الصحافة الورقية: هل التحدي إقليمي أم دولي؟.. وهل يمكن للمحتوى إنقاذ المؤسسات الصحافية؟ | مركز سمت للدراسات

الصحافة الورقية: هل التحدي إقليمي أم دولي؟.. وهل يمكن للمحتوى إنقاذ المؤسسات الصحافية؟

التاريخ والوقت : الأحد, 21 يناير 2018

عبدالله الذبياني

الحديث عن مستقبل الصحافة الورقية لم يتوقف منذ عقد من الزمن تقريبًا، ربَّما أقل قليلاً، وذلك مع تطور الإعلام الجديد واتساع نطاق استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. غير أن هذا الحديث تطور الآن هنا في المملكة العربية السعودية بصورة لافتة بعد المقال الذي كتبه الأستاذ خالد المالك، رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، الذي وجه من خلاله نداء للحكومة بضرورة النظر في وضع الصحف الورقية ودعمها.
على خلفية ذلك، ظهرت عدة طروحات (آراء) من عديد من كتاب صفحات الرأي في الصحف الورقية، معظمها تتفق على ضرورة النظر بعين الاعتبار والمسؤولية لوضع الصحافة الورقية أو المؤسسات الصحافية بصورة أوسع؛ لأنه هذه المؤسسات تؤدي أدوارًا وطنية مهمة في هذه المرحلة، وأدت لا شك فيما مضى أدوارًا وطنية هامة.

لكن علينا أن نسأل في البداية: هل ما تواجه الصحافة المطبوعة (الصحف الورقية) هو تحد خاص لدينا، أم هو تحد على مستوى العالم؟ إذا كنا نعتقد أن التحديات التي تواجهها الصحافة هي خاصة بنا، فعلينا أن نقبل بالمناقشة في أي حل يطرحه كتّاب أو خبراء أو بيوت خبرة. أمَّا إذا كنا نعتقد فعلاً أن التحدي عالمي يواجه هذه الصناعة في العالم بشكل عام، فلا بد أن تخرج الأفكار المساقة في هذا الصدد من الحلول التقليدية التي تتمثل وترتكز في معظمها في اتجاه التدخل الحكومي بحيث ينظر إلى هذه المؤسسات باعتبارها مؤسسات وطنية، وبالتالي فإن إنقاذها مسؤولية حكومية.
وبالطبع، فأي متبع لتطور الإعلام يعرف جيدًا أن التحديات التي تواجه الصحافة الورقية تتعلق بالصناعة نفسها في العالم ولا تخص منطقة دون أخرى، ترتبط بالدرجة الأولى بتطورات تقنيات الإعلام وظهور أجيال جديدة ترتبط بدرجة أعلى بالأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي على حساب الوسائل التقليدية بما فيها الصحف المطبوعة.

وحتى نقف على مسافة أقرب من هذا التحدي، سنورد هنا آراء بعض خبراء الإعلام أو المختصين في مناطق مختلفة من العالم، حول واقع الصحافة الورقية اليوم، بما يرجح الرؤية بأن التحدي عالمي وليس مناطقيًا. حيث يعتقد الخبير الإعلامي روس داوسن، أن الصحافة الورقية ستنتهي بحلول عام 2040. ويقول فيليب ماير مؤلِّف كتاب “النهاية الحتمية للإعلام الورقي”، أن آخر مطبوع ورقي سيصدر عام 2043.
ويشير الخبير الفرنسي في مجال الإعلام برنار بوليه، الذي ألف كتابًا بعنوان “نهاية الصحف ومستقبل الإعلام”، إلى وجود عوامل عدة تشكّل خطرًا على الصحف، في مقدمتها تزايد سلطة الإنترنت وتراجع إيرادات الإعلان، إضافة إلى عدم اهتمام الجيل الجديد بالصحف المطبوعة، فضلاً عن انتصار ثقافة المعلومة المجانية. روبرت ميردوخ، يقول إن الصحف الورقية في طريقها إلى الانقراض، لكنها ستحتاج إلى أكثر من خمسة عشر عامًا لتسقط من حسابات القراء.


هذه رؤى غربية، قصدنا أن نوردها دون آراء الإعلاميين العرب، في إطار التأكيد أن المخاطر التي تواجه الصحافة الورقية تشكل هاجسًا في دول لديها صحف ورقية عريقة كانت تبيع بعضها نسخًا تقارب المليون نسخة، وربَّما أكثر، لصحف معينة في بعض الدول.
وربَّما من نافلة القول، سرد بعض الصحف العريقة في أوروبا التي أعادت هيكلة وجودها إمَّا بإغلاق نسختها الورقية نهائيًا، أو بتقليص المطبوع منها، مقابل إحداث تطويرات في مواقعها الإلكترونية وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذه المقدمة، تشير إلى أن الصحافة الورقية تقترب من مصير حتمي يفرضه واقع التطور في الإعلام الجديد والواقع الذي نشأ من جراء ذلك والمتمثل في المواطن الصحفي Citizen journalist، حيث بات الشخص صانعًا ونقالاً للأخبار بدل تلقيها أو ترقبها.
في ظل ذلك، ما الذي يبقى أن نقوله: هل من المجدي البحث عن دعم حكومي للصحف الورقية هنا، أو في أي دولة؟ هل لدى الحكومات استعداد لتقديم الدعم؟ وما النتائج التي تتوقعها في حال قدمت الدعم؟ هل ترى الحكومات أن الدعم الذي قد تقدمه للصحف الورقية يمكنها تقديمه لوسائل إعلامية أخرى بما فيها (المواطن الصحفي) مقابل الحصول على نتائج أسرع بتكلفة أقل؟
هل الأوضاع الاقتصادية في المنطقة تسمح بتوجيه جزء من إيرادات الدولة لدعم المؤسسات الصحافية (الصحافة الورقية)؟ كل هذه العوامل لا تجعلنا نفكر في طريقة خروج الصحف من مأزقها، لكن علينا ألا ننتظر حلاً حكوميًا قد لا يأتي، وقد يأتي بعد فوات الأوان.
أيضًا، وكوننا نوقن، أو علينا أن نوقن أن هذه التحديات تتعلق بالصناعة نفسها وآليات عرض المحتوى، فعلينا ألا نراهن كثيرًا أو نستكين بأن تطوير المحتوى مع الإبقاء على نفس الوسيلة (الورق) سيشكل حلاً للإنقاذ, الأمر لم يعد له علاقة بالمحتوى، بل بالوسيلة التي تصل للقارئ… (المحتوى هو الملك Content is king) لا الشكل كما تعلمنا في مدارس الإعلام، لكنه ليس المشكلة الآن.. حتى لو تحسن المحتوى وتطور وبقية الوسيلة كما هي، الأمر لن يكون أكثر من جهد مقدر، لكنه غير ذي نفع، طالما يمكن الوصول لهذا المحتوى بوسيلة أسرع وبتكلفة أقل، وربَّما مجانًا.


كنت كتبت لصالح صحيفة الرؤية الإماراتية هذا الرأي:
لا يمكن أن يركن القائمون على المؤسسات الإعلامية في العالم، وتحديدًا هنا في الخليج، وتحديدًا الصحافة الورقية، إلى التحديات التي تواجهها الصناعة بشيء من التراخي، ثم يتوقعون نجاتهم وعبورهم لشاطئ الأمان.
القضية لم تعد سباقًا على جودة المحتوى ولا إبداعات المخرجين، وتملك الأدوات البشرية والفنية الكفيلة بإخراج منتج ورقي يلبي طلبات المستهلكين (القراء)، التحديات تخطت ذلك وأصبحت في قلب الصناعة نفسها وفي كل أركانها، إنها تتعلق بنهاية السلعة نفسها (الورق) أو الاقتراب من نهايتها، واستبدالها بمنتج يوفر التغذية نفسها التي كان يوفرها الورق، وبآليات أكثر يسرًا وأقل سعرًا .. أن تبيع محتوى في ورق، فهو مرحلة اقتربت من نهايتها، ولنا في أعرق الصحف العالمية خير دليل. فصحف كانت تبيع نسخًا تتخطى حاجز المليون باتت تعاني، بعضها حوّل استثماراته للعالم الافتراضي (ويب سايت)، وبعضها ما زال يقاوم، ربَّما يعتقد بوجود شمعة في آخر النفق تعيد للورق وهجه وسطوته.
لكن هل الحل هو: إغلاق الصحف (المؤسسات)، أم استجداء الحكومات لدعمها، أم الاستناد إلى إعلانات مؤسسات القطاع الخاص لضمان الحد الأدنى من الإيرادات، أم البحث عن حل خارج هذه الخيارات؟
ربما الحل الأسهل هو الإغلاق، لكنه دواء بمرارة السم، فالصحف تظل منبرًا ثقافيًا في كثير من مهامها ومسؤولياتها، ومثل هذا الحل يعني إغلاق نافذة ثقافية. ويبقى انتظار الدعم الحكومي، فهل سيحدث؟ لدينا في الخليج مثلاً، قد يأتي هذا الحل وتتدخل الحكومات في مرحلة، لكنه لن يستمر طويلاً، ولذلك أسباب عدة، أولها تغيّر أولويات الدعم في دول الخليج، فليس من المنطق الاقتصادي أن ترفع الحكومات أسعار الطاقة لعامة الشعب، وتدفع دعمًا لمؤسسات صحافية من المؤكد أنها ستكون خارج قطار المستقبل، ثم إن صناعة الرأي العام الذي كانت تؤديه الصحف الورقية، وتستند إليها الحكومات في تكوينه لدعم قراراتها السياسية أو التنموية، باتت هناك قنوات أخرى تؤديه وهي أكثر فاعلية وأكثر تأثيرًا، وربَّما أقل تكلفة مالية على الحكومات، وهذا يستبعد الدعم المتوقع أو المرجو من الحكومات للصحف الورقية.
الخيار الثاني، وهو الاستناد إلى إعلانات القطاع الخاص، أظن الأمر في هذا الخيار أكثر حسمًا من سابقه، فأرقام الإعلانات التي ترصدها الشركات المتخصصة، تشير إلى تقلص حصة الصحافة الورقية من الإعلانات على حساب قنوات أخرى، من بينها الحسابات الشخصية (حسابات الأفراد) على مواقع التواصل الاجتماعي؛ أي أن المنافسة لم تعد تقتصر على وسائل إعلام أو مؤسسات، بل دخل في المنافسة الأفراد. ولنا أن نتخيل حين ينافس ألوف أو ملايين، مئات الصحف الورقية، الكثرة هنا لا شك ستحسم الموقف، لعدة معطيات نعرفها جميعًا، بينها سرعة الانتشار والوصول لهذه الحسابات. فمؤسسات وشركات القطاع الخاص والمستثمرون، في الأغلب سيبحثون عمن يصل للمستهلكين والمستهدفين بشكل عام بصورة أسرع ونطاق أوسع. زد على ذلك، أن إعلانات القطاع الخاص تتأثر مباشرة بالأوضاع الاقتصادية السائدة في المنطقة، وهي في فترة تقلُّص حاليًا، وبالتالي ما هي إلا فترة محدودة حتى نجد القطاع الخاص لا يضع الصحف الورقية في توزيعات ميزانية الإعلانات .. نعم هو قريب جدًا ذلك اليوم.
قلنا الإغلاق ليس حلاً مثاليًا للصحف الورقية، والحكومات لن تدعم الصحف أكثر مما مضى، وإعلانات القطاع الخاص ليس فيها طوق النجاة.


إذن: ما الحل؟
أعتقد أنه إن كان ثمة شمعة في آخر النفق بالنسبة للصحافة الورقية، فهي العلامات التجارية التي تكونت لديها (كل صحيفة على حدة). على ملاك الصحف ومجالس الإدارة في المؤسسات التي تملكها، أن تنظر للصحيفة كمنتج يملك علامة تجارية، وليس ورقًا تنشر عليه الأخبار والأحداث.
على الصحف العريقة أن تستند إلى علاماتها التجارية وتبيع المحتوى وفقًا لهذه العلامات وليس الورق. نعم، تتغير الأداة ويبقى المنتج هو المحتوى وليس الورق. ماذا لو استندت بعض الصحف أو صحيفة على علامتها والموثوقية التي صنعتها على مدى 70 عامًا مثلاً أو أكثر، وعززت وجودها في فضاء الإنترنت وحسابات التواصل الاجتماعي، كقارئ – والأغلبية يتفقون في ذلك – ستكون ثقتي في مصداقية ما تبثه وتنقله أكثر مما لو وجدت الخبر نفسه في صحيفة حديثة ولدت على (الويب سايت) أو حساب شخصي على مواقع التواصل الاجتماعي.
خلاصة القول: العلامة التجارية التي تملكها بعض الصحف في المنطقة (وهي السمعة والانتشار)، كفيلة بأن تحقق لها النجاح، بشرط أن تتخلص من سيطرة الورق على ملاكها.
فليتذكر القائمون على الصحف الورقية دائمًا: إنهم يبيعون محتوى وليس ورقًا. ربَّما ينتهي الورق، لكن المحتوى باقٍ، وهو ما يبحث عنه القراء.

كاتب وباحث سعودي*
@abdullah_athe

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر