سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عقب أعوام قاتمة من وجود تنظيم “داعش” الذي يطلق على نفسه “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ومعاناة عاشتها دول العالم، وبخاصة سوريا والعراق، جراء جرائم هذا التنظيم، لا بدَّ من الاعتراف بحقيقة الشرخ الاجتماعي والثقافي والفكري الذي أحدثته تلك المرحلة. بيْدَ أنه يثار الآن الحديث حول مرحلة (ما بعد داعش)، وهو ما يشير إلى فقدان التنظيم جزءًا كبيرًا من قوته وتقهقره الواضح في الآونة الأخيرة، خصوصًا بعد إعلان العراق انتهاء “داعش” للأبد، بعد هزيمته على أراضيها، وهو ما نستدل عليه من حديث الفريق مزهر العزاوي، قائد عمليات ديالى، الذي قال إن: “تنظيم داعش انتهى في معارك التحرير، وما تبقى من عناصره يتحصنون بأماكن حدودية نائية وجبال وكهوف”. وحديث جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي “أنه بعد استعادة السيطرة على الموصل في العراق والرقة، أبرز معاقل التنظيم في سوريا، حان الوقت للتفكير في مرحلة ما بعد التنظيم الجهادي”.(1)كل هذا يدفعنا لأن نطرح سؤالاً هامًا: هل انتهى – بالفعل- “داعش” الذي انطلق بالقدرة والقوة الساحقة وعبّر عن نفسه باحتلال الموصل عام 2014 بشكل مثير؟
متطلبات وتحديات
استطاع “داعش” الظهور كتنظيم له قوته من خلال احتلال الموصل في عام 2014، مستغلاً في ذلك ما يمكننا وصفه بـ”تقاطع مصالح إقليمية مع مطامح محلية”، واستخدم قلّة من أصحاب الفكر المتطرف لخدمة تلك المصالح، فتعانقت الفكرة مع مطامح للفئات المحلية التي كانت تترقب أي فرصة للوثوب على الحكم الاستبدادي في سوريا، أو الحكم المغلف بالطائفية وتقاسم النفوذ والامتيازات في العراق، ومع مطامع الفئات المحلية (المطرودين من حزب البعث في العراق، وجلّ الشعب السوري في سوريا) للانعتاق من أسر الاستبداد والطائفية، اتجه كثير منها للتحالف مع فلول “القاعدة” وجماعة الزرقاوي في العراق، فكان “داعش”.
ولأننا نحارب فكرًا وأيديولوجية لها منهجيتها،علينا أن نجتث الظروف التي أنجبت بيئة حاضنة لهذا الفكر بالتزامن مع كسب ود العشائر دون الاعتماد عليها بشكل كلي؛ فالفكر العشائري الطائفي لا بدَّ أن يزول ويحل محله قيم تبنى على احترام الآخر وعقائده.
ويبدو أننا نحتاج لاجتثاث المفاهيم الخاطئة التي تمت زراعتها في عقول من انضموا إلى ذلك التنظيم، أو ممن كانوا مؤيدين لأفكاره. ولا مناص – أيضًا – من إعداد برامج وخطط لتشغيل العاطلين، وانتشال الفقراء من واقعهم المأساوي، إضافة إلى تأسيس نوادٍ رياضية واجتماعية لاستيعاب الشباب، بدلاً من تركهم عرضة للاستغلال الفكري وتوفير بيئة خصبة تنشط فيها سموم تلك الجماعات مرة أخرى، وفتح طرق وقنوات عدة لاستيعاب الشباب وتأهيلهم من جديد وإعادة دمجهم في المجتمع.(2)
ولا شك أن المؤسسات الدينية الرسمية في الدول العربية عمومًا، وفي العراق ودول الشام خاصة، يجب أن تضطلع بدورها في تنظيم الخطب الدينية في المساجد والحلقات النقاشية – أيضًا – لخلق خطاب مهادن ومتزن.
ومن الجلي أن ذلك سيتطلب جهدًا كبيرًا وموارد أكبر من الدولة العراقية والسورية لتنفيذه، وربَّما سيتساءل البعض عن قدرة الدولتين بالقيام بهذا الدور الكبير وذلك للعقبات الموجودة على أرض الواقع، من الناحية المادية واللوجستية، وخصوصًا أن العراق تمر بظروف اقتصادية صعبة؛ إلا أننا يمكننا الرد بأن ذلك سوف يكون بالتعاون مع الدول الصديقة الإقليمية والعربية وبقية الدول، وإقناع الأمم المتحدة بتبني المشروع، وعرض فكرة إعادة التأهيل بطريقة مدروسة. كما يجب العمل – أيضًا – على تنفيذ إصلاح دستوري وهيكلي ومؤسسي.(3)
مراحل متعددة
التخلص من آثار الجماعات الإرهابية، لن يتم بين عشية وضحاها؛ لذا فإنه لا يخفى علينا أن عملية التحرير والتخلص من ذلك التنظيم ستستغرق وقتًا ليس بالقليل.
فضلاً عن عدة مراحل: أولها الهزيمة العسكرية، ثم تتبعها مراحل لاحقة، وهي التأهيل وإعادة الحياة وصناعتها من جديد، وإنشاء مراكز استباقية للمرحلة القادمة لمنع ظهور جماعات مماثلة.
1- الهزيمة العسكرية
يبدو أننا الآن اقتربنا من تحقيق تلك المرحلة، إذ أعلنت العراق أنها قضت على “داعش”، وهو ما أكده الفريق مزهر العزاوي، قائد عمليات ديالى، الذي قال إن: “تنظيم داعش انتهى في معارك التحرير، وما تبقى من عناصره يتحصنون بأماكن حدودية نائية وجبال وكهوف”؛ وهو ما دفع قيادة قوات التحالف ضد “داعش” للقول إنها غيّرت مهمة العمليات في العراق من مساعدة الأعمال الحربية إلى تثبيت النصر العسكري ضد التنظيم الإرهابي، بيد أن التحالف قد اعتبر أن الانتصار في الموصل سرّع في الانتصارات اللاحقة ضد تنظيم “داعش” وأنه خسر 98 في المئة من الأراضي التي كان يسيطر عليها(4).
وعلى الجبهة السورية، من الواضح أن عناصر “داعش” لقوا ما لقيه إخوانهم في العراق،وفرغ بالون التنظيم الأسود من الهواء سريعًا في سوريا، كما حدث في العراق؛ إذ انهار المقر الخاص بمدينة تقع على مقربة من البوابة الغربية لمدينة الرقة السورية وذلك نتيجة للقصف.(5)
2- التأهيل
من الجلي أن التأهيل المجتمعي والنفسي من أخطر التحديات التي يواجهها أي مجتمع يتخلص من بقايا تنظيم إرهابي، فإعادة الإعمار للمناطق المحررة لا تتطلب الالتفات إلى البنى التحتية فحسب، إنما الأهم هو “تأهيل المواطن”.
وبات واضحًا أن تنظيم “داعش” قد سيطر – بفكره العقيم – على عقول ونفوس عدد كبير من مواطني البلاد التي ظهر فيها، وهو ما يستدعي – بالضرورة – خلق حالة من إعادة التأهيل والدمج المجتمعي لهؤلاء – رجالاً كانوا أم نساء – والعمل على محو تلك الأفكار وزرع قيم التسامح والانتماء للدولة بمؤسساتها وتقبل الآخر. ولا شك أن الفترة السوداء لـ”داعش” قد خلفت مزيدًا من التوتر والانقسام وتكريس الطائفية، وهو ما يتطلب تفعيل الحوار بين جميع الأطراف والأطياف في تلك الدول، فضلاً عن إزاحة مخاوف الأقليات، كالأكراد، ومحاولة إيجاد حل لمشكلاتهم.(6)
ولعل ما قاله رئيس الحكومة العراقي، حيدر العبادي، حول ملامح مرحلة ما بعد “داعش”، وتأكيده أنها ستركز على إعادة النازحين وإعمار المناطق المحررة، ربَّما يبرز غياب التخطيط لتأهيل المواطن جنبًا إلى جنب مع إعادة إعمار المناطق المحررة.(7)
وبالانتقال إلى آليات التأهيل، سنجد أنه من أهمها المصالحة التي يجب تطبيقها مع العناصر التي لم تتورط في القتل، أو التخريب، ولم تحمل السلاح، فلربَّما يوجد من غُرِّر بهم وبفكرهم للانضواء تحت أجنحة ذلك التنظيم، فضلاً عن العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تورط في جرائم أضرت بالمجتمع وأدت إلى تخريبه.
3- مراكز استباقية
الخطوات الاستباقية من الأضلاع الهامة لعمليات الهزائم العسكرية والتخلص من الجماعات المسلحة. فانسحاب الولايات المتحدة من العراق، قد أوجد فراغًا استغله “داعش” في الظهور، فهنا كانت النظرة الاستباقية غائبة؛ مما أوجد بيئة خصبة احتضنت “داعش” في ظهوره، فلا مفرَّ للدول التي ستتحرر من التنظيم من ضرورة إنشاء مراكز استباقية لمواجهة ذلك الفكر التكفيري والتحريضي، ومنع ظهور جماعات تحمل أفكارًا وتصرفات مماثلة. فمن الممكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء مراكز لمواجهة الفكر المتطرف تختص بتجميع المعلومات حول من انتموا إلى ذلك التنظيم لمتابعة نشاطهم بعد ذلك، وضمان عدم استقطابهم مرة أخرى، بالإضافة إلى تجميع معلومات – أيضًا – حول من يشتبه فيهم، أو يتوقع انضمامهم إلى تلك التنظيمات.
توقعات وسيناريوهات مستقبلية
عندما يكون المشهد غامضًا يصبح أسلوب السيناريوهات هو الأسلوب الأمثل في التنبؤ بالمستقبل، وفي تلك الحالة يمكننا وضع عدة سيناريوهات للتنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في مرحلة ما بعد “داعش”، فمن الممكن أن يلتقط التنظيم أنفاسه مرة أخرى ويستمر – لكن بقوة أقل -. ومن الممكن – أيضًا – أن تتم هزيمته ودحره نهائيًا، ومن المحتمل – أيضًا – ظهور جماعات مماثلة.
1- الاستمرار.. لكن بقوة أقل
مثلما يثار الحديث حول تقهقر “داعش” بعد دحره في العراق، يثار حديث – أيضًا – عن كون ذلك ضربًا من التهويل، وأن التنظيم ما زال محتفظًا ببعض من القوة؛ وهو ما نستدل عليه من حديث القائد في جهاز مكافحة الإرهاب، الفريق عبدالوهاب الساعدي، وتأكيده على فرار عناصر من التنظيم، خاصة من العراقيين، خلال عمليات نزوح المدنيين، وقوله :”ربَّما تمكن جزء من الدواعش من الهرب حينذاك”، أمَّا السلاح، فربَّما لا يزال لديهم بعض المخابئ والأنفاق، فقد سيطروا على مساحات واسعة من البلاد لفترة غير قليلة. ليس هذا فحسب، فرئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري،، رأى أن ما تبقى من مجموعات تابعة لـ”داعش” قد كثفت عملياتها لإضافة المزيد من الإرباك للوضع الداخلي المتوتر جراء التجاذبات التي تشهدها الساحة العراقية منذ الانتخابات التشريعية.
فـ”داعش” – كباقي أقرانه من الجماعات الجهادية – لديه أسلوب يعتمد على الكمون، ثم المواجهة، فمن الممكن أن يكون “داعش” في مرحلة الكمون حاليًا، وقد يعتمد على العناصر الفارة لإحياء تنظيمه البالي مرة أخرى.
2- القضاء على التنظيم نهائيًا
مثلما أعلنت العراق القضاء على “داعش”، أعلن الجيش السوري ذلك – أيضًا – في نهاية عام 2017، فالجيش السوري أكد السيطرة على كامل مدينة البوكمال الواقعة قرب الحدود العراقية، التي كانت تعد آخر مدينة يسيطر عليها تنظيم “داعش”، ولعل ما جاء في بيانه يؤكد – أيضًا – إعلان تحرير المدينة وسقوط آخر معاقل التنظيم بعد معارك عنيفة، الأمر الذي يكتسب أهمية في كونه إعلانًا لـ”سقوط مشروع تنظيم داعش الإرهابي” في المنطقة.(8)
وإذا ما حدث ذلك السيناريو، يجب انسحاب قوات التحالف من تلك الأماكن – بعد تأهيلها لعدم تكرار ما حدث بالعراق – ومن ثَمَّ تصبح تلك البلاد مطالبة بتحقيق ما ذكرناه آنفًا حول ضرورة تطبيق ما بعد الهزيمة العسكرية من تأهيل مواطنيها، وإعادة إعمار بنيتها التحتية، وإنشاء مراكز استباقية لمنع ظهور جماعات مماثلة.
3-ظهور جماعات مماثلة
عندما تسود الأفكار التكفيرية الهدامة في أي مجتمع، يصبح من الصعب اجتثاثها، وخاصة في المجتمعين العراقي والسوري المتأصل بهما الطائفية والعشائرية. فإذا ما تمَّ القضاء على “داعش”، فمن المحتمل أن يتكاتف كل الفارين والنازحين منها لإنشاء تنظيم آخر. ومن المحتمل – أيضًا – ظهور جماعات مماثلة لتنظيم “داعش”، خاصة إذا لم تنتبه حكومات تلك الدول لضرورة تطهير المجتمع من تلك الأفكار والعناصر الشاردة بعد دحر “داعش” عسكريًا.
المراجع
1- قيادات عراقية: داعش انتهى للأبد رغم محاولات التهويل، مصراوي.
2- رؤية.. ما بعد داعش، شفق نيوز.
3- ما بعد داعش في الشرق الأوسط: المخاطر والتحديات، الشروق.
4- بعد هزيمة داعش.. قيادة التحالف تغير مهمتها في العراق، العربية.نت.
5- ما بعد “داعش” في سوريا، الشرق الأوسط.
6- التأهيل المجتمعي للمناطق المحررة في العراق ما بعد داعش، شبكة النبأ.
7- ملامح مرحلة ما بعد “داعش” في العراق، روسيا اليوم.
8- هزيمة داعش في آخر مدينة يسيطر عليها بسوريا، سكاي نيوز عربية.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر