مصر ومشكلة مياه النيل: أزمة سد النهضة | مركز سمت للدراسات

مصر ومشكلة مياه النيل: أزمة سد النهضة

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 17 يوليو 2018

 

يرتبط النيل عند المصريين بشريان الحياة، ويحتل مكانة محورية في الفكر المصري، قديمًا وحديثًا؛ حتى إن عبارة “مصر هبة النيل” التي أطلقها المؤرخ اليوناني “هيرودوت”، صارت عند المصريين شعارًا يعكس اعتزازهم بالنهر الذي احتفوا به قديمًا منذ العصور الفرعونية.

مع تزايد عدد سكان مصر الذي اقترب من 100 مليون نسمة خلال السنوات الأخيرة، في ظل محدودية واضحة للموارد، طفت مشكلة الندرة المائية على السطح، في وقت تسعى فيه الدولة المصرية لتبني برامج للتنمية قادرة على مواكبة التحديات التي خلقتها الزيادة السكانية والتطلعات المستقبلية في إطار عملية بناء الدولة المصرية الجارية حاليًا وسط تحديات مصيرية داخلية وخارجية.

على الجانب الآخر، تسعى دول منابع النيل إلى تبني استراتيجية تنموية مشابهة؛ لتلبية احتياجات شعوبها المتزايدة عددًا، وبخاصة إثيوبيا وبقية دول منابع النيل. فلجأت إثيوبيا إلى تدشين السدود بغرض توليد الطاقة لتلبية احتياجات مخططات التنمية التي تسعى إليها، ليدخل الطرفان مصر كدولة مصب، وإثيوبيا كدولة منبع، في تضارب في الأهداف والمصالح لتسيطر المشكلة المائية على العلاقات بين البلدين، بل على البيئة الإقليمية في منطقة حوض النيل بكافة دولها الإحدى عشرة.

في هذا السياق، يأتي كتاب (مصر ومشكلة مياه النيل: أزمة سد النهضة)، للباحث المصري والخبير في “سياسات المياه “Hydro politicsزكي البحيري، والذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في صورة تحليلية وتوثيقية للمسار العام لقضية سد النهضة وأبعادها السياسية والقانونية والمائية ومساراتها المستقبلية.

يستهل المؤلف الكتاب باستعراض للواقع الجغرافي لبيئة نهر النيل، وتأثير ذلك الواقع على الحالة المائية لدول الحول، التي تراوحت بين وفرة مائية لدى بعض الدول، وخاصة في منطقة المنابع، ودول تعاني ندرة مائية، لا سيَّما عند المصب في مصر، مع التطرق إلى البعد القانوني لتلك الإشكالية.

مع مساعي إثيوبيا لتدشين سد ضخم لتوليد الطاقة، انتفضت الدولة المصرية أمام ذلك التوجه باعتباره يحدث خللاً في حصة مصر المائية التي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب حددتها الاتفاقيات الدولية المتعددة بداية من اتفاقية 1929، إلا أن تضاربًا في المواقف ينشأ على خلفية تنامي الطموحات الإثيوبية، ومن خلفها دول المنابع، بشكل يتعارض مع المصالح المصرية.

 يعرض الكتاب هذه المواقف المتعارضة بين الجانبين المصري والإثيوبي، ففي حين تتمسك “أديس أبابا” بضرورة مراعاة التطور السكاني وما تعاني من أزمة داخلية تفرض عليها تبني مشروعات تنموية، وتعلن عدم التزامها بالاتفاقيات الدولية التي تزعم أنها أبرمت في أثناء الحقبة الاستعمارية، نجد مصر على الجانب الآخر تتمسك بموقف يقوم على عدد من الحجج التي تتمثل أهمها في مبدأ عدم الإضرار بمصالح دول المصب؛ بما يعني ألا تقوم أي دولة من المنابع بمشروعات من شأنها الإضرار بالحصة المائية لمصر، فضلاً عن تمسك القاهرة بتوارث الاتفاقيات تاريخيًا؛ ما يعني أن تتمسك الدول المستقلة عن الاستعمار بالاتفاقيات التي أبرمت قبل استقلالها بما فيها الاتفاقيات المنشئة لحدودها، وألا تكون ثمة أية مشروعات في المنابع بدون موافقة دول المصب بما يمنح مصر حق النقض (الفيتو) على أية مشروعات مثل سد النهضة وغيره.

أمام ذلك التعارض في المواقف، شهدت العلاقات المصرية الإثيوبية، انحدارًا ملحوظًا خلال السنوات السبع الأخيرة؛ ولا سيَّما مع تعرض الدولة المصرية لهزة شديدة في أعقاب أحداث 25 يناير 2011 التي أطاحت برأس النظام الحاكم ودخول البلاد في دوامة من الاضطراب السياسي والأمني، ويسعى النظام الحالي بقيادة الرئيس عبدالفتاح السياسي، لرأب الصدع الذي مسَّ الأمن المائي المصري بشكل عام، من خلال التحرك في مسارات داخلية وخارجية متوازية.

ويشير الكتاب إلى دور التغلغل الإسرائيلي في الشؤون الإقليمية بمنطقة النيل، ما يعني زيادة العوامل المُعِيقة لانسياب العلاقات بين دول المنابع ودول المصب؛ حيث يأتي ذلك الدور الإسرائيلي في منطقة حوض النيل كجزء من استراتيجية “تل أبيب” لاختراق القارة الإفريقية بشكل عام، والتأثير في الأمن القومي العربي من بوابته الجنوبية حيث الصومال، والسودان، ومصر. كما يعرض الكتاب تطور الجهود المصرية تاريخيًا في إطار مشكلة مياه النيل مع تقييم ما توصلت إليه تلك الجهود.

لن يسلم الصراع المائي بين دول المنابع والمصب (إثيوبيا ومصر) من الأطراف الخارجية، فإلى جانب الدور الإسرائيلي، وهو العدو التقليدي للأمن القومي العربي عامة، والمصري خاصة، شهدت تلك الساحة تدخل دول إقليمية حاولت استغلال المناخ المضطرب بين القاهرة و”أديس أبابا” لتصفية حسابات مع فاعلين إقليميين رئيسيين في المنطقة؛ وهو ما تجلى خلال السنوات الأخيرة من زيارات متكررة من قادة تركيا وقطر وإيران لدول أعالي النيل، ومحاولة تعزيز العلاقات وتقديم الدعم الذي يضمن ولاء هذه الدول لمواجهة الخلافات التي تشهدها علاقات قطر وتركيا وإيران من ناحية، ودول كبرى في المنطقة كالسعودية ومصر والإمارات من جهة أخرى.

يخلص الكتاب إلى أن الخلل في توازن القوى الذي شهدته منطقة حوض النيل في أعقاب ما عرف بـ”الربيع العربي” وانتشار موجات الحراك الجماهيري والإطاحة برؤوس عدد من الأنظمة في بعض دول المنطقة، مثل: مصر وتونس واليمن وليبيا؛ أثر في قوة هذه الدول، ليأتي الإعلان عن سد النهضة بعد أيام من تنحي الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، في 11 فبراير 2011، فضلاً عن اتخاذ “أديس أبابا” العديد من الخطوات التي عكست موقفًا لا يعبأ بمصالح الأمن القومي المصري خلال تلك الفترة، وذلك على خلفية إدراك إثيوبيا مدى الضعف التي كانت تمر به مصر في تلك الأثناء.

في خضم ذلك، مثَّلت فترة حكم جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر عاملاً أسهم في ضعف الدولة المصرية، لتنتهز “أديس أبابا” الفرصة وتعلن عن المزيد في خطواتها نحو تأسيس سد النهضة على خلاف الإرادة المصرية.

لقد أثار الخطاب المتشدد لجماعة الإخوان في أثناء وجودهم في السلطة، مخاوف الإثيوبيين، ولا سيَّما مع الاجتماع الشهير الذي ضمَّ النخبة المؤيدة للرئيس المصري السابق محمد مرسي، لتدارس المواقف المعنية بأزمة سد النهضة، فتنوعت الآراء بين مهاجمة إثيوبيا عسكريًا، والتدخل في شؤونها الداخلية، وغير ذلك من التفكير التآمري باجتماع تمت إذاعته على الهواء في واحد من الاجتماعات الهزلية التي كانت تنم – بالضرورة – عن تدني مستوى المهارات السياسية لجماعة تحكم واحدة من أكبر دول المنطقة؛ وهو ما أثار مخاوف الإثيوبيين وكرس النزعة الصراعية على العلاقات المصرية الإثيوبية خلال تلك الفترة، فكثفت إثيوبيا جهودها لحشد دول المنابع للتوقيع على اتفاقية “عنتيبي” التي هدفت إلى إعادة النظر في نظام توزيع مياه النيل.

ومع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي، اتخذت الأزمة منحى آخر، حيث حرص السيسي على تبني منهج الحوار مع إثيوبيا، إضافة إلى محاولات تقوية الموقف الداخلي وتعدد البدائل في حال تأثر حصة مصر المائية من خلال تنويع مشاريع الطاقة ومصادرها، وتوسيع مساحة الحركة المصرية في القارة الإفريقية من خلال الزيارات الرسمية والشعبية والتمثيل عالي المستوى لمصر في المحافل الإفريقية.

أخيرًا، يصل الكتاب إلى أن الأزمة لا ترتبط بالأمن المائي لمصر نفسها بقدر ما يتسع بالأمن القومي العربي بشكل عام، وذلك بالنظر إلى مكانة مصر المحورية في منظومة الأمن القومي العربي. ففي الوقت الذي باتت المخاطر تحيق  بالعالم العربي من كل حدب وصوب، بات التضامن العربي لمواجهة مثل تلك المشاكل مخرجًا ضروريًا.

ففي مواجهة الخطر الإيراني الذي يهدد أمن الأمة العربية، وفي مواجهة إسرائيل العدو التقليدي لأمن العرب، وكذلك مواجهة إثيوبيا في الجنوب، بات التضامن والتكاتف السبيل الأمثل لحماية الأمن القومي العربي، كما هو الحال في مواجهة الانتهاكات التركية في الشمال ما بين العبث بالأمن السوري والعراقي، ولا سيَّما على مستوى الأمن المائي للعراق.

يتسم هذا الكتاب بالتنوع في الأبعاد والجوانب المُكوِّنة لمشكلة مياه النيل، وهو ما يعزز أهميته أيضًا، فما بين الجغرافيا، والاقتصاد، والسياسة، والجوانب القانونية، نُسِجَت خيوط تلك الأزمة، وهو ما يفرض ضرورة مراعاة كافة تلك الجوانب عند محاولة حلها.

معلومات الكتاب

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر