سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عبدالرحمن كمال
أخيراً، وبعد ترقب وانتظار، تولى دونالد ترمب مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة بشكل رسمي، في حفل تنصيب، كان محفوفاً بالتظاهرات الرافضة للرجل منذ يومه الأول في البيت الأبيض، وهي تظاهرات لم تكن في واشنطن أو في الولايات المتحدة فقط، بل شملت كافة أرجاء العالم، ووصل عددها 600 مسيرة احتجاجية وفقا لـ”BBC”.
منذ الإعلان عن فوز ترمب المثير على مرشحة المؤسسة الأمريكية الحاكمة هيلاري كلينتون، والتكهنات لا تنضب والتحليلات لا تتوقف حول مصير أمريكا والعالم طوال السنوات الأربعة المقبلة. بعض التحليلات -أو الأمنيات- شطحت بعيداً ناحية الإطاحة بترمب والحيلولة دون إتمامه سنوات رئاسته الأربعة.
ورغم التكهنات والتحليلات، إلا أن خيارات ترمب لفريق عمله أكدت أنه سيلتزم بكل ما لفظ به خلال حملته الانتخابية، فالرجل أحاط نفسه بمجموعة لا تجاريه في أفكاره ومعتقداته فقط، بل تفوقه أضعاف وأضعاف، وتمتاز عليه بكونها عقولا مفكرة وعيوناً قارئة تمتلك النية لتنفيذ ما تؤمن به مهما كان شاذاً.
من زاوية أخرى، فإننا نرى ترمب هو الرئيس الأنسب للولايات المتحدة الأمريكية، ومن هذا المنطلق لم نراهن على هيلاري كلينتون التي اكتسحت كل استطلاعات الرأي قبل انتخابات الرئاسة في نوفمبر الماضي، والأمر لم يكن ضرباً للودع أو درباً من الخيال، بل كان اعتقاداً بفكرة واحدة هي أن أفول الامبراطورية الأمريكية يحتاج لشخص مثل ترمب، وكل الظروف كانت تؤكد ذلك.
أفول أمريكا ليس مجرد كلمة تلوكها ألسنة الكارهين لها، أو أضغاث أحلام للعاجزين من أبناء عالمنا الثالث، ولكنها سنة كونية وناموس تاريخي ينتظر الامبراطورية الأكثر ارتكاباً للشر في التاريخ.
جاء ترمب ليؤكد صحة نظرية أفول أمريكا، ولعل هذا هو ما يقلق المؤسسة الحاكمة في أمريكا، إذ أنها تخشى انهيار نظامها الذي أسسته منذ سنوات طوال، قبل حتى الحرب العالمية الأولى.
بالنظر للظرف التاريخي للولايات المتحدة، سنجد أن ترمب هو الرئيس الأنسب لأمريكا الحالية، والتعبير الأصدق عن حضارتها المتدنية وقيمها المدنية العنصرية، ومن هنا، جاء اكتساحه لنتيجة الانتخابات الرئاسية، فالرجل أعاد إلى أذهان الناخب الأمريكي أمجاد أبطاله الأوائل، ولعب على وتر مشابه جدا لوتر الحكام المستبدين في عالمنا الثالث، واستغل حالة التيه التي استشرت في الوجدان الشعبي الأمريكي بسبب انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي عصب الحياة للنموذج الأمريكي.
بنظرة سريعة إلى تواريخ نشوء وانهيار الامبراطوريات، سنجد أن الفترة السابقة لما يمكن تسميته “عصر الاضمحلال” يتولى الحكم فيها أولئك الذين يمتازون بأصوات عالية وعقول شبه خالية، لا يملكون خطة واضحة لما وجدوا أنفسهم فيه.
على مر تاريخ أمريكا القصير، توالى على حكمها رؤساء يملكون قدراً كافياً من الحنكة السياسية والثقافة والإطلاع والالتزام الديني، لا نقول ذلك دفاعا عنهم، ففي رأينا، كل رؤساء أمريكا مجرد حفنة من مجرمي الحرب، من جروج واشنطن إلى باراك أوباما، قتلوا المستضعفين وناصروا المستبدين، لكن منصب الرئيس الأمريكي كان مرتهناً دوماً بما يمكن تسميته “عدو عاقل”.
أفرزت أمريكا على مدار تاريخها رؤساء علماء ورجال قانون وخريجي جامعات ومثقفين، بل وحتى ممثلين فاشلين، لكنها وللمرة الأولى تقدم لنا نموذجاً مثل ترمب، الذي يعد أفضل تعبير لما في جعبة أمريكا كي تقدمه للعالم.
إن مخاوف المؤسسة الحاكمة من ترامب في محلها بشكل كبير، والحملات الإعلامية الممنهجة التي تشنها المؤسسات الإعلامية الكبرى والمملوكة لهذه المؤسسة الحاكمة، تبدو منطقية بدرجة كبيرة، كما أن العقول الأمريكية التي يشار لها بالبنان مثل نعوم تشومسكي، أو تلك المتنفذة داخل أروقة الحكم مثل هنري كسينجر، بل وحتى الرؤساء السابقين لترمب مثل أوباما، كلها تقول بإن ترمب سيعزل أمريكا عن دورها الامبراطوري، إذا نفذ ما أعلن عنه خلال حملته الانتخابية من عداء للعرب والمسلمين وإيران والمكسيك والصين، والتماهي مع العدو اللدود روسيا.
فريد زكريا، المحلل السياسي وصاحب كتاب “عالم ما بعد أمريكا”، قال إن هناك عددا من التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترمب، خلال حملته الانتخابية دفعت بالعديد من الدول والحلفاء للقلق من دور أمريكا المستقبلي.
زكريا، مقدم برنامج GPS على شبكة CNN أحد معاقل المؤسسة الحاكمة، قال أيضا “ما اقرأه وأسمعه من أشخاص خارج أمريكا يتخلص في قلق يتمثل بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الحافظة والضامنة للنظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنذ مساعدة أمريكا وقيادتها لتحالف وهزم الفاشية في أوروبا، ومنذ حينها تشكل نظام عالمي كانت أمريكا الضامنة والمحافظة عليه من خلال سياساتها الخارجية ونواياها وطريقة تعاملها.”
وأضاف: “ترمب يبدو بعيدا عن هذا (النظام العالمي) وقال العديد من الأمور التي تقترح أن من الأفضل لكل دولة التصرف على عاتقها وهذا ما يقلق حلفاءنا في أوروبا وآسيا.”
وتابع زكريا قائلا: “بالفعل هذه التصريحات تثير الرعب في أوروبا الشرقية، حيث يرون أن أمنهم هزّ، والعديد من الحلفاء الآخرين لأنهم يتساءلون عن مصير السلام العالمي الذي يرتكز بصورة كبيرة على سياسيات الولايات المتحدة الأمريكية على مر 75 عاما، فهل هذه الأمور مهددة حقا؟ لا أحد يعلم بالضبط.”
والقى زكريا الضوء على أهمية “أن يبعث ترمب برسائل طمأنة وخصوصا في حالة الشك وعدم اليقين الحالية، وإذا كان الموضوع يتعلق فقط بأن على الحلفاء دفع المزيد من الأموال فإنه سيفعل كما فعل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، ولكون المخاوف الكبرى بشكل عام تتلخص في أن هل هذا الشخص (ترمب) يؤمن بدور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم؟”
هذا هو مربط الفرس
في كتابه القيم “نشوء وسقوط القوى العظمى” قال بول كيندي، إن الامبراطوريات والقوى العظمى يحدد عمرها عبر اختبارين: “إذا كانت تستطيع من الناحيتين العسكرية والاستراتيجية أن تحتفظ بتوازن معقول بين متطلبات الأمة الدفاعية والوسائل التي بين أيديها للوفاء بهذه الالتزامات، وما إذا كان بوسعها أن تصون قواعدها التكنولوجية والاقتصادية لقوتها من التآكل النسبي بوجه أنماط الإنتاج العالمي الدائمة التغير”.
الكتاب الذي توقع انهيار الاتحاد السوفيتي وبزوغ نجم ألمانيا واليابان وأوروبا والصين اقتصاديا وصناعيا وعسكريا، أقر أيضا بأن أمريكا تعاني من انحطاط اقتصادي وعسكري نسبيا، سوف يؤثران في مكانتها العالمية في المستقبل (الكتاب صادر في 1987).
صحيح أن الامبراطورية الأمريكية استفادت كثيرا من أسباب انهيار الاميراطوريات التاريخية السابقة، لكن مساعي ترمب للاهتمام بأمريكا فقط، ومطالبته حلفائها بالاعتماد على أنفسهم، أو دفع ثمن حماية أمريكا لهم، وإقحام أمريكا في خلافات مع شركاء آخرين، سيكون له أثر سلبي على دور أمريكا الامبراطوري، الذي سيتناقص بشكل كبير، ولن يشفع له صعود اليمين المتطرف في أوروبا، بل سيكون وبالا عليه.
إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتولي أشباه ترمب زمام الحكم في بلاد حليفة لأمريكا، لا يعني مطلقا تماهيها مع ترمب، وهو ما كشفته تصريحات تيريزا ماي رئيس وزراء بريطانيا، التي قالت أنها سترد بالمثل على ترمب ولن تقبل التطاول على بلدها، ما يعني أن النظام العالمي حاليا أشبه بتلك الفترة عاشتها أوروبا بين عامي 1519 و 1659 وكذلك فترة ضعف الدولة العثمانية، حيث ستشهد تكالبا على تركة أمريكا التي تنسحب من دورها شيئا فشيئا.
قد يراهن البعض على كون ترمب رجل أعمال، وبالتالي لا يعرف سوى لغة الصفقات، لكن نسب نجاح هذا الرهان قريبة من نسب نجاح هيلاري كلينتون بالانتخابات، والتي توقعنا ضعفها رغم بهرج استطلاعات الرأي.
قد تجدي صفقات ترمب مع الدول العربية، لكنها لن تجد آذاناً صاغية عند حلفائه الأوربيين الذين سيأخذون منحى قريب من أمريكا، من حيث الاحتكام للشعبوية واليمين المتطرف، ما يعني دخولهم حلبة الصراع ضد أمريكا ولو بشكل غير علني.
“لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”.. كان هذا هو الشعار الذي اتخذه ترمب في حملته، لكن ما نراه هو أن أمريكا مقبلة على ضعف أكبر مما تعانيه، قد يرحمها منه -أو يؤجله إذا شئنا الدقة تماهي ترمب مع المؤسسة الحاكمة، أو تقليم أظافره في أحسن الأحوال، أو الإطاحة به في أضعف الإيمان، وهو إن حصل، سيعني ضربة قاتلة للديمقراطية، الفخر الذي يتزين به النموذج الأمريكي المتداعي.
صحفي وكاتب مصري *
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر