سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مع اتساع نطاق التأثيرات المتصلة بالقضايا التي تتجدد مع تعقيدات الحياة اليومية، والتشابكات السياسية وتقاطعات أهدافها لمختلف القوى داخل المجتمع وخارجها، تتنوع الاهتمامات ويتسع نطاق الاجتهاد الفكري والبحثي، ويتعمق مدى التنظير والتأصيلات المفاهيمية في إطار تحليلي يهدف إلى فهم تقاطعات السياسة والاجتماع مع دوافع النفس الإنسانية فيما يشغل حيزًا واسعًا من اهتمامات علم النفس السياسي، وعلم الاجتماع السياسي، وهو ما يتصل بتفاعلات السلطة وعلاقاتها بالأفراد إيجابًا أو سلبًا.
في هذا السياق، يقدِّم “كريستيان تيليغا” كتاب (علم النفس السياسي: رؤية نقدية) في قالب نقدي، ومفاهيمي مع التركيز على أهم القضايا التي تزامنت مع العولمة، كالهوية والأقليات وجماعات الضغط، مع التطرق إلى تحليل الخطاب السياسي المتصل بهذه القضايا.
“كريستيان تيليغا”، محاضر أول في علم النفس الاجتماعي، وعضو جماعة الخطاب والبلاغة بجامعة “لوفبرة” البريطانية، حيث تشتمل اهتماماته البحثية على تحليل الخطاب السياسي، والذاكرة الجماعية، وعلم النفس النقدي للعنصرة والتمثيلات الاجتماعية للتاريخ تحليلاً موضوعيًا.
ينطلق المؤلف في الكتاب من رؤية نقدية لإمكانية استيعاب الأطر النظرية القائمة للقضايا الجديدة، والمستحدثة مع رياح العولمة وتداعياتها، التي لا تنفصل – بالضرورة – عن جوانب الممارسة الديمقراطية، والتي تتصل كفاءتها بالملاحظة السياسية التي تذهب إلى أن المواطن العادي يعجز عن تكوين وجهة نظر شاملة حول السياسة، وهناك من يذهب – وبحق – إلى أن المعلومات السياسية هي عملة المواطنة.
يطرح الكتاب تمثيلات انتقائية لحقل متنوع، ولم يتيسر – بالضرورة – سوى تغطية قطاع من الأدبيات ذات الصلة؛ ففي كل فصل من فصول هذا الكتاب، يسعى المؤلف لتقديم محاولة للبرهنة على أن السلوك السياسي يتعين النظر إليه باعتباره مسألة قائمة بذاتها، ما يجعله متضمنًا محاولات لاستكشاف فكرة مفادها أن السلوك السياسي تتعين معالجته باعتباره أكثر من أي شيء آخر. كما أن فصول الكتاب تناقش نطاق الأحكام الاجتماعية والالتزامات والمواقف السياسية والمسائل المتصلة بالحدود والمحاسبية، التي يضفي عليها الفاعلون الاجتماعيون أهمية بالحديث أو النصوص، فالدلالات والرسائل السياسية أكثر تقلبًا مما يُفترض عامة.
لا يستبعد المؤلف خلافاً ظاهرًا في علم النفس السياسي حول الفكرة القائلة، إن المعلومات السياسية تتوزع على نحو غير عادل، وإن التوزيع غير العادل يفضي إلى تفاوتات في المعلومات السياسية. وينبع هذا من فرضية أساسية أخرى، أن بعض الناس يعرف أقل القليل عن السياسة، فيما يعرف آخرون الكثير جدًا. كما أن المعلومات السياسية تتباين لدى الناخبين، صاعدة من نقطة تقارب الصفر إلى ارتفاعات شاهقة ويتحقق التعقيد السياسي بدرجة استيعاب المعلومات في سياقها، وهو الاستيعاب الذي يدرج بالتالي، في نظام عقدي ذي دلالة يمتلك صلات راسخة بين جميع مكوناته، وأغلبية أعضاء الكتلة الجماهيرية لا تظهر لديهم نظم عقدية ذات دلالة ولا يعملون بها. والتصورات الملموسة، أكثر من تلك المجردة، هي ما يلفت انتباه المواطنين العاديين، ولا بدَّ من التمييز بين المواطن المشارك حقًا، والأغلبية الساحقة التي لا تستطيع، إلا بشق الأنفس، الإبحار عبر المشهد السياسي، أو فك ألغاز المعلومات السياسية المركبة، وتوصف على أساس التنظيم المفهومي المرتبك والضيق المنخفض.
هنا يقف المؤلف أمام أبرز التحديثات التي طرأت على علم النفس السياسي المعاصر، والتي أدخلت عليها تغييرات طفيفة على الرؤى التي قدَّمها عالم النفس السياسي “كونفيرت” الأصلية مع إقرارها في الوقت ذاته. ومن الأمور المسلم بها – الآن – وجود تنوع هائل في الاهتمامات والانتباه السياسي والمعرفة السياسية لدى الكتل الجماهيرية؛ حيث يرى بعض المشتغلين بعلم النفس السياسي، أنه يتعين أن يكف المشتغلون بعلم النفس السياسي عن التساؤل عمَّا إذا كان المواطنون يرقون إلى مستوى التوقعات المثالية للمنظرين الديمقراطيين، وأن يبدؤوا بدلاً من ذلك في ملاحظة أن الناس أقدموا على نحو منتظم على خيارات سياسية، وأن يسألوا عن الكيفية التي تتقرر بها هذه الخيارات بالفعل.
دلالات الرأي العام
تشغل دراسات الرأي العام، حيزًا من اهتمام علم النفس السياسي، ذلك أن أغلب المشتغلين بهذا العلم يتمنون لو أن المواطنين كانت لديهم معلومة كاملة، ويظنون أن العملية السياسية قد يطرأ عليها تحسن بالغ، لو أن المواطنين قُدِّر لهم أن يقتربوا، على الأقل من هذا الهدف.
ومع تطور صناعة استطلاعات الرأي العام، أصبح الرأي العام مصدر الحجة ومبدأها في المجتمعات الغربية. ومن زاوية الرؤية الخاصة باستطلاعات الرأي العام، فإن هذا الرأي العام يُقبل ويعامل باعتباره حقيقة موضوعية يمكن اكتشافها عبر استطلاعات الرأي أو غيرها.
فالرأي بالنسبة إلى الجمهور الحديث، هو كالروح بالنسبة إلى الجسد، ودراسة أحدهما تفضي، على نحو طبيعي، إلى الآخر. وقد تعلق اهتمام المشتغلين بعلم النفس السياسي، فوق كل شيء، بـ”الأسس” أو المبادئ التنظيمية للآراء، لكي يتيسر فهم السبب في أن المواطنين يختارون مناصرة سياسة بعينها على سياسة أخرى.
نظرية التمثيلات الاجتماعية
يقترح الكاتب مناقشة علم النفس السياسي للاتسامح باقتراح مفهوم بديل عن التحيز باعتباره محصلة اجتماعية ودراسة لخطاب نزع الشرعية ونزع الإنسانية عن جماعات الأقليات العرقية؛ حيث يقدم الفصل الرابع من الكتاب دراسة التمثيلات الاجتماعية باعتبارها وحدات تكوينية لفهم الحياة المجتمعية وتصنيع الدلالات. كما يؤكد المؤلف على الحقيقة الاجتماعية والسياسية. وفي هذا السياق يدفع الفصل الخامس بأن المهمة الرئيسة لعلم النفس السياسي، هي تحليل الطبيعة الاجتماعية للهوية وممارسات الجماعات، فيذهب المؤلف إلى أن الهويات لا يجري تنشيطها فحسب، بل – بالأحرى – إنها تستدعى وتعدل بفعل السياق الاجتماعي الذي تكتسب فيه مغزاها. وينشئ الفصل طرحًا معاكسًا للفكرة الشائعة بأن الهويات المفردة بوسعها أن تنبئ، على نحو يعتدُّ به، بالسلوك والمواقف والقيم.
فالهوية – كما يرى المؤلف – لا تنشأ خارج السياقات الاجتماعية، فالعلاقات الثنائية بين الجماعات والثقافات والبيئات وما يتصل بها من قضايا تعريف الذات والجماعة، ليست في موقع علاقة جوهرية مع المنتمين إلى الجماعة، كنقيض للتميز الموجه إلى المنتمين، لتعريف الذات والتماهي الاجتماعي المقررين بالفعل. فأحد المنطلقات الأساسية لتراث الهوية الاجتماعية، هو وجود قدر من التنوع من الهويات الاجتماعية الممكنة؛ فعلى حين يتصرف الإنسان على أساس أي من الهويات الاجتماعية المكرسة، يكون التصرف على أساس المعتقدات والمعايير والقيم المرتبطة بتلك الهوية. والمهم – كما يرى المؤلف – أن يتفهم المرء كيف تقوم البنى الاجتماعية للفئات الاجتماعية العضوية، وكيف أن العالم الذي غالبًا ما يعدُّ حقيقة مسلمًا بها من التصنيف الاجتماعي والإثني، هو عالم متعدد، أكثر مما هو مفرد، وأنها يتواصل إنتاجه، والتفاوض حوله، والتنازع عليه عبر أفعال متعددة من التصنيف الاجتماعي، وعندما يفعل المرء ذلك يتعين أن يكون قادرًا على أن يوصِّف، ليس فقط الكيفية التي بها تدخل الهويات الاجتماعية نسيج العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات وتخرج منها، ولكن – أيضًا – الكيفية التي يكون على أساسها وضع الفاعلين الاجتماعيين، وما هي الأفعال والتبعات الاجتماعية التي تترتب على ذلك. ولا تزال الدراسات التي تشتغل على الطرائق التي تعرف بها الأقليات الإثنية هويتها وتفسرها، خاصة أعضاء الجماعة الخاصة بها، نادرة نسبيًا.
وبقراءة فاحصة لهذا الكتاب، نجد أنه يوفر مدخلاً إلى علم النفس السياسي بالتركيز على سياسات وقضايا إقليمية معينة، يقف في مقدمتها القضايا الأوروبية، فالكتاب يوصِّف أسلوب علم النفس السياسي في أوروبا، ذلك الأسلوب الذي تخلق عبر الحوار مع المقاربات الأميركية الشمالية ونقدها. وبالتأكيد على التنوع النظري والمنهجي لعلم النفس السياسي، يسعى للمساهمة في تحقيق فهم أفضل لقوة هذا الحقل وجدواه من خلال ما يلي:
ومن ثَمَّ، فإن الكتاب من خلال عرضه المنهجي يخاطب الباحثين في علم النفس السياسي والساعين إلى توسيع معرفتهم بالعلاقات المركبة بين علم النفس والسياسة والمجتمع.
ويخلص المؤلف في خاتمة الكتاب، إلى أن علم النفس السياسي لن يتسنى له المضي قُدمًا على نحو مجزٍ، إلا إذا كفَّ عن تجاهل ماضيه وميراثه الثري من مختلف أنحاء العالم.
ولا تقتصر أهمية الكتاب على إضافاته الأكاديمية للباحثين والمتخصصين في علم النفس السياسي، بقدر ما تتسع أهميته إلى ما توفره من خلفية معرفية للجمهور من فهم تقاطعات السلطة مع المجتمع، وظهور أثر ذلك على النفس الإنسانية؛ وهو ما يجعل من قراءة هذا الكتاب مصدرًا للثراء المعرفي في زمن تسارعت وتيرة الأحداث فيما يفرض على الجميع وجود إطار عام لفهم الفلسفة الحاكمة لحركة تلك الأحداث ومآلاتها.
معلومات الكتاب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر