندر دي مارنش، والأمريكية آلن دالاس، رغم فارق التاريخ والجغرافيا.
في عهد الملك فيصل تمت تقوية الاستخبارات الخارجية بسبب دور السعودية آنذاك، وحاجتهاالشديدة إليه، في ظل الصراع مع مصر، الذي أتخذ أشكالاً عدة، كان من بينها العمل السري، ومن ثموجود كمال أدهم، وهو رجل ضليع بالعمل الاستخباراتي، وكان مشرفاً فعلياً رغم الرئاسة الصورية لعمر شمس.
بقيت هذه الصورة حتى عصر الملك خالد، ثم تمكن الملك فهد -الأمير فهد آنذاك -من تقليص دورأدهم وإلغائه، وتعيين ابن أخيه تركي رئيسا للاستخبارات، ليدخل هذا الجهاز مرحلة جديدة فيعهده، اهتمت فيه المملكة بالتطوير الإداري للجهاز، والحرص على التنسيق الدولي بعيد المدى.
وأدى ذلك إلى تقليص دور الاستخبارات، كون أن الملك فهد كان يميل إلى رأي مدرسة أخرى فيالنظام السعودي، تدعو إلى تقليل نسبة العمل السري، والارتكاز على دور الملك شخصياً فيالسياسة الخارجية، والتنسيق مع القوى الكبرى، خصوصا أميركا وبريطانيا، عن طريق بندر بن سلطان،سفير السعودية في واشنطن آنذاك.
وطوال حكم فهد كان بندر رمح الملك، ورسوله، ورجله، ويمينه، ومدفعيته الثقيلة.
على أن تطور هذا الجهاز تبعه تطور آخر من جانب جهاز المباحث العامة التابع لوزارة الداخلية،والذي شهد قفزات ملحوظة سواء حين كان يشرف عليه الملك فهد حين كان وزيراً للداخلية، أوحين تولاّه الأمير نايف بن عبد العزيز، ووفر له كافة الأدوات ليكون من أقوى الأجهزة الأمنية في المنطقة.
حقق جهاز الاستخبارات السعودي العديد من النجاحات الخارجية، معظمها عمليات لا يتم الكشفعنها بسبب الطبيعة السرية للجهاز كمثلاءه في العالم. ولعل إعادة هيكلته ستبث روحا متجددةتواكب عصر التكنلوجيا، وتنقل الأداء إلى مستويات مختلفة. وكما أن العالم يتغير من حولنا، فإن مكامن الخطر تتغير، ومواضع التهديد تتجدد.
لذلك نحتاج إلى إعادة التفكير في خريطة الأمن الوطني للمملكة، وتوضيح مهددات هذا الأمن للرأيالعام بشكل جلي، ليكون رافعة شعبية للتوجهات السعودية في مواجهة التحديات في المنطقة.
إنني أميل إلى مدرسة في العلوم السياسية ترى أن الأمن الوطني لأي دولة لا يتوقف عند حدودها، بليتجاوزه إلى الجوار، وما بعد الجوار في عدد من الحالات. إنها صدى لصرخة القيصر الروماني الذيقال عن البحر الأبيض المتوسط “إنه بحرنا”. وبعد مئات السنين كانت إيطاليا أول القافزين إلى ليبيا لاحتلالها، وفيما بعد لتخليصها من حكم معمر القذافي.
كانت روما التي خلعت عباءة قصير منذ مئات السنين لا تزال ترى أن البحر المتوسط بحرها وأمنها.
إن حدود الأمن الوطني لا تتغير بتغير الزمان. إنك ترى كيف أن السيول تعاود المضي، هادرة عائدةإلى طرقها القديمة، حتى لو غيرها العمران. وهكذا هو الامن الوطني، جزء أصيل من التاريخ يرتكزعلى الجغرافيا.
لهذا أتذكر مقول يرددها السياسي الفرنسي الشهير ديغول، وكأنها قطعة معدنية تسقط بعنف علىرخام منبسط: “انظر إلى الخريطة”. بالفعل، لكي تفهم السياسة العالمية، والتهديد المتوقع لبلادك،والإقليم من حولك، عليك أن تنظر إلى الخريطة فهي الخطوة الأولى في الفهم، والاستيعاب، ولحسابالمكاسب والخسائر.
كان اللنبي، العسكري البريطاني الشهير، يرى أن خط الدفاع عن مصر هو فلسطين، ومضائق سيناء،ومحمد علي باشا كان يرى ان الأمن القومي لمصر هو كل منابع ومجاري وسواحل نهر النيل، شريانأفريقيا المتجدد.
وكان روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، يرى أن التنمية الشاملة هي أهمل خطواتتعزيز الامن الوطني لأي دولة، ذلك أن السلاح جزء من الأمن، وليس الأمن كله، وأن الأسلحة مهماكان حجمها، وقوتها، فإنها لا تمنع الثورات الناجمة عن سوء الإدارة للدولة ومواردها.
تتعدد الأفكار المختصة في تحديد طبيعة تهديدات الأمن الوطني لكل دولة، لكن الدائرة الأولىالمتعارف عليها دائما، هي دول الجوار الجغرافي. لذلك طالبت في دراسة بحثية سابقة بضرورة أنتنشأ المملكة منصات حوار سياسية مع دول الجوار لتكون مضبط حوار زماني مستمر، وحاضنةتفاهمات سياسية بشكل مؤسسي، عبر منظمات مثل:
منتدى الدول المطلة على البحر الأحمر
ويجمع السعودية واليمن ومصر والأردن والسودان وجيبوتي واريتيريا.
اتحاد دول الجزيرة العربية
ويجمع بالإضافة إلى دول الخليج العربية كلاً من العراق والأردن واليمن.
قمة الدول المطلة على الخليج
ويجمع بالإضافة إلى دول الخليج كلاً من العراق وإيران.
لقاء دول جوار القرن الأفريقي
ويجمع السعودية واليمن وجيبوتي وأثيوبيا وارتيريا والصومال.
ونظراً لأننا دولة بساحلين كبيرين، وموقع استراتيجي تمر به أكثر من ثلاثين في المائة من حركةالتجارة العالمية، فلابد من تفعيل مراكز دراسات استراتيجية متخصصة في شؤون البحر وعلاقتهبالسياسة والاقتصاد. نعم إن البحر حالة جغرافية محددة، ولكنه قد يغدو حالة سياسية. انظر إلىأمريكا كيف أنها قررت إنها لا يمكن أن تكون سوى دولة بحرية في آسيا، كما كانت نصيحةالعسكري الكبير ماك آرثر، قائد قوات الحلفاء في آسيا، فللتواجد البري عواقب وتكاليف مروعة، لايمكن تحملها، وجاءت فيتنام لتكون مصداقا لنبوءة ذلك الشيخ العسكري الذي طواه العمر، ولميطوه النسيان
إنني أرى أن التحدي المقبل لأجهزة الاستخبارات في العالم هو تحد فكري أكثر من كونه عملي،ذلك أننا نعيش في عصر لم تعد فيه الكثير من الأسرار، وأثبتت حروب الأفكار أنها ذات تهديدمشابه للأسلحة، إن لم تكن تتفوق عليها.
المصدر: الرياض بوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر