تركيا بين طموحات أردوغان ومخاوف المستقبل | مركز سمت للدراسات

تركيا بين طموحات أردوغان ومخاوف المستقبل

التاريخ والوقت : الأحد, 22 يوليو 2018

 

تشهد تركيا سلسلة من التطورات التي تتصل بحالة الاستقرار العامة في المجتمع التركي؛ إذ لا تقتصر تداعيات تلك التطورات على الجوانب السياسية والاقتصادية بقدر ما تمس الأوضاع الاجتماعية بشكل عام. فما إن شهدت الجمهورية التركية محاولة انقلابية فاشلة في 15 يوليو 2016، حتى أطلق الرئيس رجب طيب لنفسه العنان في التنكيل بخصومه من كافة الاتجاهات.

لا تنفصل الأوضاع الراهنة في أنقرة عن المسار التاريخي الحديث للجمهورية التركية التي مرت منذ تأسيسها في 1923 بتقلبات سياسية متعددة، أبرزها وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، ابتداء من عدنان مندريس في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وانتهاء بنجم الدين أربكان في ثمانينيات القرن نفسه.

في هذا السياق التاريخي، ظلت المؤسسة العسكرية تقوم بدور المهيمن والضامن للحفاظ على علمانية الدولة، وهو ما دفعها لتنفيذ عدد من الانقلابات العسكرية. لكن عام 2002 شهد تغييرًا جذريًا بوصول حزب العدالة والتنمية – المنبثق عن حزب الفضيلة التركي صاحب التوجه الإسلامي – إلى سدة الحكم، متخذًا من العلمانية والقومية رداء له، فكان أشبه بتكتل سياسي يجمع تحت مظلته مختلف التوجهات السياسية، فهناك العلمانيون والقوميون، وأيضًا أفراد ينتمون إلى القومية الكردية يمارسون السياسة تحت شعاره.

وضع حزب العدالة والتنمية، السيطرة على الحكم نصب عينيه، فأقر إجراءات اقتصادية ساهمت في تحقيق نقلة نوعية لتركيا (تعتبر تركيا الآن من أقوى 20 اقتصادًا على مستوى العالم، ومن المتوقع أن تكون ضمن العشرة الأوائل بحلول عام 2023)؛ ما ساهم في بقائه في الحكم حتى الآن. بالتزامن مع الإصلاحات الاقتصادية، كان هناك – أيضًا – أخرى سياسية هدفت إلى عزل وتحييد الجيش عن النشاط السياسي العام، إضافة إلى أخرىهدفت بالأساس إلى إحكام سيطرة الحزب على المؤسسات الحكومية من خلال زرع أفراده في مختلف الأجهزة الحكومية، فتحولت الأخيرة لما يشبه خلايا تنظيمية حزبية.

رغم كل ذلك، كان بمقدور المعارضة التركية، تمثيل خطر على حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة ومقارعتها في الشارع السياسي، حتى جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 لتمنح النظام التركي المبررات الكافية لشن حملة اعتقالات غير مسبوقة طالت موظفين حكوميين وعسكريين على كافة المستويات. كما دعمت هذه المحاولة رغبة العدالة والتنمية في تحويل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي- تمَّ إجراء تعديلات دستورية وافق عليها الشعب بنسبة 51.5 من المئة – اعتقادًا منه أن أمرًا كهذا سوف يساهم في تثبيت أركان حكمه من خلال آلية اتخاذ القرارات السريعة التي يوفرها النظام الرئاسي بالمقارنة بالبرلماني.

بطبيعة الحال، اتخذ الواقع السياسي التركي بعد التعديلات الدستورية، مسارًا مناقضًا تمامًا لما كان عليه الوضع قبل إقرار هذه التعديلات، واختلفت خريطة الأحزاب السياسية عن نظيرتها قبل إقرار التعديلات؛ ما ساهم في تكوين تحالفات حزبية جديدة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي عقدتا في يونيو من العام الحالي، حيث تحالف حزب الحركة القومية مع العدالة والتنمية تحت اسم” تحالف الشعب”، وقد فاز هذا التحالف في الانتخابات البرلمانية والرئاسية بنسبة %53.66و%52.59 على التوالي.

يتعين أن نشير هنا إلى أن الإشكالية الحقيقية التي مثلتها التعديلات الدستورية، والتي أرقت المعارضة، تمثلت في تركيز السلطات في يدي رئيس الجمهورية؛ ما جعلهم يدركون أن حزب العدالة والتنمية سوف يحاول إقصاءهم بشكل مطلق في المستقبل، خاصة بعد أن بدأ الخطاب الديني يأخذ حيزًا كبيرًا من خطاب الحزب السياسي.

 

سيطرة الحزب الواحد

من أهم نتائج التعديلات الدستورية الأخيرة، أنها ساهمت في ترسيخ سيطرة حزب العدالة والتنمية، خاصة بعد أن تمكن من تحقيق فوزين انتخابيين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ ما يعني أن الرئيس التركي – الذي أتاحت له التعديلات الدستورية، العودة إلى حزبه مرة أخرى، وفقًا للمادة 18 من التعديلات – أصبح بيده صلاحيات واسعة، لعل أهمها مشاركته للبرلمان بأربعة أفراد في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين، وهو المجلس الذي يملك صلاحية تعيين وعزل القضاة في جميع أنحاء الجمهورية، ما يمثل تداخلاً بين السلطة التنفيذية والقضائية، ويفتح الباب أمام السلطة التنفيذية لاستغلال السلطة القضائية في تحقيق مآرب سياسية خاصة، أو الانتقام من الخصوم السياسيين.

ولعل أكثر الأمور التي دفعت العدالة والتنمية للتدخل في شؤون القضاء، هو عجزه عن محاكمة القضاة المنتمين أو الذين يُشك بانتمائهم لحركة “الخدمة”، وهو ما يؤكد أن العدالة والتنمية يخوض سجالاً من أجل إقصاء كافة الخصوم، بل والانتقام من كل المشتبه فيهم.

كما منحت التعديلات، رئيس الجمهورية، حق إعلان حالة الطوارئ، على أن يُعرض الأمر بعد ذلك على البرلمان. وفي الإطار ذاته، تتطلب محاسبة رئيس الجمهورية، موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء البرلمان، وهو أمر لا يمكن لأحزاب المعارضة – مجتمعة – تحقيقه في الوقت الحالي، خاصة في ظل تمتع حزب العدالة والتنمية بشعبية في الأوساط التركية.

صحيح أن العدالة والتنمية في حالة خسارته للانتخابات، فإنه بذلك سوف يضع صلاحيات طائلة في أيدي منافسيه، إلا أن شعبيته في الأوساط التركية كانت عاملاً حاسمًا في تمرير الحزب لحزمة التعديلات الدستورية الأخيرة، يقينًا منه بقدرته على هزيمة المعارضة في وقت. وقد لعب تاريخ الحزب في الانتخابات البرلمانية، دورًا في الدفع نحو تمرير التعديلات، حيث لم يخسر العدالة والتنمية أية انتخابات على الإطلاق منذ عام 2002.

 

توازنات جديدة

اختلفت الخريطة الحزبية الآن عمَّا كانت عليه قبل انتخابات 2015، ليس فقط بسبب تحالف حزب العدالة والتنمية مع الحركة القومية المعادي لكل من حركة الخدمة والأكراد، ولكن – أيضًا – لأن حزب العدالة والتنمية يبذل قصارى جهده من أجل تغيير التركيبة السكانية في مناطق جنوب شرقي تركيا، التي تتسم بالأغلبية الكردية، وذلك من خلال تجنيس الآلاف من اللاجئين السوريين وتوطينهم في هذه المناطق بهدف ضرب الكتلة التصويتية للأكراد؛ ما سوف يؤدي مستقبلاً إلى زوال الطابع الكردي المسيطر على هذه المنطقة. ورغم أن أمرًا كهذا سوف يستغرق سنوات طويلة، فإن عملية الإحلال دون تجنيس تتم بوتيرة سريعة في الوقت الحالي.

وتشير التقارير الصادرة عن المديرية العامة لشؤون المواطنة والهجرة، إلى أن أعداد السوريين المجنسين في تركيا بلغ قرابة 55 ألفًا منذ عام 2011. ومع أن هذا العدد، ربَّما يكون أقل من المتوقع، إلا أن خطط الحزب في هذا الشأن واضحة جدًا. وقد اتضح ذلك من خلال تصريح الرئيس أردوغان في يناير 2017، أن بلاده سوف تمنح الجنسية للسوريين والعراقيين، لكن تخوفه من ردود الفعل الشعبية حال دون كشفه عن الأعداد المستهدف تجنيسها.

وفي حالة ما استمر تجنيس السوريين في مناطق جنوب شرقي تركيا، فإن الكتلة التصويتية الخاصة بحزب الشعوب الديمقراطي سوف تتقلص، ومن ثَمَّ لن يتمكن من تحقيق نسبة الـ10% اللازمة لدخوله البرلمان، وهو ما يصب في صالح كلٍّ من العدالة والتنمية والحركة القومية.

تراجع الحريات

لا شك في أن تركيز المزيد من الصلاحيات في يدي رئيس الجمهورية، وإحكام سيطرة السلطة التنفيذية على المؤسسة القضائية، سوف يساهم في تعميق تردي أوضاع الحريات في تركيا. وفي هذا الشأن، تصنف منظمة “فريدم هاوس Freedom House” الجمهورية التركية على أنها دولة “ليست حرة”، وفقًا لمؤشر المؤسسة الخاص بتركيا لعام 2018، حيث حازت الحريات المدنية 6 من 7، كما حازت كل من الحقوق السياسية ومستوى الحرية، 5 من 7، و5.5 من 7 على التوالي. مع العلم أن الرقم 7 يمثل “الأقل حرية”، وفقًا لتصنيفات المؤسسة. وفي السياق ذاته، حازت تركيا رقمًا إجماليًا يقدر بنحو 32 من 100، ما يضعها في خانة الدول التي ليست حرة، مع العلم أن رقم 100يشيرإلى الأكثر حرية.

ويأتي التصنيف المتراجع لتركيا في مجال الحريات، نتيجة اعتقال الصحفيين وإغلاقعدد من القنوات التلفزيونية، حيث أشار تقرير صحافي نشره موقع جريدة الشرق الأوسط في يوليو 2016، إلى أن تركيا أغلقت 16 قناة تلفزيونية، و3 وكالات أنباء، و23 إذاعة، و45 صحيفة، وذلك بعد فرض حالة الطوارئ التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة.

 

سياسة خارجية أكثر اندماجية

منحت التعديلات الدستورية المزيد من الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية، ما يعني أن سياسة تركيا الخارجية سوف تكون أكثر اندماجية مقارنة بما مضى، خاصة بعد أن أصبح لدى العدالة والتنمية اليد العليا في البرلمان، إضافة إلى سيطرته على منصب رئيس الجمهورية. ومن المتوقع أن تعمل تركيا على توسيع نشاطها العسكري بالخارج، وتكثيف وجودها العسكري في بعض المناطق، لا سيَّما الشمال السوري الذي يمثل إشكالية حقيقية للأمن القومي التركي بسبب الوجود الكردي فيه. وترغب تركيا في دفع الأكراد بعيدًا عن حدودها الجنوبية، إضافة إلى محاولتها عزل الأكراد عن مسار التسوية السياسية المحتملة في سوريا بدعوى كونها إرهابية.

على صعيد متصل، تسعى تركيا لاستغلال تقاربها الأيديولوجي مع النظام السوداني في ترسيخ وجودها على البحر الأحمر عبر جزيرة سواكن. ورغم أن تركيا قد أعلنت أنها لن تقوم بإنشاء قاعدة عسكرية داخل الجزيرة، وأن أعمالها تقتصر على إعادة تأهيل الجزيرة، فإن تتبع السلوك الخارجي التركي، يدفعنا نحو الاعتقاد برغبة تركيا في إنشاء قادة عسكرية مستقبلاً داخل الجزيرة؛ لتضمن لنفسها بذلك وجودًا على خطوط الملاحة في البحر الأحمر، بالتزامن مع وجودها العسكري في الصومال، الذي جاء من بوابة تدعيم الحكومة الصومالية ضد الإرهاب.

وفي السياق ذاته، لن تتوقف تركيا عن دعم حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، خاصة في تونس وسوريا، وهما البلدان اللذان تتمع فيهما حركات الإسلام السياسي بالمزيد من الحرية على عكس باقي بلدان المنطقة؛ ما يتيح للتنظيمات الإسلامية تلقي تمويلات من الخارج بسهولة. وتشير تسلسل الأحداث إلى عدم حدوث تقارب بين مصر وتركيا على المستوى السياسي، بدليل تأزم العلاقات بين الطرفين في شرق المتوسط، حيث حاولت مصر تكوين تكتل إقليمي مع اليونان وقبرصضد تركيا، التي تعارض هيمنة قبرصعلى الموارد المائية لجمهورية قبرص التركية.

مسارات مستقبلية محتملة

يتراوح مستقبل النظام التركي بين أربعة سيناريوهات يمكن الإشارة إليها فيما يلي:

1- البقاء وإحكام السيطرة: ويتضمن هذا المحور بقاء الوضع كما هو عليه من تحالف بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، ما سوف يضمن لهما السيادة الانتخابية في كافة الاستحقاقات المقبلة بما فيها الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في 2019. إضافة إلى ذلك، سوف يتمكن الطرفان من إقصاء كافة خصومهم السياسيين من جميع المؤسسات الحكومية، فضلاً عن سيطرتهم على المؤسسة العسكرية.

2-الإطاحة بانقلاب عسكري:احتمالية حدوث هذا الأمر غير واردة في الوقت الحالي، خاصة بعدما أصدر الرئيس قرارًا بضم هيئة الأركان إلى وزارة الدفاع، إضافة إلى إعادة هيكلته لمجلس الشورى العسكري – وهو المجلس الذي يختص بترقية وعزل قيادات الجيش – ليصبح أغلبية أعضائه من المدنيين. كما أصدر الرئيس قرارًا في 8 يوليو 2018 بفصل ما يزيد عن 18 ألف يعملون بالقطاعات الحكومية المدنية، فضلاً عن مؤسسات الشرطة وقطاع الأمن والقضاء، ما يشيرإلى تهشم موازين القوى المعارضة للعدالة والتنمية داخل مؤسسات الدولة.

3- حدوث شقاق بين الحركة القومية والعدالة والتنمية: ويعدُّ هذا الأمر غير قريب من التحقق في الوقت الحالي، ولا توجد دلالات على احتمالية تحققه مستقبلاً بسبب توافق الحزبين على الخطوط العريضة للسياسة التركية، داخليًا وخارجيًا. على سبيل المثال: يتبنى الحزبان الموقف نفسه من حركة الخدمة والأكراد، كما يعتقد الحزبان بوجود مؤامرة دولية لإعاقة تقدّم تركيا.

4- هزيمة العدالة والتنمية انتخابيًا: من الوارد أن يتحقق أمر كهذا في حالة ما استمرت الأزمات الاقتصادية في اللحاق بالاقتصاد التركي، وإذا فشل النظام التركي في إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي بما يمنح الشركات المحلية اليد العليا في الاقتصاد على حساب الشركات الأجنبية التي يساهم مجرد إعلانها النية بالخروج من الاقتصاد المحلي في تراجع قيمة العملة التركية، فضلاً عن تراجع قيمة التصنيف الائتماني لتركيا.

 

وحدة الدراسات التركية*

المراجع

– أردوغان: تركيا سوف تمنح الجنسية للسوريين والعراقيين. روسيا اليوم،

Freedon House, freedom in the world 2018, Turkey profile.

جريدة الشرق الأوسط.

– Erdugans New Sultanate, the Economist, Special Report, February 2016.

– History & Culture of Turkey: From Anatolian Civilization to Modern Republic A guide created by Chatham students for Chatham students for our 2010-2011 Global Focus, Casham University, 2009.

– Civil-Military Relations and Authoritarianism in Turkey (2007-2017), MA Thesis International Studies, Avaliable on. https://openaccess

– Leman Basak Ari, Civil-Military Relations in Turkey, An Applied Research Project , Master Thesis, Texas State University , 2007.

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر